الشباب العربي.. المارد عندما يتحرر

هدى سيد


تُعَدُّ ثورات الشباب العربي المفاجأة التي أذهلت العالم كله, فلم يكن أحدٌ يتوقع أن تهب الشعوب المستكينة المستضعفة من سباتها العميق وتعترض حتى على من يسوسها، لا أن تثور عليهم وعلى أنظمة حكمهم المستبدة، وتُسقط العروش التي دامت عقودًا مديدة جاثمة على صدورهم، وسالبة لحرياتهم ومقدرات وجودهم وحياتهم الكريمة. وإن كانت هذه الثورات تعلن أنها شعبية وسلمية وتنادي بالحرية، إلا أن من أطلق شرارتها ورفع رايتها وأضاء بدمائه شعلتها كانوا هم الشباب اللذين انطبعت عنهم في السنوات الأخيرة الصفات السلبية، وصورتهم ضائعين وتائهين وفاقدين الهوية والانتماء وحب الأوطان, وفي الشهور القليلة الماضية أسقطت الأحداث جميع الاتهامات السابقة عنهم.
تحرر المارد

في البداية يتساءل د. رشاد لاشين (استشاري تربوي): لماذا يثور الإنسان؟ ويجيب عندما تعاق الحرية وتخطف الإرادة. وكما قال الإمام الشافعي (من استُغضب ولم يغضب فليس بإنسان)، فكل شيء في بلادنا تمت سرقته، وأولها سلب الإرادة والحرية من الشعوب، وهذا يعدُّ بحق أبشع جريمة في التاريخ، ولهذا كان يجب أن نثور عليها، متذكرين قول الزعيم مصطفى كامل: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، ومن قبله الحديث الشريف: (وأعظم الجهاد عند الله تعالى كلمة حق عند سلطان جائر)، وهذا مفهوم يجب أن نعلِّمه لأبنائنا وشبابنا، وقدوتنا في ذلك سيد الشهداء حمزة، الذي استشهد دفاعًا عن عقيدته، والذي قيل عنه وعمن يقول كلمة الحق أمام الحاكم الظالم: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه، فقتله).
ويضيف: هذا ما انتهجه بعض الحكام العرب من فصل الدين عن حياة الناس، والعدوان على كل الرموز الإسلامية، والتي تدعو إلى الإصلاح، بالإضافة إلى العدوان السياسي على حرية الشعوب، والعدوان الاجتماعي الذي تمثَّل في الفجوة الهائلة بين طبقات المجتمع، فما بين فقر مدقع تمثله الأغلبية، وما بين ثراء فاحش استأثرت به فئة محدودة لا تتعدى 10 % من تعداد السكان في تلك البلاد، وهذا نتيجة العدوان الاقتصادي على مقدرات تلك الشعوب وأسباب معيشتهم، وتقريب بعض الفئات الغير صالحة، واستبعاد ذوي الكفاءات والخبرات، وما علموا أن سر نجاح الغرب هو توظيف الأكفأ، الذي يقود البلاد إلى التقدم والرخاء.
ويقول: ولهذا تحركت تلك الشعوب الصامدة، وكما قال اللورد كرومر: (الشعب المصري كالرمال، يمكنك أن تصول وتجول فوقه دون حراك، ولكن ما أن تهب العاصفة حتى تطيح بمن فوقها)، وهي الآن كالمارد الذي أفاق من غيبوبته، وانطلق محطمًا كل القيود، ومتخطيًا كل العقبات، على حين غفلة ممن حكموه.
بركان الغضب
في حين توضح أ. نور الهدى سعد (رئيس تحرير مجلة الزهور): "أنَّ الصورة الذهنية السلبية التي تكونت عن الشباب لم تأت من فراغ، فالإعلام العربي كان يكرس هذه الصورة من خلال المسلسلات والأعمال التي أدت إلى هذه النتائج، والتي صورت الشباب أنه بلا هدف ولا هوية، ويجمِّل له العلاقات المحرمة بين الجنسين، ويوهمه بأن المجتمع يقرها، مما جعل صورتهم أمام أنفسهم وأمام الآخرين غاية في السلبية وانعدام الأخلاق والقيم، وتغلغلت بداخلهم عدم الثقة بالنفس والشعور بالضياع وعدم الانتماء، وانغماسهم في عالم الإدمان والتيه، وهذا بالفعل عين ما كانت تصبو إليه الأنظمة الحاكمة، التي سقطت، والتي كانت تحارب الملتزمين وتقمعهم أمنيًّا".
وتضيف: وإذا كان الهدف الأول لتلك الثورات كان تنحية النظم الحاكمة المستبدة، إلا أن هذه المطالب كالقاطرة التي بدأت خطوة أولى، ولابد أن تستمر وتزود بالوقود، وهو استمرار تلك الروح الثائرة، وإعطاء الثقة فيمن يتولى أمور البلاد، ولو بشكل مؤقت، والبعد عن محاولات التخوين، وإعطاء الفرصة لهؤلاء الشباب، لأنهم القوة الدافعة للمجتمع. وكما قال مصطفى صادق الرافعي: إن الشمس لا تضيء آخر النهار كما تضيء في أوله.
جيل الشباب مظلوم
ويقول د. رشاد علي (أستاذ علم النفس بكلية التربية جامعة الأزهر): "يوجد في العالم العربي منظومة غريبة الشكل في نظام الحكم مدى الحياة، وفي كثير من البلدان التي حولت الحكم من الملكية إلى الجمهورية، ولكن لم يوجد بينهما فرق كبير، فمصر منذ 30 عامًا يحكمها فرد واحد، أو عدة أفراد، وانحدروا بها إلى مستوًى متدنٍّ في كل النواحي، ولا شك أنه نظام حكم مستبد، أدى إلى مشاكل نعاني منها إلى الآن. فمهما كان الإنسان يتمتع بصفات طيبة وجيدة فإنه ما إن يحكم وتطول به فترة الحكم حتى تتغير لديه هذه الصفات، بل ويتسم بضدها، فظهرت المشكلات والفساد الذي امتد في كل نواحي الحياة؛ في السياسة والتجارة والتعليم والصحة، مما انعكس أثره أيضًا على سلوكيات الناس ومستوياتهم الاقتصادية والاجتماعية، واتسامهم بالسلبية واللامبالاة والأنا.
ولذلك كان من قصد النظام ألا يعد كوادر، أو يهيئ الفرصة للشباب كي يعيَ ويدرك ما يدور حوله، وتكون لديه القدرة على أن يمسك بزمام الأمور، أو يقرر مصيره ويدير مستقبله. ولذلك فإن المجتمع منذ 15 عامًا وهو على صفيح ساخن، ونشعر بعدم النضج، وأن مصر تتعرض لعمليات سلب ونهب منظَّمة، والأسعار ترتفع بشكل عشوائي، ويزداد الجشع، وعدم التوازن بين الدخول والأسعار، وارتفاع أسعار العقارات وتكاليف الحياة، فكان من الصعوبة بمكان زواج الشباب بسبب البطالة وانتشار البلطجة وأزمة الإسكان وفساد الحكم وتمركزه في يد قلة توجه المجتمع كما تشاء، فالاستعمار لم ينهب بلدنا كما فعل بعض الحكام".
خواء ثقافي
ويوضح د. رشاد أن الشباب العربي تعرض لعملية خواء ثقافي وفكري، بغرض تهميشه وتسطيح أفكاره، فعندما يصبح جُلُّ تفكيره في الكرة والأفلام الهابطة والمواقع الإباحية والإدمان، فمن أين تأتي له القوة أو حتى القدرة على التفكير السليم أو المشاركة الفعالة في نهضة وطنه وحمايته. ولكن يشاء الله تعالى ألا يضيع الشباب، وأن يفيق من سباته العميق، لينطلق محررًا البلاد والعباد من شرور الطغيان ومن قبضة الحكام الظالمين، وهذه هي طبيعة وسنة الحياة، فلا أحد من البشر يدوم، وهذا يدل على غفلة بل غباء بعض هؤلاء الحكام اللذين ظنوا أنهم مخلدون وباقون في مناصبهم إلى يوم الدين، فهم لا يقرؤون التاريخ في أغلب الأحوال، والبطانة الفاسدة التي تدور في فلكهم تعرض لهم صورًا وردية عن البلاد والرعية.
ويضيف: إذن لم يكن الشباب مستهترًا أو ليس لديه قدرة على تحمل المسئولية الاجتماعية، كما كنا نتوهم، فلابد أن نعطيه الفرصة الآن كي يعبر عن رأيه وعن نفسه، ونرحمه من الإعلام الفاسد، ومن الأغاني والأفلام الهابطة اللاأخلاقية، ومن ثم فإن تغيير شخصية الشباب العربي وجعله قادرًا على تحمل المسئولية أمر ليس صعبًا بأي حال من الأحوال، كما حدث في الثورات السابقة، على مدار تاريخنا، فثورة 52 للضباط الأحرار في مصر كان معظم من قام بها في الثلاثينات من عمرهم، وردُّ فعل الشباب يكون أقوى من الشيوخ، لأن الشباب يقترن بالثورة، وهم محتاجون إلى نوع من التوجيه والإعداد وتربية الكوادر الناجحة.
راية الحرية
وتقول أ. أسماء صقر (خبيرة تنمية بشرية): "لم يكن لديَّ فكرة عن الشباب أنه سلبي، فهناك جميع الأنواع والأطياف والفئات والاتجاهات، ولكن الشرارة التي انطلقت هي التي أحدثت التجمع والتغيير، كما حدث في الثورة الرومانية؛ عندما اجتمع أحد الزعماء بالناس، وفجأة هتف أحدهم بسقوطه، ومن ثم التف الجميع حوله، وقتل في هذا اليوم، وما زال هناك نفس تقسيم الشباب، فهناك كل الأنواع والفئات، ولكن ما إن رفع أحدهم راية إيجابية نحو التخلص من الظلم والقهر والبحث عن الحرية والكرامة والعدالة حتى اجتمع الناس حولها، لأنها كانت راية للخير والإيجابية".
وتؤكد على أن الروح التي سادت رغم جمالها ورونقها لابد من الاعتناء بها دائمًا؛ ببث روح الأمل والإيجابية، والتي لابد أن يرويها الشباب بالوعي والثقافة، فالمثقفون وخيرة الشباب، هم اللذين أشعلوا فتيل الثورة، ولابد من الدراية بالثقافة التاريخية والدينية والعلمية، وتجديد الروح دائمًا، ولذا فأفضل الأمم كانت الأمة الإسلامية، إلا أنها عندما فقدت الروح الإيمانية والثقافة والعلم، تأخرت عن ركب السيادة والتقدم، فلابد من العودة إلى الاعتناء الإيماني والثقافي والفكري والقيمي، حتى نحافظ على روح هذه الثورات التي حررت الشعوب من قهرٍ وظلمٍ امتدَّ لسنوات طويلة، وجثم على صدورهم لعقود مديدة.

 

 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين