عداوة الشيطان للإنسان (2)

عندما شاءت الحكمة الإلهيَّة أن يجعل في الأرض خليفة، قال الله للملائكة: [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] {البقرة:30}.

ولكن لعدم علم الملائكة بالحكمة الإلهية وراء جعل هذا الخليفة: [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ].

فردَّ سبحانه عليهم: [قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ].

ولكي يريهم سبحانه أنَّ هذا المخلوق يتميَّز عنهم بما علَّمه:[وَعَلَّمَ آَدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ. قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ] {البقرة:33}.

موقف إبليس من آدم:

وتكريماً لهذا المخلوق أمرَ الله سبحانه الملائكة بالسجود له:

قال تعالى: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(29) فَسَجَدَ المَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(31) ]. {الحجر}..

[وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ] {البقرة:34}.

[وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ] {الأعراف:11}.

[فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(72) فَسَجَدَ المَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ(74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العَالِينَ(75) ]. {ص}..

عصيان الشيطان:

لم يستجب الشيطان لأمر الرحمن، ولم يسجد، فسأله الله تعالى قائلاً: [قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ]، ويردُّ عدوَّ الله بتكبر وحقد: [قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ] {الأعراف:12}. فهو يقر ويعلم أنَّ الله خالقه وخالق آدم عليه السلام.

ويقول سبحانه: [قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ] {الحجر:32}. فأجابه بكِبْرٍ وعناد:[قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ] {الحجر:33}.

وامتنع إبليس عن السجود؛ لأنَّه رأى نفسه أشرف وأفضل من آدم، مُعللاً ذلك بأنَّه خُلق من نار، وآدم خُلق من طين.

قال: [قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا] {الإسراء:61}.

وحُجَّته باطلة، وقياسه فَاسد: (فالطين خيرٌ وأنفع من النار؛ فإنَّ الطين فيه الرزانة والحلم والأمانة، والنمو، والنار فيها الطيش والخفة والسرعة والإحراق، ثم إنَّ آدم عليه السلام شرَّفه الله تعالى بخلقه له بيده ونفه فيه من روحه، ولهذا أمر الملائكة بالسجود له) البداية والنهاية 1/72.

الطرد لإبليس:

واستحقَّ بمعصيته اللعنة، والطرد والإبعاد عن الرحمة، والخروج من الجنة: [قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ] {ص:78}. [قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ] {الأعراف:13}.

ولما رأى إبليس ما آل إليه أمره من اللعنة والطرد من الجنة، طلب من الله تعالى أن يُنْظِرَه إلى يوم البعث، لينتقمَ من آدم الذي كان سببَ شقائه وهلاكه، بإغوائه وإغواء زوجته وذريته من بعده، فأنظره الله تعالى.

طلب الإنظار:

ويضع عدوَّ الله الخطة للانتقام من هذا الإنسان، فيطلب من الخالق سبحانه أن يُؤجِّلَه إلى يوم البعث: [قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ] {الحجر:38}.

قُعودُه لصدِّ كل من أراد سلوك طريق الإسلام:

وما أن أذن الله له بالبقاء، حتى قام يسردُ على الله عزَّ وجل دون خوف واستحياء خُطَّتَه لإضلال البشرية، والانتقام من أولاد آدم الذي تَسبَّب في نكبته: [قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ(17)]. {الأعراف}.. – أي: لأقعدنَّ لهم على طريق شريعتك لأمنعهم عنها -.

فهو يقعدُ كقاطع الطريق لإيذاء السالكين، ولا يتركُ جهةً من جهاتهم إلا هجم عليهم منها.

ولقد أوضحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك القعود الذي أقسم الشيطان أن يضلَّ به البشرية بقوله: (إنَّ الشيطان قعد لابن آدم بطرق، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتترك دينك ودين آبائك؟ فعصاه وأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر، وتدع أرضك وسماءك؟ فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: أتجاهد وهو تلف النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح نساؤك ويقسم مالك؟ فعصاه وجاهد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك كان حقاً على الله عزَّ وجل أن يدخله الجنة، ومن قُتل كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة) ([1]).

ويمضي في سَرْدِ خُطَّته بتحليل أدق وتفاصيل أكثر، فيقول: [قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ] {الحجر:39}.

لقد قسَّم خُطَّته إلى قسمين: التزيين، ثم الغَواية. والتزيين هو إظهارُ الشيء بغير حقيقته... وبعد التزيين تَأتي المرحلة الثانية من هذا المُخَطَّط وهي الإغواء عن الحق.

ولا ينتهي عند هذا الحد، بل يتوعَّد ويهدّد بني آدم بالاستيلاء عليهم واستذلالهم، وها هو يعلن ذلك:[قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا] {الإسراء:62}. أي: أقودهم كما تُقاد الدابَّة التي يُجعل في فَكِّها الأسفل حبلاً يقودها، وأتصرف فيهم كما أريد.

الاستثناء للبعض:

[ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا] ومَن هؤلاء الذين استثناهم عدو الله من الاحتناك في خطته؟ ها هو يقول: [إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ] {الحجر:40} الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته؛ فإنَّ إغواءَه لا يَنفع معهم.

انتهت بحمد الله الحلقة الثانية، تليها الحلقة الثالثة.

الحلقة السابقة هـــنا

([1]) أخرجه أحمد (15958)، والنسائي (3134)، من حديث سبرة بن أبي فاكه. وصحح إسناده الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

نشرت 2011 وأعيد تنسيقها ونشرها 26-8-2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين