أثر المرأة في حياتي

بقلم: د. محمد رجب البيومي*
عن: لها أون لاين:


مَن منّا لا يعرف المرأة، وهي سراج المنزل، وبهجة الحياة، وذات البسمة الرقيقة التي تدفئ قلب الجبان؛ فينهضُ إلى الميدان متأثراً بشعاعها الوضاء؟!
المرأة الأم
أول ما عرف الإنسان في حياته، عرف حنان الأم، وتضحيتها وسهرها الدائم على راحته، وإعدادها ما يتطلَّب من رفاهية ومتاع.
كانت أمي ـ رحمها الله ـ كاتبة قارئة، في زمان كانت فيه الريفيات القرويات بعيدات عن القراءة والكتابة، ولكنَّ والدها الشيخ العالم حبب لها ولأخواتها أن يقرأن ويكتبن ويحفظن القرآن، والقرآن يومئذٍ أساس السلوك الإنساني في الريف للرجل والمرأة معاً، وقد فتحتُ عيني صغيراً، لأرى بعض السيدات يحضرن إلى منزل والدتي بعد الغروب، فتصلي معهن الصلاة، وينتظرن إلى العشاء فتأمهن صالحات قانتات، أما الوالد فبعد الغروب إلى ما بعد العشاء في المسجد القريب.
وفي الخامسة من عمري كانت أمي توقظني عند الفجر لأذهب مع والدي إلى الصلاة في المسجد، ولم أكن وحدي، بل كان كثير من الأطفال يجيئون مع آبائهم مبتهجين، فيحدثون نوعاً من المشاركة الوجدانية، وقد التحقت بالمكتب الريفي في القرية، فكانت والدتي تحرص على أن أعيد على سمعها ما حفظت من سورة جزء عم، فإذا فرغت من سورة، أخذت تحفظني التي تليها، وهي تقول كيلا تتعب مع الفقيه، فيحبّك لأنك مجتهد، فلمَّا حفظت الكثير من القرآن كانت تحرص على امتحاني، فتطلب مني أن أسمعها سورة كذا وكذا، وظلَّ هذا شأنها معي ومن جاء بعدي من الأخوة.
والقراءة ما القراءة؟ كان في منزلنا كتب متواضعة مثل "نور اليقين" للشيخ محمد الخضري، و"تنوير القلوب" للشيخ الكردي، وأولهما في السيرة النبوية ذات الأسلوب المباشر البعيد عن التحليل والتفسير، وثانيهما في الفقه وأحكامه من عبادات ومعاملات، فكان هذان الكتابان أثيرين لديها، وفي شهر رمضان تحضر صديقاتها إلى المنزل بعد العشاء، فتقرأ لهن في كتاب "نور اليقين" وقد كنت أسمع ما تقرأ فأبتهج، وأخذت بعد معرفتي القراءة أطالع السيرة، وأسألها عن بعض المعاني، فتشرح لي الموضوع كله؛ لأنها حفظته من كثرة التكرار.

لا أنسى من ذكرياتي أني وأنا في الثامنة كنتُ أصعد إلى شجرة من شجر الجميز لآكل منها جرياً على عادة الصغار في الريف بنين وبنات، وجاء إلى والدتي من يخبرها أنني كنت على الشجرة مع بنت الجيران وهي طفلة في عمري، وقد تكرر ذلك، فلمَّا ذهبت إلى المنزل قالت لي في تبسم: والدك يا رجب سيبعث بك إلى معهد دمياط الديني لتكون عالماً كالواعظ الذي يقبل الناس يده ويمشون وراءه، وقد اتفقنا على ذلك، فاترك شجرة الجميز ولا تصحب البنات، ولو علم والدك لعاقبك، عندنا متن أبي شجاع، وهو مقرر بالمعهد كما أخبرني والدك، وسأحفظه معك، لتقضي الوقتمعي، فلا تشتغل باللهو... ثم قدَّمت لي وريقات مطبوعة صغيرة هي متن أبي شجاع، وأخذتْ تقرأ السطور الأولى من كتاب "الطهارة"، وأنا قد فرغت من حفظ القرآن، وأيقنت أنَّ مرحلة الحفظ قد انتهت، ففوجئت بما لم أتوقع، وقد كان كلامها صحيحاً، فحين التحقت بالمعهد، وجدت شرح الفقه يدور حول متن أبي شجاع، فلم أكن غريباً عنه، وهذا من فضل والدتي.
وحين التحقت بالمعهد، دأب المسؤولون على أن يرسلوا نتيجة الامتحان بأرقام الدرجات، وترتيب الطالب بين الناجحين كل عام، وفي العام الأول جاءت النتيجة تُعلن ترتيبي الرابع عشر من بين ثمانين طالباً، ولم أعبأ بذلك بدءاً، ولم يحدثني أبي في شيء! ولكن أمي في المساء قد خلت بي، وقالت: لماذا تكون الرابع عشر؟ لماذا لا تكون الأول؟ أنا غاضبة منك، أريدك أن تكون أحسن الطلاب، اجتهد أكثر وأكثر، أريدك أن تكون عالماً كبيراً!
وقد دأبت على قراءة النتيجة سنوياً، فإذا كنتُ من الأوائل فرحت، وإذا كنتُ دون ما تريد، قالت:"معلهش"! السنة القادمة تعوّض ما فات! وهكذا كانت مراقبتها العلمية على قدر استطاعتها باعث عزم ونشاط.
ومرت الأيام، وجئت لها، وأنا طالب بكلية اللغة ومعي مجلة "الكتاب"، وبها مقال لي جاءتني مكافأته وهي ثلاثة جنيهات، عام 1948م، والجنيه حينئذٍ ذو قيمة! فقلت لها: هذا أجرٌ لما كتبت في المجلة، فنظرت إلى اسمي في أعلى الصفحة، وجعلت تقبله، وقال: اكتب كثيراً كثيرا لتكسب! قلت: سأكتب كثيراً، أما الكسب فعلى الله! إذ لا أعرف أني سأوفق، فصاحت بي: ماذا تقول؟! لقد وفقت الآن، فدع اليأس!
ثم تخرجت وعُينت وتزوجت وأنجبت، وهي لا تفتأ تغمرني بنصائحها حتى انتقلتْ إلى رحمة الله، وقد رثيت والدي حين سبقها إلى رضوان الله، ولكنّي عجزت عن رثائها مع شدة حزني عليها، وكنت أردد في سهوم قول أبي العلاء:
مضت وقد اكتهلت فخلت أني .:. صغير ما بلغتُ مدى الفطام
فليت أذين يوم الحشر نادى .:. فأجهشت الرمام إلى الرمام
------------------------
* عضو مجمع البحوث الإسلامية
أثر المرأة في حياتي ـ 2 ـ 
بقلم: د. محمد رجب البيومي*
مَن منّا لا يعرف المرأة، وهي سراج المنزل، وبهجة الحياة، وذات البسمة الرقيقة التي تدفئ قلب الجبان، فينهضُ إلى الميدان متأثراً بشعاعها الوضاء؟!
المرأة الرئيسة
نعم، هي الرئيسة، عميدة دار المعلمات التي كنت مدرساً بها حيناً من الدهر، لقد كانت جادّة في إدارتها مع تسامح لا أعهده في المديرين والمديرات، وكانت ترثى للضعف الإنساني فلا تؤاخذ المخطئ إلا إذا كرر الخطأ مرة بعد مرة، ولها فراسة صادقة في كلّ من يعمل معها، فراسة لا تخيب.
من مواقفها الكريمة معي: أنَّ زميلة فاضلة انتقلتْ إلى رحمة الله، فأقامت الطالبات حفل تأبين لها، وقد سبق أن مات زميل فاضل فدعيت إلى رثائه فأجبت، فلما طلب مني المشرف على الأسرة أن ألقي قصيدة في وداع الراحلة، وكنت معجباً بنشاطها وسلوكها وحسن رونقها الذي لا ينكره أحد، رأيت أن أستجيب، وأعددت قصيدة كانت صادقة الترجمة عن أحاسيسي المخلصة، وألقيتها في هدوء، وظننت أنَّ الأمر قد انتهى، ولكن بعض زملاء السوء، اتجه إلى زوجها، فأخبره أنَّ الدار أقامت حفلة تأبين لها، وأني ألقيت قصيدة تحدثت عن ذكرياتي معها، وأنها كانت تسير معي لنتنزه في الفيوم دائماً على شاطئ بحر يوسف، وهذا ما أثار الزوج إثارة مزعجة، فجاء صباحاً إلى السيدة مديرة المدرسة يطلب أن يسمع قصيدتي، وكان متجهماً، وفوجئت المديرة لأنها لم تكن تعلم شيئاً عن حفلة التأبين، فقد كانت مقصورة على مجتمع محدود، ولكنها ـ رحمها الله ـ قالت على الفور: أنا التي أمرت الشاعر أن يقول القصيدة، وقد قرأتها وليس بها إلا كل شريف من المعاني، والشاعر اليوم في إجازة، وسيحضر غداً، ولعلك تشرفنا لتسمع ما قال، فاطمأن الزوج قليلاً، ولكنه صمم على الحضور في غد.
وما إن ترك مكتب المديرة حتى أرسلت من يدعوني، فقالت لي بهدوء: أسمعني قصيدة الرثاء، فأطرقت، فقالت: ليس من العيب أن يرثي زميل زميلة كانت موضع تقديره، فانهض وأحضر القصيدة لأسمعها، فلم أجد بداً من الطاعة، وأحضرت القصيدة، وكان بها مما استرعى نظرها قولي:
أفي بحر يوسف تجري المياه .:. دوافق مواجة في مداه
وأنت بقبرك لا تنهــلين .:. فننهل منها رحـــيق الحــــياة
فقالت متألمة: أنت تتكلم عن بحر يوسف، ولم تقل إنك كنت تتنزه مع الفقيدة على شاطئه، والمجرمون حرَّفوا الكلم فنقلوا للزوج ما أثاره، وتابعت أقول:
أيسعى الزميلات عند الأصيل .:. سوانح كالطير فوق النخيل
فيخطرن في وشيهن الجميل .:. وأنت بقبرك لا تخطــرين
أتشرق يا بدر فوق السحاب .:. وتترك أختك تحت التـراب
ولا يستفزَّك هـذا المصاب.:. أقلبك من حجــر لا يلين
ونظرت فإذا التأثر الشديد يملأ وجهها، فقطعت الإنشاد، وأخذت مني القصيدة، وبعد صمت لم يمتد قالت: الرجال من الأزواج يتوهمون ما لم يكن، وعليك أن تنشئ الليلة قصيدة أخرى تكتفي فيها بالثناء على سلوكها الملتزم في دار المعلمات وحرصها على نفع الطالبات، وتمسكها بمكارم الأخلاق، ولا تزيد عن هذه المعاني، وسيأتي الزوج، فأحضرك ثم أسألك عن القصيدة كأنك لا تعلم شيئاً، فتذهب إلى مكتبك وتحضر القصيدة الجديدة وتقرؤها، فشكرت شعورها، وذهبت فنظمت القصيدة التقليدية كما حددت معانيها، وفي الصباح، كان الزوج أول حاضر للمكتب، فأمرت باستدعائي، وقالت لي: خيراً، أين كنت بالأمس؟ لقد جاء الأستاذ فلان ليشكرك على رثائك لزوجته، ويودّ أن يسمع الرثاء، وأنا أيضاً أحب أن أسمع، قلت: ولكنها في المنزل، فقالت: منزلك قريب جداً، فاذهب وأحضر القصيدة، وبعد دقائق حضرت، وألقيت القصيدة التقليدية، فقام الرجل يهزّ يدي مسلماً وشاكراً، وبادر بالخروج.
ونظرتُ للسيدة الفاضلة، فسمعتها تقول: ستكون مصيبة لو سمع القصيدة الأولى؛ لأنَّه لا يقدر مشاعر الأدباء! وخذْ من ذلك عبرة، ولا ترثِ زميلة مهما كانت عزيزة عليك، حتى أنا!
حرتُ بماذا أرد، وقلت: أبقاك الله، وأمتع الأمة بك، فأنت نادرة المثال!
هذه واحدة.. أما الثانية من لفتاتها الكريمة معي، فكانت مع مباحث أمن الدولة، إذ كان من المقرر في الخمسينيات، أن يقوم المدرسون الأوائل في فسحة الغداء، وهي تمتدّ إلى الساعة والنصف، بإلقاء كلمات وطنية، فكان الزملاء يتحدثون في تكرار عن ثورة الجيش، ومحو الإقطاع،وإلغاء الألقاب وحرب القناة، ورأيت أنَّ الطالبات ينسحبن ولا يسمعن، فإنَّ التكرار الصباحي والمسائي وفي الظهيرة قد أدخل السأم على نفوسهن، فجعلت أحاضر في يومي الأسبوعي عن الشهيرات من نساء الإسلام، كعائشة وخديجة والخيزران وزبيدة والخنساء، فوجدتُ إقبالاً منقطع النظير، وكأنَّ أحد الزملاء غاظه هذا التوفيق، فكتب إلى المباحث خطاباً مجهول التوقيع يقول إنني معروف بميولي الخاصة للإخوان المسلمين؛ لذلك لم أتحدث عن أعمال الثورة المجيدة، وترك الخطاب أثره، فإذا زائر رسمي يأتي إلى مكتب العميدة ليسألها عن ميولي الإخوانية، فتشجعتْ شجاعة باسلة، وقالت: لم أعرف عنه ولم أسمع عنه إلا كل ولاء وتقدير للثورة، ولو شممت منه ما يدلّ على انحرافه لكنت أول مطالبة باستبعاده! قال الزائر: ولكنه لم يتحدَّث إلا عن النساء المسلمات مثل عائشة وخديجة، ولم يكن كبقية الزملاء، فابتسمتْ وقالت في وداعة: الطالبات شكون لي أنَّ الحديث متكرر يسمعنه في الإذاعة المدرسية والإذاعة العامة، ويقرأنه في الجرائد اليومية وهنَّ لا يستفدن منه، وأمام هذه الشكوى طلبت من الأستاذ أن يختار شخصيات نسائية من التاريخ لتجبر الطالبات على الاستماع ولا يتهرَّبن! وقام بتوجيهي بالحديث عن هؤلاء فصادف حسن القبول، فإذا أردتم أن أمنعه فلكم ما تشاؤون! فقد تحدَّث بأمري وتوجيهي!
قال الزائر: حديثك معقول. وهنا قالت: هل هناك صلة بين عائشة والخنساء، والإخوان المسلمين؟ إنني لا أجد صلة إطلاقاً! فخرج الزائر دون أن يستجوبني، وعلمت بما كان من وكيلة الدار، فهرعت إلى السيدة الفاضلة أشكرها! فقالت: لقد أطفأت النار يا رجب، وأعفيتك من المحاضرات نهائياً، حضر الطالبات أم لم يحضرن!
لقد أثرتْ في نفسي هذه المربية تأثيراً لا حدّ له، وكنت أقارنها بكثير من سيدات الجامعات ذوات الدكتوراه والماجستير، فأجدها ترجح الكثيرات بعلم وأدب ومروءة، وحين قرأت نعيها في الصحف بعد خمسة عشر عاماً بكيت كثيراً.. كأنّي فقدت أحد الأعزاء من أفراد أسرتي.
الزوجة الحبيبة
أما الزوجة الحبيبة، فهي الفقيدة الغالية التي رثيتها بديوان كامل، خاص بها، لا يشاركها فيه أحد، وقد قلت فيه عنها في ديوان "حصاد الدمع:"
فقدتُ التي كانت تزود ســـريرتي .:. فما دونها سترٌ على النفس يُسدل
ترى غصصاً في غور نفسي دفينة .:. فتعلمها علم اليقـــــين وأجهــــــل
فتغـــــــــدو نطاســـــياً يعالج مدنفا .:. ليبرئه من دائه وهـــــو معضــــل
أجل، هي كانت في البــلايا طبيبتي .:. فيا لجراحٍ بعــــدها ليس تدمــــــل
فكانت نعيـــــم الله يبهـــــج منزلي .:. وها هو ذا عـن وجهـــــتي يتحوَّل
تعمر صباها الغضّ في موحش الثرى .:. لقد كــــدت أهوى للثرى فأقبل
هياماً به إذ صار منزل حســـــنها .:. فما شاقني من بعدها اليوم منزلي
إذا صاحت الأطفــال (ماما) فإنني .:. بوازوجـــتا، ما بين نفســي أولول
والتي أقول فيها من قصيدة أخرى:
يا أخت ضاحـكة الورود أهكذا .:. لربى الفرادس تنتمي الأزهار؟
إن كان من عبق يُشمُّ لدى الربى .:. فلديك مــنه الجوهر المعطار
تتمايلين مــع النضارة دوحة .:. زهراء فضَّض تاجــها النوَّار
مرأى، وظلّ سابغ، وفواكــه .:. أو كلَّ ذلك تحمل الأشجـار؟
وإذا كنت أشعر بمرارة في كل كلمة أتحدث بها عنها، فإنني أنقل من مقدمة "حصاد الربيع" ما يكفي بعضه عن ترجمة شعوري الصادق نحوها، إذ أقول:
"رأيتها أول مرة في ثوبها المدرسي أنيقة لطيفة كبرعم يهمّ أن يتفتَّح، فسألتها عن أخيها جمال وكان تلميذي بالمدرسة الثانوية حينئذٍ، فأخبرتني عنه في لطف رقيق، وكان طريقها إلى المدرسة يوافق طريقي، فكنت أستصبح ببراءتها الوديعة، وأنظر إليها في ميل هادئ، لم أفطن لحقيقته بادئ ذي بدء، حتى وجدتني أستوحش إذا لم أقابلها في الصباح، ثم أرى طيفها يعاودني في خلوتي فينعشني، كأنَّ شذى عاطراً يحمله النسيم، ولم أكن من إقليمها، ولكن الوظيفة قد حملتني إلى بلدها لتحتلّ مكانتها من قلبي، فأتقدَّم إلى والدها الكريم خاطباً فيجيب.
زفّت إليَّ في مفتتح صباها الأنيق، فآنسني أن أصادف لديها بساطة لا تعرف التكلف، وصراحة تضيق بالمداراة، إذ كان لسانها مرآة لقلبها، وقد انتزعتها من فصول الدراسة قبل أن تستكمل دورتها الطبيعية، فرأيت أن أعوِّضها بالاطلاع الأدبي، فاخترت لها ما يناسب من الكتب والقصص لنقرأها معاً، واغتبطت حين رأيت الفن الروائي يستولي عليها، فتقرأه بشغف، وتحرص على أن تعيد عليَّ خلاصة ما أعجبها من المواقف، ثم لا تخلي حديثها من نقد لبعض المشاهد، وأحياناً تضع خطوطاً رفيعة تحت سطور تهتم بمضمونها، ولم تمض سنواتٌ حتى راحت القصص الأدبية تكسبها أسلوباً جميلاً، وتمنحها بعض الأفكار الثاقبة، إذ كانت طبيعتها خصبة، فأتت أكلها ضعفين.
ثم هي ذات وجه نبيل، تقابل أقاربي ببشاشة ساطعة، وتصدر لهم عن كرم سابغ، وقد يطرقني الضيوف أياماً متعاقبة، وهي في كلّ يوم لا تتخلَّى عن مجهودها الزائد، وكان لا يعجبني منها أنها لا تكتفي باليسير المعقول مما اعتاد الناس لمن طال أمد مثواه.. بل ترسل من يشتري الكمالي المترف، مؤكدة أنَّ اللوم يقع عليها في التقصير لا عليَّ، فأنزل على إرادتها فيما تشاء، وكثيراً ما كنت أخرج معها حين تطلب نقوداً لشراء ملابسها، ثم أجدها عند الشراء قد ابتاعت لأطفالها، واشترت لهم ما يليق، وتركتْ نفسها، فيثور بيننا جدل ينتهي بانتصارها. وإذاكنت أوثر القراءة المتصلة، فما أكاد أرجع إلى المنزل بعد عناء اليوم، حتى ألج المكتبة قارئاً، فإنَّ صاحبتي ترى ذلك شيئاً طبيعياً لا غرابة فيه، فهي تتلهَّى بالإبرة وقت الفراغ، أو القراءة مثلي، ولا أجد في ملامحها ما يدلّ على الاعتراض، وظللت غافلاً عن تضحيتها الصامتة، حتى جاء الأطفال وأخذوا يتساءلون: لماذا لا يجلس معنا "بابا" كثيراً، فتقول لهم: هذا عمله، فاتركوه.
ولا أذكر أنَّ شجاراً نشأ بيني وبينها إلا فيما يتعلَّق بالخدم، فأنا إنسان أشفق من قتل البرغوث، وسحق الصرصور، ويسوؤني أن أجد خادماً تتألم في منزلي، وبعض هؤلاء لا يستقيم الأمر معهن إلا بشدة ضابطة، فإذا وجدن بعض التساهل أفرطن في الإهمال، وأخذن في الاحتيال الماكر إذا تأخرن في الشارع لغير موجب، وربة المنزل تعرف ذلك كله، فتأخذ بأسباب الحزم، وقد تعاقبها، فيكون ألمي لذلك شديداً، ويحدث الخلاف، وقد اعتادت أن ترى التمثيليات الطويلة في لياليها المقررة بالتلفزيون، فإذا كنت مشغولاً لا أستطيع مشاركتها، ركّزت انتباهها لترى أكثر ما شاهدت، مع تعليقات تصيب كثيراً، وأذكر أنها نقدتْ مسرحية ما نقداً لاذعاً، ولم تر مني استجابة، ثم طلعت جريدة (الأهرام) تؤكد وجهة نظرها في مقال نقديّ كتبه محرر الصفحة الفنية، فسارعت بعرض المقال عليها، فكان سرورها كبيراً، ولمعتْ عيناها ببريق لم يلبث أن ملأ وجهها فأشرق بالضياء.
إنَّ في نفسي مشاعر تضطرب وتتماوج، وأجد لذعاً خفيفاً في التعبير عنها، ثم يغلبني الشجن فأؤثر السكوت متحسراً على زمان ولَّى ولن يعود، أو متسائلاً عن هذا الزمن بما عبَّرت عنه حين قلت:
أقارن بين الأمس واليوم باكياً .:. لخطب ترامي بي من الضد للضد
فأين بهاء الأمسيات رقيقــة .:. تأرجح بالنعمى، وتنضـر بالود
تلألأ في عــيني بهيجاً رواؤها .:. كما لألأ الطل النثير عـلى الورد
حنانٌ يحيل البرد دفئاً محــبباً .:. فلـسنا به نحتاج للدفء بالوقد
يشعّ الرضا فيه فيغــني قليلنا .:. ونحيا مع الإقلال في عيشه رغد
وبعد:
فهذا قليل من كثير تحدثت فيه عن الأم والصديقة والرئيسة والزوجة الحبيبة، وقد رحلن جميعاً إلى رضوان الله (إن شاء الله)، وبقيت بعدهن أردد قول مسلم بن الوليد:
يا ليت ماء الفرات يخبرنا .:. أين تولَّت بأهلها السَّفن.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين