من أساليب التربية في القرآن الكريم ، الإيجاز بالحذف

الدكتور عثمان قدري مكانسي
 
       لغتنا العربية ـ لغة القرآن ـ تمتاز بالبلاغة والبيان ولن تجد لغة تضاهيها فصاحة وجمالاً . . فالله سبحانه وتعالى وفّاها حقها حينما أنزل القرآن الكريم بها (( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا ))(1) وحين وصفها : (( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) ))(2) .
       ومن عوامل بيانها وجمالها ذلك الإيجازُ بالحذف ، الدالُّ على الإيحاءات البلاغيّة التي تعطيك زخماً من المعاني الكثيرة بالجمل القليلة ، فلا تحتاج إلى الإسهاب والإطناب في صياغة الفكرة والمعنى ، وإن كانا من عوامل جمالها أيضاً .
       والإيجاز بالحذف متعدد ، فقد نُسقط كلمة ، أو جملة ، أو جُملاً دون الإخلال بالمعنى بل يزيد هذا الحذفُ المعنى وضوحاً .
       ومن فوائد الإيجاز هذا :
1 ـ   إيراد المعنى الواسع بلفظ قليل .
2 ـ   التنسيق الموسيقي .
3 ـ   التخلّص من التكرار المملّ .
4 ـ   تعويد العقل على استجلاء المعنى ، واستنباطه ، والتمتع فيه .
       أ ـ ومن أمثلة حذف الكلمة أو الكلمتين ، قوله تعالى :
       (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ))(3) فحذف كلمة صراط قبل (( غير )) للعلم به وكأنه يقول غير صراط المغضوب عليهم .
       وقوله تعالى : (( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ))(4) وكأنه يقول : وقال اليهود كونوا هوداً تهتدوا .
       وقالت النصارى كونوا نصارى تهتدوا .
       أرأيت إلى هذا الإيجاز بالحذف الذي زاد المعنى روعة ؟.
       وقوله تعالى : (( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ))(5) أي يكفيك شرّهم .
       وقوله سبحانه : (( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ))(6) والمحذوف
" فأفطر" كأنه يقول : فمن كان مريضاً فأفطر أو على سفر فأفطر . . فهل ترى خللاً في المعنى أم قوّةً وحَسْن سَبْك ؟ . .
       ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى : (( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ))(7) .
       والمعنى : هتك الشهر الحرام تُقابل بهتك الشهر الحرام فأنت تجزم أن الجملة في الآية الكريمة أكثر وضوحاً وأكثر متانةً وإيحاءً .
       وقوله سبحانه : (( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ))(8) والمقصود : كان الناس أمةً واحدة على الإيمان متمسكين بالحقِّ فاختلفوا فبعث الله . . .
       ومثاله قوله تعالى : (( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ))(9) فهم يسألونك عن شرب الخمر وتعاطي الميسر .
       وقوله تعالى : (( لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ))(10) والمعنى : ليس علينا في أكل أموال الأميين سبيل . .
       وقوله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ
مُبْصِرُونَ (201)
))
(11) والمعنى : تذكروا ثواب الله وعقابه . .
       وقوله سبحانه مخاطباً فرعون الغريق الذي قال وهو يلفظ أنفاسه : (( آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ (91)
))
(12) والمقصود : آلآن تقرُّ بوحدانيّة الله وقد عصيت . . .
       والأمثلة على هذا كثير ، وأنت ترى معي أن المعنى مفهوم من السياق وأن الحذف لم يضيّعه بل زاده إشراقاً ، وترك الفكر يحدده ويلتذّه .
 
       ب ـ حذف كلمات عدة أو جملة .
 
       مثاله قول تعالى : (( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ))(13) والمعنى : فانتظروا عاقبة البغي والتكذيب وإنا من المنتظرين هلاككم ودماركم . .
       وقوله سبحانه : (( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ))(14) والمعنى : ولهن من الحقوق على الرجال مثل الذي للرجال عليهن من الحقوق .
       ومثاله أيضاً قول الله تعالى : (( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ))(15) والمقصود : يسألونك عن الأنفال التي غنمتها في غزوة بدر لمن هي ؟ قل . . .
       وقوله تعالى : (( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ))(16) والمعنى : أن ابني من أهلي وأنت وعدتني بنجاحهم ، وإن وعدك الحق . . .
       وقوله تعالى : (( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ))(17) والمعنى : وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً وأوحينا إليه .
       وقوله تعالى : (( وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ))(18) والمقصود : ومن آياته منامكم بالليل وقيلولة النهار وابتغاؤكم في النهار من فضله .
       وقوله سبحانه : (( . . . وَالَّذِينَ ءاَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ))(19) والمعنى : والذين أوَوْا رسول الله والمهاجرين إليهم ونصروهم أولئك . . .
       والأمثلة كثيرة جداً ، إن عدتَ إليها في القرآن الكريم وجدت من الكنوز ما تقرُّ بها عينك .
 
       جـ ـ حذف جمل عدة .
 
       كقوله تعالى : (( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) ))(20) حذفت هنا عدة جمل ، والمعنى : وحين ألقوه في الجب ، واصابه الهمّ والحزن ، وتملكه الخوف أوحينا إليه . . .
       وقوله تعالى : (( أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ
بَقَرَاتٍ
))
(21) والمحذوف : فأرسلوني إلى السجن لآتيكم بالتأويل الصحيح ، فأرسلوه ، فدخل على يوسف وقال له : يوسف أيها الصديق .
       وقوله تعالى : (( وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ . . . ))(22) والمقصود : وقال الملك : ائتوني به فانطلق الرسول إلى السجن ليخرجه منه ويحمله إلى الملك ، فأبى أن يخرج إلا بريئاً فقال للرسول : ارجع إلى ربك فاسأله . . .
       إنها معانٍ يستشفّها القارئ من خلال السطور ، فيعجب لوضوح المعنى دون أن يشعر أن هناك شيئاً محذوفاً . .
       وهذه الجمل المحذوفة ليست من أركان الجمل الأصلية ، بل هي إطناب يمكن الاستغناء عنه وتبقى الجمل مكتملة المعنى .
       د ـ حذف أصل من الجملة يفهم من السياق وقد يكون خبراً أو جواب شرط ، وما شابه
ذلك ، كقوله تعالى : (( وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا . . . . ))
(23) والمحذوف هنا جواب الشرط ((لو)) ولو أن قرآناً سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى (لكان هذا القرآن) بل لله الأمر جميعاً .
       وكقوله سبحانه : (( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ . . . ))(24) والمحذوف : الخبر ( كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام التي لا تنفع ولا تملك من الأمر شيئاً ) . . .
       وقوله سبحانه : (( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ . . . ))(25) والمحذوف : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً (كمن استقبحه وتجنّبه واختار طريق الإيمان) .
       وقوله سبحانه : (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) ))(26) والمحذوف : (أعرضوا واستكبروا) .
       وقوله سبحانه : (( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ ))(27) والمحذوف : (هل تقدر على
هدايته لا) .
       وقوله سبحانه : (( أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ))(28)
والمحذوف : (كمن هو أعمى القلب معرض عن الإسلام ؟).
       وقوله سبحانه : (( أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))(29) والمحذوف : (كمن هو آمِنٌ من العذاب؟).
       وقوله جلّ شأنه : (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ))(30) والمحذوف : (سيجازون بكفرهم جزاءً لا يوصف) .
       وقوله سبحانه : (( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) ))(31) والمحذوف : (هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزّة شيء حتى زعمتم أنها آلهة؟!!).
       والأمثلة على الإيجاز بالحذف إشراق في التعبير ، يدلُّ على أن هذا القرآن تنزيل من حكيم حميد سبحانه وتعالى .
       كما أنه يحرّك العقول فتقتنص فرائد المعنى ، وتستمتع بجمال العبارة ، وتذكرنا بالقاعدة الذهبية ((خير الكلام ما قلَّ ودلَّ)) .


(1)    سورة يوسف ، الآية : 2 .
(2)    سورة الشعراء ، الآية : 195 .
(3)    سورة الفاتحة ، الآيتان : 6 ، 7 .
(4)    سورة البقرة ، الآية : 135 .
(5)    سورة البقرة ، الآية : 137 .
(6)    سورة البقرة ، الآية : 184 .
(7)    سورة البقرة ، الآية : 194 .
(8)    سورة البقرة ، الآية : 213 .
(9)    سورة البقرة ، الآية : 219 .
(10)   سورة آل عمران ، الآية : 75 .
(11)   سورة الأعراف ، الآية : 201 .
(12)   سورة يونس ، الآية : 90 .
(13)   سورة يونس ، الآية : 102 .
(14)   سورة البقرة ، الآية : 228 .
(15)   سورة الأنفال ، الآية : 1 .
(16)   سورة هود ، الآية : 45 .
(17)   سورة هود ، الآية : 50 .
(18)   سورة الروم ، الآية : 23 .
(19)   سورة الأنفال ، الآية : 72 .
(20)   سورة يوسف ، الآية : 15 .
(21)   سورة يوسف ، الآية : 45 .
(22)   سورة يوسف ، الآية : 50 .
(23)   سورة الرعد ، الآية : 31 .
(24)   سورة الرعد ، الآية : 33 .
(25)   سورة فاطر ، الآية : 8 .
(26)   سور يس ، الآية : 45 .
(27)   سورة الزمر ، الآية : 19 .
(28)   سورة الزمر ، الآية : 22 .
(29)   سورة الزمر ، الآية : 24 .
(30)   سورة فصلت ، الآية : 41 .
(31)   سورة النجم ، الآيتان : 19 ، 20 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين