كيف حدث هذا

 
 
 
د.أحمد محمد كنعان
 
 
تجتاح الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه منذ مطلع العام الحالي موجة واسعة من الاحتجاجات الشعبية السلمية ، يقودها مجموعات من الشبان الذين خرجوا يطالبون بالتغيير السياسي بعد أن وصلت الحالة العربية إلى الدرك الأسفل ببركة الأنظمة الاستبدادية البوليسية التي جثمت على صدر الأمة منذ أواسط القرن الماضي ، وقد نجحت هذه الحركات الاحتجاجية السلمية حتى اليوم بتغيير نظامين عربيين في تونس ومصر ، فيما راحت عدة أنظمة عربية أخرى تترنح أمام موجات الاحتجاج السلمية التي باتت تبشر بمستقبل واعد يعيد للأمة العربية أملها بتحقيق استقلالها الفعلي الذي سطا عليه حفنة من الثوار العابثين في أعقاب الاستقلال الشكلي الذي مازلنا نعيشه منذ تحررنا من الاستعمار الأوروبي !
 
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم ونحن نعيش هذا الربيع العربي الواعد هو : كيف حدث هذا ؟ كيف تحولت عقليتنا من التغيير بالقوة والعنف ـ كما حصل في غمرة الانقلابات العسكرية التي أسالت الدماء ومكنت للاستبداد والرعب الأمني ـ إلى التغيير السلمي الذي ثبت أنه أكثر كفاءة وأقل تكلفة وأحفظ للدماء ؟ كيف حدث هذا ؟ ومن هي الجهات التي كانت وراء هذا التحول البديع عن التغيير بالعنف إلى التغيير باللاعنف ؟ هل هي الحركات الإسلامية ؟ وإن كانت هذه الحركات هي التي تقف وراء هذا التحول النوعي فمن أين استمدت هذه الحركات مشروعية تحولها ؟ وأين تراها ذهبت مقولة ( السيف أصدق أنباء من الكتب ) التي ظللنا قروناً طويلة نتغنى بها إلى حدود النشوة ؟!
 
أسئلة كثيرة حساسة حرجة آن الأوان لكي نطرحها ونجيب عليها بصراحة وشفافية ووضوح ونحن نقف على أعتاب نقلة نوعية جديدة في حياتنا السياسية والاجتماعية ، نقلة سوف تسفر عن تحولات سياسية واجتماعية جذرية تتطلب منا الاستعداد للتعامل معها بواقعية وكفاءة ، وإلا ضاع الأمل الكبير الذي وعدتنا به هذه الانتفاضات المباركة التي راحت تتفتح كالزهور هنا وهناك !
 
ترى ، هل تحولنا عن العنف إلى اللاعنف من جراء مراجعتنا لسجلات التاريخ واقتناعنا بأن "الصلح خير" وأن العنف لا ينتج سوى العنف والدمار والخراب ؟ أم كان تحولنا من العنف إلى اللاعنف نتيجة مراجعة من قبل فقهائنا لمفهوم الجهاد في الإسلام ؟ أم كان إشعال الشاب التونسي "محمد البوعزيزي" النار في نفسه وراء هذا التحول كما يرى بعض المراقبين ؟ أم ماذا ؟!
 
أسئلة كثيرة وإشكاليات محيرة سوف أجازف هنا بالإجابة عنها وتفكيكها ، وأعتقد مبدئياً أن هذا التحول في عقليتنا العربية من العنف إلى السلم لم يكن أبداً نتيجة شيء مما ذكرت آنفاً ، وإنما كان وراء هذا التحول النوعي سببان أساسيان آخران هما اللذان جعلا عقليتنا العربية "تميل" إلى هذا التحول ، وأقول هنا "تميل" ولم أقل "تؤمن" لأن الإيمان بهذا المنهج الجديد في التغيير مازال بحاجة إلى الكثير من الوقت والجهد والعمل الميداني الحقيقي حتى يستقر في عقولنا ويصبح إيماناً راسخاً في أعماقنا :
 
العامل الأول : هو ما حدث في بعض البلدان غير العربية من حركات سياسية شعبية نجحت في التغيير السلمي ، وأتيح لنا لأول مرة في التاريخ أن نرى وقائعها عبر شاشات التلفزيون ، كالثورة الإيرانية السلمية التي أطاحت بعرش الشاه ، المدعوم بالقوى الغربية ، الضارب في شروش التاريخ الملكي الاستبدادي ، والذي لم يكن أحد يتصور خلعه بطريقة سلمية وبتلك السهولة ، ومنها كذلك ثورة الصِّرب ضد الديكتاتور الدموي "ميلوزوفيتش" الذي خلعوه بثورة سلمية لم ترق فيها الدماء ، وقد جعلتنا هذه الثورات السلمية نقف مشدوهين لا نكاد نصدق ما يحدث ونحن نرى هؤلاء الزعماء الراسخين في الكراسي وهم يتهاوون مثل أوراق الخريف دون عنف ودون إراقة للدماء ، وكانت هذه أولى الهزات في عقليتنا العربية التي جعلتنا نشكل قناعة مبدئية بأن التغيير السلمي "يمكن" أن يكون أجدى من التغيير بالعنف ! ثم جاءت الهزة التالية حين نجحت الثورتان التونسية والمصرية بطريقة السلمية ، واعترف الشبان الذين هندسوا هاتين الثورتين أنهم استفادوا من التجربة الإيرانية والتجربة الصربية ، ودرسوهما جيداً ، وطبقوا خطواتهما تطبيقاً يكاد يكون حرفياً ... ونجحوا .
 
العامل الثاني : الذي جعل عقليتنا العربية تتحول عن العنف إلى اللاعنف ـ وهو في اعتقادي العامل الأهم ـ أن شبان الانتفاضات العربية الذين سلكوا هذه الطريقة السلمية في الاحتجاج والتغيير ونجحوا حتى الآن في مصر وتونس لم يطلعوا على ما قال به فقهاؤنا في باب "السياسة الشرعية" حول تنصيب "الخليفة" وكيفية خلعه والخروج عليه إذا هو انحرف ، وأعتقد أن عدم الاطلاع أولئك الشبان على أقوال الفقهاء في هذه المسألة كان نعمة إلهية كبيرة علينا ، وكان عاملاً مهماً في نجاح ثورتي مصر وتونس والثورات اللاحقة بإذن الله تعالى ، فلو كان أولئك الشبان قد اطلعوا على أقوال فقهائنا في هذه المسألة لما كان هناك ثورة ولا ثوار ولا تغيير ، وإذن لبقينا في ظل " أولياء الأمور" قدَّس الله سرهم إلى يوم الدين ، ذلك أن الفقهاء وضعوا ضوابط مستحيلة للخروج على "ولي الأمر" وخلعه ، وسيجوا تلك الضوابط بسور حديدي عنوانه ( درء الفتنة ) حتى لا يجرؤ أحد أن يخرج على أحد حتى "لو ضرب ظهره وأكل ماله" وهذا ما اعتمد عليه فريق واسع من فقهاء هذه الأيام في محاولة يائسة منهم لوقف هذه الانتفاضات الشعبية السلمية التي بدأت تنفحنا بعبيرها الربيعي الذي افتقدناه لعصور طويلة ونحن مشغولون بحفظ مصنفات "السياسة الشرعية" و "الأحكام السلطانية" !
 
وعلى الجانب الآخر ، وجدنا فريقاً آخر من الفقهاء الذين يحضون على الجهاد ومقاومة سلاطين الجور والخروج عليهم بالقوة ، وحين قام من ينادي بالتغيير السلمي بلا عنف ، قابلوا دعوته بالاستهجان والاستنكار والسخرية بحجة أن هذا الأسلوب في التغيير يعارض مفهوم "الجهاد" في الإسلام ، وأن العنف لابد أن يقابل بالعنف وإلا استشرى الشر وطغى ، وبناء على هذا الفهم البراق للجهاد دفع كثير من الإسلاميين ضريبة باهظة من حياتهم وسنوات أعمارهم التي ضاعت في غياهب السجون ، ومن المؤسف أن بعضهم مازال إلى اليوم يدور في هذه الدوامة من العنف والعنف المضاد !
 
وهكذا انتهى الأمر بالأمة إلى أحد مصيرين مأساويين : إما سكوت مطبق على ظلم السلاطين عملاً باجتهادات الفريق الأول من الفقهاء ، وإما خروج دموي لم يثمر إلا الصاب والعلقم عملاً باجتهادات الفريق الآخر ، إلى أن جاءت هذه الموجة المباركة الحالية من الانتفاضات الشبابية السلمية التي غيرت اتجاه الموجة ، وراحت تخط فقهاً جديداً يعيد قراءة "النصوص" في ميادين التحرير ، لا في زوايا التكايا وحلقات الدراويش !
 
أقول هذا وأعلم أنه سوف يثير الكثيرين ، وهذا أمر متوقع لأن الحقيقة من طبيعتها أنها مزعجة ، فكيف إذا لم تكن هذه هي الحقيقة الوحيدة التي أود عرضها ، فهناك حقيقة صادمة أخرى أجد نفسي مضطراً للوقوف عندها كذلك ، وهي أننا لم نصل إلى هذه القناعة بالتغيير السلمي من خلال قراءتنا لمصنفات "السياسة الشرعية" وإنما وصلنا إلى هذه القناعة بعد أن رأينا غيرنا يعمد إلى التغيير السلمي وينجح فيه ، وهذا يعني أننا كنا ومانزال نصل متأخرين ، وأن أفعالنا ماتزال ردود أفعال ، وأنها لا تقوم على أسس علمية راسخة ، وأننا مازلنا بعيدين كثيراً عن فهم النصوص الإلهية الحكيمة ، وهذه مسألة أخرى قد نفصِّلها في مناسبة أخرى ، لكنني اكتفي منها بالقول إن الإسلام يوجب علينا أن نكون نحن المبادرين ، وأن نكون نحن من يصنع الأحداث امتثالاً للتوجيه الرباني الحكيم (( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً )) والشهادة المطلوبة منا ليست مجرد فرجة ومشاهدة محايدة باردة من بعيد ، وإنما هي المبادرة الإيجابية إلى الفعل لنكون نحن البادئين بكل خير ، ولكن يبدو أن بيننا وبين هذه النقلة القرآنية الحكيمة ماتزال عصور من التخبط والارتجال !
 
وحقيقة صادمة أخرى كذلك لابد من الوقوف عندها قبل أن اختم هذه الزفرات ، وهي أن المنهج النبوي الحكيم الذي يقوم على عدم طاعة الظالم قد ضاع في خضم "السياسة الشرعية" الانتقائية التي صاغها السلف في عصور الاستبداد و "حكم العائلات" ، تلك السياسة التي انزلقت ـ بوعي أو غير وعي ـ لصالح "ولي الأمر" جاعلة من "الرعية" أُجراء يقومون على خدمته ، ويستحقون أشد العذاب في جهنم إذا هم عكَّروا صفو مزاجه ، فأين هذا الفهم المتواطئ من الرؤية السياسية النبوية التي ذكرت من الشهداء ( رجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه ، فقتله ) ؟!
 
 
إنها حقائق مؤلمة ، وأسئلة حساسة حرجة ، وإجابات مزعجة تقلق نوم الرعية ، وتقض مضاجع السلاطين ، لكن لا مندوحة لنا من الوقوف عندها ، والحوار حولها ، وتفكيك إشكالياتها إذا كنا حقاً نريد الوصول إلى تأسيس سياسة شرعية فعالة ، تخلص الأمة من أمراض الماضي ، ومهانة الحاضر ، وتعيد للأمة مكانها تحت الشمس ، وتطلقها نحو مستقبل جديد تعود فيه شاهدة على عصرها كما يريد لها ربها .. وكما كانت في يوم من الأيام !

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين