محمد صلى الله عليه وسلم

للأستاذ علي الطنطاوي

منذ أربعة عشر قرناً ونيف ولد محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكد يفطن إلى ولادته إلا قليل، وبعد أربعة عشر قرناً ونيف ـ استضاءت فيها الدنيا بنور محمد صلى الله عليه وسلم، واهتدت الإنسانية بهدي محمد صلى الله عليه وسلم، مرت بالدنيا ذكرى مولد محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكد يفطن إليها إلا القليل!.
على أن العظماء في التاريخ كثيرون، وقد عرفهم التاريخ، ولكنه لم يعرف محمداً، لأنه ليس فيهم مثل محمد صلى الله عليه وسلم.
عظمة أولئك أنهم سبقوا أوانهم، فعظموا لسبقهم، ثم جاء أوانهم فساواهم أبناؤه جميعاً، ثم جاء أوان بعده ففاقهم أهله جميعاً، ولم يبق لهم إلا عظمة الذكرى.
وإن التلميذ اليوم يعرف من الطبيعة أكثر مما كان يعرف جاليليو، والضابط يعلم من فنون الحرب أكثر مما كان يعلم أينبال، وطالب الفلسفة يدرك من حقائقها أكثر مما كان يدرك أفلاطون وكذلك سائر العظماء.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فطراز من البشر لا تحتمل الدنيا منه أكثر من واحد، ولا يمتد عمرها حتى ترى مثل محمد، فمحمد عظيم كل عصر، وعظمته لا تبلى جدتها على الدهر.
وإن كثيراً من العظماء قد سنوا سنناً، وشرعوا شرائع، ولكنهم سنوها ناقصة فكمِّلت، وقاصرة على زمان واحد فعدِّلت، ومحدودة ضيقة فوسِّعت، وما زالت أبداً في حاجة إلى التكميل والتوسيع والتعديل. أما شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فجاءت كاملة، وعاشت كاملة، وستخلد كاملة، لأنها من عند الله الكامل، لا من عند العقل الناقص.
وستموت الشرائع كلها، والعاقبة لشريعة الله.
إن روحية الشرق ستطحن مادية الغرب، ومادية الغرب ستقتل روحية الشرق، ولا يبق إلا الأصلح، والأصلح هو الإسلام.
أي دين غير الإسلام يستطيع المرء أن يتمسك بأحكامه كلها، ثم يكون أمرأً صوفياً قوياً غنياً؟؟.
أي دين غير الإسلام يعرف للبدن حق البدن، وللروح حق الروح، ويعرف للدنيا حقها، وللآخرة حقها؟
أي دين غير الإسلام فيه الوحدانية في الدين، والشورى في الحكم، والأخوة في الحياة ، والجهاد في المبدأ، والقوة والاعتدال في كل شي؟.
أي دين غير الإسلام يحل المشكلة الاجتماعية الكبرى، التي ولدت الشيوعية والفاشية والنازية وستلد الموت الأحمر والخراب الأكبر؟
إن العظماء كثيرون ولكن العظيم عظيم في ناحية، صغير في سائر النواحي، فهو عظيم في العلم، أو في الحرب، أو في الأدب، أو في السياسة، أما محمد فعظيم في كل شيء.
وآثار العظماء في البشر واضحة جليَّة، ولكن لم يعمل أحد أجلَّ ولا أجمل ممَّا عمل محمد صلى الله عليه وسلم.
نفخ في هذه البادية القاحلة، وهذه الأمة الجاهلة، فأخرج منها أمة قوية عاملة عالمة... حملت مشكاة النور، في وقت عمَّ فيه الظلام، وبنورها اهتدى ويهتدي كل إنسان، في كل مكان إلى آخر الزمان، ولولا محمد صلى الله عليه وسلم ما كانت أوروبة ولا الأميركتان.
كانت الدنيا في نظر قريش مكة، كما أن الدنيا في نظر الفرنسيس باريس، ولكن دنيا محمد صلى الله عليه وسلم أوسع، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا تسعه مكة.
فأمَ غار حراء ليشرف على الأفق الواسع، ثم سما على معراج إلى السماء، فرأى الأرض كيراعة مضيئة، فاستصغرها، ولم يحفل بما عليا من ذرات هينة.
هكذا عاش محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا انتقل.
يعيش محمد صلى الله عليه وسلم في الأرض وهو أكبر من الأرض، وترك في الأرض أثراً أكبر من الأرض، ولم يعرفه في الأرض أحد من أبناء الأرض، ذلك لأنه كان كما قال لامارتين:
"فوق البشر، ودون الإله، فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين