لقمان الحكيم ووصاياه في القرآن الكريم

اسم لقمان:

قال القرطبي: هو لقمان بن باعوراء بن خاحور بن تارح، وهو آزر أبو إبراهيم. كذا نسبه محمد بن إسحاق، وقيل: هو لقمان بن عنقاء بن سدون، ذكره السهيلي.

قال وهب: كان ابن أخت أيوب، وقال مقاتل: ذكر أنه ابن خالة أيوب. (1)ـ

العصر الذي عاش فيه لقمان:

ذكر القرطبي في تفسيره، أن لقمان عاش ألف سنة، وأدركه داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام، فلما بعث قطع الفتوى، فقيل له ؟ فقال: ألا أكتفي إذ كُفيت(2) ـ

فلقمان كان في زمن بني إسرائيل الذين لا يرون التأهيل للقيادة إلا عن طريق المال، كما حكى الله عنهم قوله: أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ {البقرة:247}.

فقيادة التوحيد عندهم بالنسب والمال، وكان لقمان ذو نسب متواضع، ورزقه كفاف، ومع ذلك آتاه الله الحكمة وعلَّمه مما يشاء.

وعلى هذا فلقمان الحكيم يوجه مجتمعاً سيطرت عليه المادة، وتغلغلت في كل جوانبه، ولا ريب أنَّ ظهور الداعية بين قوم ماديين يُصوِّر لنا مَدَى الحاجة إلى ذلك الداعية، ومَدَى الجهد الذي يبذله.

صفات لقمان الحكيم الخلقية والخُلقية:

روى الطبري بسنده عن مجاهد قال: كان لقمان الحكيم عبداً حبشياً، غليظَ الشفتين، مُصفَّح القدمين، قاضياً على بني إسرائيل.

وروى عن خالد الربعي، قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً، فقال له مولاه: اذبحْ لنا هذه الشاة، فذبحها، قال: أخرج أطيب مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب. ثم مكث ما شاء الله، ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة، فذبحها، فقال: أخرج أخبث مضغتين فيها، فأخرج اللسان والقلب. فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها، فأخرجتهما، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها، فأخرجتهما، فقال له لقمان: ( إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا) (3).

وفي السنة المطهرة ما يؤيد هذه الحكمة، فقد روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير قال صلى الله عليه وسلم: (... ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ).

وروي عن قيس بن عمرو قال: كان لقمان عبداً أسود غليظ الشفتين، مُصفَّح القدمين فأتاه رجل، وهو في مجلس أناس يحدثهم، فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم. قال: فما بلغ منك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني(4).

وقال ابن كثير: قال قتادة، عن عبد الله بن الزبير، قلت لجابر بن عبد الله: ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال: كان فقيراً، أفطس الأنف من النّوبة.

وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، سعيد بن المسيب، قال: كان لقمان بن سوادن مصر، ذا مشافر، أعطاه الله الحكمة، ومنعه النبوة.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء أنه قال يوماً ذكر لقمان الحكيم، فقال: ما أوتي ما أوتي، عن أهل، ولا مال، ولا حسب، ولا خصال، ولكنه كان رجلاً صمصاماً، سكيتاً، طويل التفكر، عميق النظر، لم ينم نهاراً قط، ولم يره أحد يبزق ولا يتنخع، ولا يبول، ولا يتغوط، ولا يغتسل، ولا يعبث، ولا يشحك، وكان لا يعيد منطقاً نطقه، إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد، وكان قد تزوج وولد له أولاد فماتوا، فلم يبك عليهم، وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام، لينظر ويتفكر فبذلك أوتي ما أوتي.

الصمصمام: السيف الصارم الذي لا ينثني، ورجل صمصام: قيل: هو الشديد الصب، وقيل هو المجتمع الخلق...

سكيتاً: كثير السكوت، إذا كان قليل الكلام في غير عي، فإذا تكلَّم أحسن.

وذكر البغوي: أن لقمان كان خياطاً، وكان راعي غنم، كما أشار القرطبي إلى أنه يحتطب الحطب لمولاه (5).

وقال الآلوسي: اختلف فيما كان يعانيه من الأشغال، فقال خالد بن الربيع: كان نجاراً بالراء، وفي معاني الزجَّاج: كان نجاداً بالدال، وهي على وزن كتان: من يعالج الفرش والوسائد ويخيطهما.

وأخرج ابن أبي شيبة،وأحمد في الزهد، وابن المنذر عن ابن المسيب: أنَّه كان خياطاً، وهو أعمُّ من النجاد (6)

من هذه الروايات نستخلص أنَّ أهم صفات لقمان الحكيم الخِلقية هي: أنه كان عبداً أسود، قصيراً، أفطس الأنف، غليظ الشفتين، عظيمهما، وكان مصفح القدمين ومشققهما.

وأما أهم صفاته الخُلُقية فهي: أنه كان يتصف بصفات حميدة، ويزاول مهناً مُتعددة، فقد كان رجلاً صمصاماً سكيتاً، طويل التفكر، عميق النظر، صادق الحديث أميناً، لا يتدخل فيما لا يعنيه، واشتهر بالحكمة في أقواله وأفعاله.

أما الأعمال والمهن التي كان يُزاولها فهي، أنَّه كان نجَّاراً ونجَّاداً، وخياطاً وراعياً للغنم، وكان يَحتطب لمولاه.

في تحقيق القول بنبوَّة لقمان أو ولايته:

روى الإمام الطبري بسنده عن مجاهد، وقوله: وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ {لقمان:12}. قال: الفقه والعقل والإصابة في القول من غير نبوة.

وعن قتادة: ولم يكن نبياً ولم يوحَ إليه. وروي عن عكرمة قال: كان لقمان نبياً(7).

أما ابن كثير فقد أشار إلى اختلاف أقوال السلف فيه، هل كان نبياً ؟ أو كان عبداً صالحاً من غير نبوة؟ وأنَّ الأكثرين منهم على القول الثاني.

وعقَّب بعد ذكر مجموعة من الروايات بقوله: فهذه الآثار منها ما هو مُصرح فيه بنفي كونه نبياً، ومنها ما هو مشعر بذلك؛ لأن كونه عبداً قد مسَّه الرق، ينافي كونه نبياً؛ لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها، ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبياً.

وإنما ينقل كونه نبياً عن عكرمة إن صحَّ السند إليه، فإنه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل، عن جابر عن عكرمة، قال: كان لقمان نبياً. وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي وهو ضعيف والله أعلم(8).

وأورد القرطبي عدَّة روايات، وروى عن سعيد بن المسيب: أعطاه الله الحكمة، ومنعه النبوة، وعلى هذا جمهور أهل التأويل، أنه كان ولياً ولم يكن نبياً(9).

والذي تميل إليه النفس، ويطمئن إليه القلب هو القول بحكمة لقمان وولايته لا نبوته ولقد آتينا لقمان الحكمة.

تعريف الحكمة:

تدل مادة ( ح ك م ) على المنع، وإنما سميت حكمة لأنها تمنع من الجهل. في لسان العرب: الحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم.

وقال الطبري: الحكمة هي: الفقه في الدين والعقل والإصابة في القول. وعزا ذلك إلى مجاهد. وعن قتادة: الحكمة: الفقه في الإسلام(10) ـ

وقال ابن كثير: الحكمة هي الفهم والعلم والتعبير. وقال عند قوله تعالى: يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا {البقرة:269}. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.

وروي عن ابن عباس مرفوعاً: الحكمة، القرآن، يعني تفسيره، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فإنه قد قرأه البر والفاجر. رواه ابن مردويه. وقال ابن أبي نجيح: الحكمة: الإصابة في القول.

قال أبو العالية: الحكمة خشية الله. ويؤيده ما روي عن ابن سعود مرفوعاً: (رأس الحكمة مخافة الله)، وذكر أيضاً عن أبي مالك قوله: الحكمة السنة.

وأخرج عن زيد بن أسلم قال: الحكمة العقل. ومنهم من يرى أن الحكمة هي النبوة.

عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها، ويعلمها) (11) - وفي بعض روايات الصحيح: الحكمة بالتعريف.

وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ {لقمان:12}. (أن) هي المفسرة، والمعنى: آتيناه الحكمة. أي: اشكر لله على ما أنعم عليك من إعطائك الحكمة.

إنَّ العبد عندما يشكر الله، فإنما يستفيد هو وحدَه من شكره، ويعود عليه وحدَه نفع ذلك الشكر، إذ به تدومُ النعم: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ {إبراهيم:7}. وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ {الزُّمر:7}؛ لأنه سبحانه في غني عن شكر الخلق... وكذلك الحال بالنسبة للكفر، فإن المتضرر منه هو صاحبه، وعليه يعود وبال كفره، والله سبحانه غني عن الخلق أجمعين، لا تنفعه طاعته المطيع، كما لا تضره معصية العاصي.

روى مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى: (... يا عبادي لو أنَّ أولَكم وآخرَكم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً..).

بيان معنى الشكر:

الشكر يتضمن ثلاثة أمور، وهي: العلم، والحال المُستمدَّة من أصل المعرفة، والعمل.

العلم: فمن لم يعلم النعم لم يشكر، وشكر الله يَقتضي توحيده؛ لأنه لابدَّ فيه من العلم بالمنعم وصفاته، وذلك العلم هو التوحيد.

الحال المستمدة من أصل المعرفة:

وهو الفرح بالمنعم من الخضوع والتواضع، لأن النعمة طريق إلى مرضاة الله وحاجز عن معصيته وغضبه.

العمل بموجب الفرح الحاصل:

وهذا العمل يتعلق بالقلب، وباللسان والجوارح. أما بالقلب: فقصد الخير، وإضماره لكافة الخلق. وباللسان: فإظهارُ الشكر لله بالتحميدات الدالَّة عليه. وبالجوارح: فاستعمال نِعَمِ الله في طاعته(12).

:وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ {لقمان:13}.

الوعظ:

قال الراغب: زجر مُقترن بتخويف، والنصح والتذكير بالعواقب.

تذكير الإنسان بما يُلَيِّن قلبه من ثواب وعقاب لما وصف لقمان بكونه شاكراً في نفسه بقوله: أن اشكر لله، وصفه هنا بأنَّه واعظ لغيره، إشارةً إلى أنه كامل في نفسه مكمل لغيره.

يا بني: تصغير محبة وإشفاق وترقيق.

سبب النزول:

روى البخاري عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت: الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ {الأنعام:82}. قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّنا لم يظلم؟ فأنزل الله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ {لقمان:13}.

وقد كان الشركُ ظُلماً؛ لأنَّه ذل للنفس، ووضع للعبادة في غير موضعها.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

 

(1) ينظر الجامع لأحكام القرآن: 14/259 ـ.

(2) الجامع للقرطبي 14/259 ـ.

(3)وينظر القرطبي 14/61.

(4) تفسير الطبري 21/67،68.

(5) الجامع 14/215

(6) روح المعاني 21/83.

(7) تفسير الطبري 21/67.

(8)ابن كثير 3/443.

(9)يُنظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي14/59،60، وأحكام القرآن لابن العربي 3/1495.

(10)جامع البيان للطبري 21/67 ـ

(11)رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه. وينظر في المراد من الحكمة الفخر الرازي 7/67.

(12) يُنظر: إحياء علوم الدين 4/81ـ82.

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 28/8/2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين