فتح المسلمين لأسبانيا الفرق بين المسلمين وغيرهم في استعمار الممالك

أجمع مؤرخو الفرنجة على أن أوروبا فيما بين القرن الرابع والقرن الخامس عشر للميلاد كانت قد وقعت في حالة من الجهالة كادت تقلبها ‘لي بربرية مطلقة، فإن العلوم‏ التي أثمرتها الجهود اليونانية وورثها عنها الرومانيون فقاموا بحقها بضعة قرون، آل أمرها في القرون الوسطي المذكورة آنفا إلى الذبول، ولو لا أنها كانت مدونة في الأسفار ومودعة في الخزائن، لزال رسمها من لوحة الوجود. فعاش الناس طوال ذلك العهد في غيهبة من الجهل ما كان يتخيل أشد الناظرين تفاؤلا أنها تنجاب عنهم في يوم من‏ الأيام، وإن تخيلوا ذلك فما كانوا ليتوقعوا أن النور يأتيهم من قبل أمة ليس بينها وبينهم أدني صلة، وهي الأمة العربية.

فلما قامت للإسلام دولة في القرن السابع للميلاد، وشرعت هذه الدولة في أداء ما عهد إليها من إعلاء كلمة اللّه في الأرض، بدأت بما جاورها من سورية ومصر والعراق‏ العربي والعجمي وآسيا الصغرى والتركستان وما وراء النهر إلى حدود الصين.

فلما تم لها فتح هذه الأبواب العالمية في وجه الدعوة الإسلامية، وانبعث منها نور الإسلام‏ إلى هذه الأقطار القصية، بقي باب واحد إلى قارة كانت من أنجب قارات الأرض‏ وهي أوروبا، وهي إن كانت قد انتهت إلى حالة يرثي لها من القحولة العقلية كما قدمنا، إلا أنه كان في خزائنها من علوم الأوائل ما ليس في غيرها ممَّا تقضي حاجة العالم‏ باستخراج دفائنه، والانتفاع بكنوزه، وقد تجلت سمو مبادئ الإسلام العلمية بعد الاستيلاء على تلك المذخورات العقلية تجليا باهرا، فإنها بعد أن استخرجتها من خزائنها أخذت في ترجمتها والانكباب على تدارسها، فزادت في مادتها، وضمت إليها ما هديت إليه باجتهادها، وكان ذلك كله بعثا للتراث العلمي العالمي من الموات الذي كان فيه، وبث‏ حياة جديدة إليه أمدها الإسلام بروح منه، فأعادت للإنسانية أنوار ثقافتها العقلية، ورونق حياتها المدنية.

أجمع مؤرخو الفرنجة على أن علوم العرب وفنونهم التي كانت سببا في قيام المدنية الحاضرة دخلت إلى أوروبا من ناحيتين: من ناحية إسبانيا، و من ناحية إيطاليا. فلنذكر تاريخ فتح العرب لإسبانيا، ثم نعقبه بفتوحهم في جنوب إيطاليا وجميع جزر البحر الأبيض المتوسط، فنقول:

فتح المسلمين لإسبانيا في القرن الأول للهجرة:

أمر أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان عامله على شمال أفريقيا موسى بن نصير أن يفتح مملكة إسبانيا، وهي التي يسميها العرب بالأندلس، سنة 93 هجرية، فكلف موسى مولاه طارق بن زياد أن يجتاز إليها البحر على رأس اثني عشر ألفا من المقاتلة، فسار بهم على السفن حتي وصل إلى مضيق جبل سمي باسمه، فاستقبله الكونت جوليان بالترحاب، و كان له ممتلكات واسعة في تلك الجهات، وكان يحمل‏ على ملك إسبانيا روديريك ذلك استشاط غضبا وزحف بنفسه على جيش المسلمين في مائة ألف‏ مقاتل. أما طارق بن زياد فتأهب لملاقاة عدوه، و لأجل أن يحمل جيشه على الاستبسال‏ أحرق السفن التي أقَّلتهم إلى تلك السواحل قائلا لجنوده: العدو أمامكم والبحر وراءكم‏ فاختاروا لأنفسكم إحدي النهايتين.

فلما وافاهم الملك روديريك بجنوده صمدوا على أن‏ يقاتلوا حتي يفوزوا أو يموتوا، لأنهم كانوا قد فقدوا الأمل في اللجأ إلى سفنهم.

فدارت‏ رحي المعركة في سهل غواد اليط سبعة أيام متوالية صبر فيها المسلمون صبر الكرام، وأبلوا أشد البلاء حتي آتاهم اللّه النصر، فاخترقوا جيش العدو، و انضم إليهم(إياس)أسقف‏ أشبيلية، وكان من حزب الكونت جوليان، ومن الواجدين على سياسة روديريك.

فلم يسع الاسبانيين غير الهرب، وحمل الغيظ قائدهم على أن يلقي بنفسه في نهر الوادي‏ الكبير، فغرق، واستولي العرب على أسلاب ذلك الجيش، و لم يتوان طارق طرفة عين‏ في استغلال هذا النصر، فأرسل كتائبه تتري للاستيلاء على أمهات المدن، فاستولي‏ قواده على غرناطة وقرطبة وويرة وملقة وأستجه، وسار هو بنفسه على عجل إلى طليطلة، وبلغت أخباره موسى بن نصير؛ وربما خشي أن يتشتَّت جيشه الصغير في البلاد فيعطف‏ عليه العدو فيبيده، فكتب إليه يأمره بالوقوف حتي يلحق به، فرأي طارق بثاقب نظره‏ أنه لو أطاع رئيسه لضاعت من يده الفرصة السانحة، إذ يسارع الاسبانيون إلى انتخاب‏ ملك جديد فيبعث فيهم أملا يحملهم على التألب عليه، فرأي المصلحة في عصيان‏ هذا الأمر، فسار حتي بلغ إلى طليطلة ودخلها بلا قتال، وترك بها حامية، وتابع سيره‏ إلى الشمال، فخضعت له جميع البلاد التي خلّفها وراءه.

ولما وافاه مولاه موسى بن نصير بجيش جديد فتح به مدينتي كرمونة وأشبيلية، وانتهي إلى مريدة فحاصرها، وكان بها فرسان من قبيلة الويز يغوط الذين كانوا متغلبين‏ على إسبانيا، فلم يقو موسى على فتحها إلا بعد أن وصل إليه مدد من ابنه عبد العزيز يقدر بسبعة آلاف مقاتل.

فلما تم له تدويخها سار ابنه عبد العزيز المذكور إلى مرسية وضرب الجزية على الأمير تيودومير الغوطي الذي كان مستقلا بالإمارة فيها. و سار توّا إلى طليطلة، بينما كان طارق بن زياد ينساح بجيوشه في إقليمي استريما دور ولوزيتانيا. فلما قابله الأمير عبد العزيز بن موسى ضربه بالدرة جزاء له على عصيانه أمر والده‏ في الوقوف عند حد ما وصل إليه، ثم أمر بتجريده من رتبته في القيادة وسجنه.

فلما بلغ أمير المؤمنين الوليد ما وقع على طارق من الإهانة، أمر بإطلاق سراحه وإعادته‏ للقيادة كما كان، فكان ذلك ترضية له على حسن بلائه وإخلاصه في أداء مهمته.

لما وقف أمر هذا التنازع عند هذا الحد عاودت الجيوش الإسلامية إتمام فتح‏ إسبانيا، فاستولي موسى بن نصير على أقاليم أستورية، و استولي طارق على البلاد التي خلف نهر إبرة. ثم تعاون الاثنان على فتح سراقسطه بسبب قوة حاميتها وحصانة معاقلها. فتمَّ لهما بذلك فتح شبه جزيرة إسبانيا إلى جبال البرانس.

ماذا كانت عليه اسبانيا قبل فتح المسلمين؟

تقلبت إسبانيا في أدوارشتي من الحكم، وتغلبت عليها جماعات مختلفة ككل أمة في مثل مكانها، فندع كل هذا ونكتفي بما كانت عليه على عهد الفتح الإسلامي. ونري‏ أن ننقل ذلك عن مؤرخ أجنبي ليكون أبلغ في دلالته على عظم الانقلاب الذي أحدثه‏ الإسلام فيها في سنين معدودة، حتي صارت مشرق النور على أوروبا في تلك الغياهب‏ الحالكة:

قال المؤرخ الفرنسي الكبير(سديو) Sedeillot في كتابه(خلاصة تاريخ العرب) ما تعريبه:

«غلب على شبه جزيرة إسبانيا قبل الهجرةالمحمدية بمائتين واثنتين وعشرين سنة قبيلة تعرف بالويزيغوط Visigoths كان ملكهم يمتد إلى طنجة وسبتة من مراكش؛ وكانوا قد هزموا موسى بن نصير حين حاصر سبتة سنة (64) للهجرة، كما هزمه ثانية فيها الملك وزيتا الويزيغوطي سنة (91) حين دهمها مرة أخري؛وكانت مملكة إسبانيا كثيرة الرجال واسعة الأقاليم، ولكن الحكومة فيها كانت مختلة، والأمة كانت‏ تتألف من جماعات متعادية؛وكانوا واقعين جميعا تحت سلطان القسوس، فكانوا يتقاضون منهم إتاوات باهظة؛وكانت الشريعة التي يحكمون بها مزيجا من القانون‏ الروماني وعوائد القبائل الجرمانية، فكانت الأمة في حالة من التأخر بحيث لا تستطيع‏ إمداد المملكة بمقوماتها، وكان الرعايا مستعبدين لمنتهم الزراعية، وهي حالة تنتزع‏ من قلوبهم الوطنية والشمم؛وكان اضطهاد اليهود بالغا أشده ممَّا ملأ قلوبهم بالأحقاد والسخائم على حكومة البلاد»الخ.

إلى أي حال آلت إسبانيا تحت حكم المسلمين؟

تلك كانت حال إسبانيا قبل أن يحتلها المسلمون فإن شئت أن تعرف ما آلت آلت حالتها بعد أن احتلها المسلمون فإليك ذلك منقولا عن الأستاذ سيديو المذكور آنفا من كتابه (خلاصة تاريخ العرب) قال ما ملخصه:

«كان عرب إسبانيا متفوقين على الفرنج في العلوم والصنائع والأخلاق الكريمة، ممَّا حبَّب لملوك قسطيلة ونواره أن قدموا إلى قرطبة لاستشارة أطبائها الذين كانوا معروفين بتضلعهم في هذه الصناعة.

«وكان هؤلاء العرب حيث وجدوا يبجلون الشيوخ ويتنافسون في إقامة معالم العدل‏ ويغارون على مراعاة تطبيقه، ويدينون بالمساواة العامة لا ميزة لغنيهم على فقيرهم، فلا يمنع‏ فقر أحدهم أن يبلغ إلى أرقي المراتب ما دامت تؤهله لها صفاته الخاصة، لا يعولون في إنزال‏ الناس منازلهم من الكرامة على أحسابهم وأنسابهم، ولكن على مميزاتهم العقلية وفضائلهم النفسية، لأنهم كانوا يترسمون خطوات القرآن الذي يحضهم على اكتساب‏ الفضائل والتوسع في الأعمال الصالحة، و كان خلفاؤهم يحثونهم على العمل المنتج وعدم‏ العدوان على الناس.

«و الذي ساعد هؤلاء العرب على بلوغهم أبعد شأو من العظمة اتساع دائرة العلوم‏ والفنون لديهم، وانتشار المعارف الفلاحية والصناعية فيهم، لهذا ذاق جميعهم لذة العلم، وتنافسوا في ابتكار ما يمتازون به من الأعمال النافعة.

«و كان من شروط القيام بمهمة القضاء فيهم: أن يكون القضاة حاصلين على معارف‏ واسعة؛وكانوا يكتبون على كل بناء اسم المهندس الذي شيده واسم الآمر بإقامته، وقد عرف عنهم أنهم بلغوا رقيا عظيما في فنون العمارة؛وكانوا يجزلون الثناء على كل‏ ماهر في صناعته، ويشيدون بذكره تنشيطا لغيره، وقد اقتفي الفرنج أثرهم في أساليب‏ أبنيتهم وزخرفتها.

«وقد علم العرب في مدارسهم علوم الفلك والجغرافيا والمنطق والطب والنحو والهندسة والجبر والطبيعة والكيمياء الطبية والتاريخ الطبيعي، وهو علم المواليد الأرضية الثلاثة، وحشروا إلى مكتباتهم كتبا نقلوها إلى لغتهم من علوم قدماء اليونانيين وفلاسفة الإسكندرية، حتي إن(جوبرت)الذي تولي البابوية في آخر القرن العاشر كان قد أخذ بعض العلوم عن العرب فأظهرها لمعاصريه فأخذهم منها العجب واتهموه بالسحر من أجلها»

ارتقاء الفنون والصنائع في إسبانيا تحت حكم المسلمين:

يقول المؤرخ المذكور في هذا الصدد:

«و أما من ناحية الصنائع والفنون فإن عرب إسبانيا أخذوا ما عثروا عليه مما كان عند الرومانيين، والفنيقيين ، فأمكنهم بواسطتها استخراج المعادن القابلة للطرق، ومعدن‏ الزئبق، ولم يغفلوا حتي استخراج الياقوت من معادنه بقرب مدينتي ملقا وبجايكاميريس‏ وغاصوا في البحر فاستخرجوا منه المرجان واللؤلؤ؛وأتقنوا صناعة الدباغة ونسج‏ القطن والكتان والتيل؛و بلغوا أقصي الغايات في صناعة الأقمشة الحريرية والصوف. وكانت صناعتهم في عمل السيوف ونصال بقية الأسلحة مضرب الأمثال في كل مكان. فاشتهرت مدن بإتقان هذه الصناعات، فكان لا يعلي على سلاح طليطلة، ولا ينافس حرير غرناطة، ولا تزاحم السروج والجلود الواردة من قرطبة، ولا تجاري الأقمشة الصوفية التي كانت تصنع في قونسية. كما اشتهرت والنسة في صادراتها من الأوفاويه والسكر. واشتغل العرب غير ذلك باستخراج الزيوت ودودة الصباغة والعنبر الخام والبلور المعدني‏ وهو البلور المستخرج من الصخور، والكبريت. ويظن أنهم استعملوا التحاويل‏ في تجارتهم، وهي التي تسمي الآن بالكمبيالات.

«و مما يؤثر عن عرب إسبانيا أنهم عنوا أشد العناية بالفلاحة، فبلغت إلى درجة رفيعة جدا، وأبدعوا في الري أيما إبداع، ويدل عليه ما فعلوه في سهل(هوسطاه) الذي يقسمه نهر(طونة)إلى قسمين، فإنهم وقفوا تيار هذا النهر على بعد نحو فرسخين من مصبه بواسطة سد، ثم اشتقوا منه سبعة جداول: ثلاثة في ناحية، وأربعة في الناحية الأخري؛وجعلوا يفتحون كل فرع منها في يوم من أيام الأسبوع بحيث يرتفع الماء فيه إلى المستوي المطلوب، ليرووا ما يريدون ريه من الأراضي العالية. ثم عمدوا إلى كل جدول من هذه الجداول السبعة فاشتقوا منه جداول ثانوية يفتح كل منها في ساعة معينة بعد حصول الارتفاع في الجدول الرئيسي، قاصدين بذلك أن يصل الماء إلى أصغر مربع من الأرض. فكان كل جدول بفروعه الثانوية يشبه مروحة تتجه‏ جداولها إلى كل اتجاه. و لعدم انحدار سطح ذلك السهل انحدارا هندسيا تدريجيا جعلوا له مساقي صغيرة وقناطر متصلا بها مجار للمياه توزع على المزارع.

ثم صنعوا لما لا يمكن سقيه بهذه الوسائل كلها سواقي حفظوا المياه الضرورية لها في حياض‏ تستمد منها عند الحاجة. و جملة القول: أنهم أبدعوا في هندسة الري بهذا السهل إبداعا استحق معه أن يلقب ببستان إسبانيا.

«و قد توصل العرب بفنونهم الزراعية المتقنة إلى استغلال الأرض ثلاث مرات‏ في السنة؛وأدخلوا إلى إسبانيا زراعة الأرز والقطن والتوت وقصب السكر والنخل‏ والفستق والموز ودوحة الكاميلياء الحمراء والبيضاء وأزهارا وبقولا لا تحصي نقلت كلها فيما بعد إلى جميع البلاد الأوروبية».

ارتقاء العمران في اسبانيا تحت حكم المسلمين:

يقول المؤرخ المذكور أيضا في هذا الموطن:

«أما من الناحية العمرانية فكان في الجزء الذي يملكه المسلمون من إسبانيا ست‏ عواصم، وثمانون مدينة كبيرة، وثلاثمائة مدينة متوسطة، وما لا يحصي من القري‏ والكفور والضياع.

«أما المباني فكان في قرطبة وحدها 200000 بيت و600 مسجد و50 مستشفي‏ و80 كلية و900 حمام. وكان يسكنها مليون نسمة. وبالمقابلة تعلم أنها إليومليست على ما كانت عليه أيام المسلمين، ولا محل للاستغراب فإن الخلفاء تنافسوا في عمرانها وزخرفتها بما كانوا ينفقونه عليها من الأموال. ومع هذا فلا يزال محل للدهش من‏ كثرة ما بذله العرب من الأموال على مبانيهم في إسبانيا، فإن مسجد قرطبة الباقي‏ للآن يضاهي في الفخامة المسجد الأموي بدمشق. طوله 600 قدم وعرضه 250 قدما، وفي عرضه الأيمن 38 صحنا، وفي الأيسر 29 صحنا وفيه 1093 عمودا من المرمر، و فيه‏ من جهة الجنوب 19 بابا مبطنة بصفائح من نحاس التوج، و هو النحاس الذي تصنع منه‏ المدافع، وأوسطها مرصَّع بصفائح الذهب، وبأعلاه ثلاث أكبر مذهبة فوقها رمانة من العسجد، وله 4700 قنديل، أحدها من الذهب الخالص وهو الموضوع في المحراب. وكان يصرف على هذا المسجد في كل عام 24000 رطل من الزيت و120 رطلا من‏ العنبر والعود والقاقلي. و كانت هذه المدينة تضاء بالمصابيح إلى الصباح؛و كانت شوارعها تطيب بروائح الزهور؛وكانت في متنزهاتها وميادينها العامة جوقات موسيقية تطرب‏ الجمهور بأنغامها.

«أما مدينة زهرة التي كانت قائمة على بعد فراسخ قليلة من قرطبة فقد اشتهرت‏ بقصر الخليفة عبد الرحمن الثالث على شاطئ نهر الوادي الكبير، فقد كانت قباب هذا القصر مرفوعة على 4300 عمود من الرخام المحلي بأبدع النقوش، وكانت أرضه مبلطة بالرخام المختلف الألوان على شكل يستوقف الأنظار؛وكانت حوائطه مبطنة بالرخام‏ أيضا على تلك الصورة، وسقوفه منقوشة باللازورد والذهب الخالص؛وكانت في غرفه‏ فساقي مياه عذبة تنصب في أحواض من الرخام الناصع البياض والبشم المتنوع‏ الأشكال؛و كان يشاهد في قاعدة جلوس الخليفة فسقية يخرج من وسطها صورة بجعة من ذهب معلقة فوق رأسها لؤلؤة عظيمة؛وكانت تلك البجعة من صنع مدينة القسطنطينية، وأما اللؤلؤة فكان قد أهداها إلى الخليفة الملك ليون أحد ملوك شمال‏ إسبانيا؛وكانت حول القصر بساتين واسعة في وسطتها قصر منفرد ليستريح فيه الخليفة بعد رجوعه من القنص؛و كان هذا القصر الأخير مبنيا على أعمدة من الرخام ذوات‏ تيجان محلاة بالذهب. و كانت تنبع في وسطه عين ماء في صفاء البلور وتنصب من فم‏ النافورة على هيئة سنبلة القمح في إناء مستدير مصنوع من الفرفيري.

«و مع كل هذا فلم يستنفد خلفاء إسبانيا جميع أموال الدولة في زخرفة المدن والصور، بل أنفق بعضها أيضا في عمارات نافعة؛فقد بني الخليفة الحاكم قناطر وفتح طرقا أنشأ فيها محطات للسائحين؛وبني في قرطبة مسجدا. وبالتأمل فيما أسلفناه يعلم أن عرب‏ إسبانيا كانوا في مقدمة الأمم في القرن الحادي عشر بعد الميلاد، بل كانوا يفوقون‏ في مدنيتهم جميع أمم أوروبا على الإطلاق»انتهي.

هذا ما نقلناه عن الأستاذ(سدبو)العالم المؤرخ الفرنسي.

وبذلك فقد آتينا من يريد المقارنة بين حالتي إسبانيا تحت حكومتها الذاتية وحكومة الإسلام بمواد يستطيع الاعتماد عليها لبناء حكم صحيح على سموِّ الروح الإسلامية في سياسة الأمم والبلدان.

فإن كنت تعجب أن تتألف قبائل العرب إلى أمة متحابة في سنين‏ معدودة، فأعجب منه أن تنتدب هذه الأمة الفتية لتملي على الشعوب أصول الحكمة الإلهية مقترنة بمدنية فاضلة تتخذ مثالا أعلي لكل مدنية تقوم بعدها في الأرض؟

نشرت 2011 وأعيد نشرها 5-8-2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين