مِصْري الهوى

أكرم علي حمدان


أحبُّ مصر من أعماق قلبي، ليس من الآن، إذ صارت مصرُ على كلِّ لسان، بعد أن انتصرت ثورة شعبها البطل انتصارها المبدئي، فأزيح الطاغية الكبير، وتهاوت أركان النظام الفاسد، وكُسِر حاجزُ الخوف، وفُضِحَ المتسلقون والمتملقون، وظهر الأدعياءُ الكاذبون، وانكشف البُعداء المتآمرون، وتظاهر عدوُّ الأمس بأنه صديق اليوم، وتغيرت أقلامٌ كانت بالأمس تجري بمديح الطغاة، وتجتهد في تقبيح الحَسَن وتحسين القبيح، وتبدلّت جلودٌ حربائية، يلبَس أصحابُها لكل حالة لبوسَها، لا مبدأَ لهم ولا موقِف، همُّهم مَلْءُ الجيوب، والحفاظُ على المناصب، ولو على حساب الشرف والأمانة والضمير.


أُحِبُّ مِصْرَ من أعماقِ قلبي، كما يُحبُّها كلُّ مسلم أو عربي غيور، لأن مصرَ هي قلبُ الأمة النابض، وعقلها المفكر، وذراعها الضاربة، وهي مهوى أفئدة كلِّ صاحب رأي أو فكر أو أدب. كانت كذلك وأخلق بها أن تعود، يوم نهضت نهضتها القوية مطلع القرن العشرين، فخرّجت أعلام الأمة في كل مجال، في الفكر والأدب والقانون، والطب والفقه والغناء، والشعر والدعوة وقراءة القرآن، والثقافة والسياسة والحروب، نهضة لم تكن حكرًا على المصريين وحدهم، بل شارك فيها أبناء الأمة من مختلف البلدان، بفكرهم وعلمهم وأقلامهم، بزنودهم وألسنتهم وحناجرهم، لا يلمع نجم أحدهم إلا إذا وطئت قدماه ثرى مصر العزيز، وشرب من ماء نيلها الفرات، وقد اتسعت لهم مصر على اختلاف بلادهم، وبوأتهم فيها أحسن مُبَوأ، وكانت لهم الحضن الدافئ، والأم الحنون، والبيت الكبير.

أحبُّ في مصر عبقرية المكان، وتآزر الموقع والجنس والطبيعة في تكوين الشخصية المصرية العظيمة، رأيناها منذ الخامس والعشرين من الشهر المنصرم تخرجُ كالعنقاء من بين الرّماد، تنفضُ عنها ما تراكمَ عليها عبر سنين طويلة عجاف، تكالبت عليها خلالها أمم الشرق والغرب، وكاد لها كثيرون من القريبين والبعيدين، وأعانهم على ذلك من بنيها قوم آخرون، طمعًا في تحطيم هذه الشخصية الفذّة، وطيِّ صفحتها إلى أبد الآبدين، لينعم اليهودُ بفلسطين، ويبسطوا أيديهم على مصر بعد حين. رأيناها تنتفض كأنها أسدٌ جريح قام يثأر لكرامته، وتتدفق كأنها إعصار جارف مضى لا يلوي على شيء في طريقه، وتهب كأنها ريحٌ عاتيةٌ سخّرها اللهُ على البغاة ثمانيةَ أيام وعَشْرًا، لكنها لم تدمر شيئًا سوى عروش الظالمين، وكروش المنتفعين.
 
أحب في مصرَ رجالَها الكبار، تعلمت الأمةُ منهم الكثير، ويعجبني شبابُها الصاعدُ الواعد، فتيانًا وفتيات، عايشتُهم واستمعتُ لأحاديثهم، شبابٌ والله يكادُ يتفجَّر ذكاءً، لو فُتِح له المجالُ لصنع المعجزات، وأتى بالعجائب، شبابٌ هو أغلى ما تملكُ مصرُ من ثرَوات، ولذلك سُلِّطتْ عليه في زمن الغربة آلةُ الإفساد والتخريب، تحركها الصهيونية العالمية، وتعينُها ثلّةٌ ممن انعدم فيهم الإحساسُ، ومات عندهم الضمير، ولكنه شبابٌ أثبت أنه عصيٌّ على الانكسار، فجاءت ثورته تشهد بأنه أقوى من الطواغيت، وأبقى من العصابات، وتؤكد أن جبلته أنقى من أن ينخرها الفساد، ويضلها الإغواء، جاءت ثورته تُعلِّم العالم كيف تكون المدنية، وكيف تُترجم الحضارة، وكيف تُبنى النهضات.
 
أُحِبُّ مصرَ وأتمنى أن تعودَ كما نُحبُّ أن تكون، شابةً فتية، عزيزةً قوية، تقود ولا تُقاد، منبعُ الخير ومقلع البَركة، كِنانةُ اللهِ في أرضه، مصرُ التي قال فيها حافظ يومًا:

أنا تاج العلاء في مفرق الشرق ودُرّاته فرائدُ عقدي
أتمنى ذلك لأني ما زلتُ ألمحُ في المشهد تربّص المتربصين، وأسمعُ همساتِ الكائدين، وأُبصرُ بين السطور تآمر المتآمرين، وأرى ثمة غدرًا يُراد، وأمورًا تُدَبَّر بِلَيل، وأموالًا غَربية مسمومة تُعَدُّ للشراء، والطامعون كثير، والذمم رخيصة، والبائعون مستعدون.

أحب مصرَ التاريخ والحضارة، ومصر العروبة والدين، وكان يحزنني أن يؤول ذلك كله إلى قبضة عصابة جاهلة لم تعرف قدر بلدها، ولا منزلة أمتها، فانسلخت من جلدها، وارتمت في أحضان أعدائها، لتحول مصر إلى بلد يعيش على الإعانات، ويقبل العطايا والهبات، وهو البلد الذي جمع الله فيه من مصادر الثروة ما قل نظيره في كثير من البلدان التي ارتقت في سلم الغنى والرخاء. إنني أربأ ببلد كمصر أن يقبل ما يسمى معونات، وما هو في الحقيقة إلا ثمن للذل والخضوع والهوان، فما مليارٌ في العام أو ملياران، تخسر البلاد لقاءها عشرةً أو عشرين، تذهب هدرًا بسبب فساد الفاسدين، ونهب الناهبين؟
 
أُحِبُّ مِصْرَ وكنتُ أكثر من زيارتها، حتى زرتها في عام واحد سبعَ مرات، قابلت فيهن كثيرًا من رجال العلم والقلم، وأرباب الرأي وقادة الفكر، وكثيرًا ما استحوذ الحديث عن أوضاع مصر على مجالسنا، تحدثنا عن ثورة تجتاح مصر، تردّ إليها عافيتها، وتنفي عنها خَبَثَها، فكان الناس ما بين متفائلٍ ومتشائم، بل كان التشاؤم يغلب في أحيان كثيرة، لطول العهدِ بالظلم، واتصالِ حبائل النوم، فمن قائل: إن شعب مصر بطبيعته لا يثور، قالها صديق لي هو أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بدار العلوم، بعاميّة مصرية، (اللي يِتْجَوِّزْ أُمي أَؤلّو يا عمي)، ومن خائف أن الثورة إن جاءت أن ترجع بمصر للوراء مئة سنة أو يزيد، ومن معلِّلٍ ذلك بفقر الشعب وانشغاله بلقمة عيشه، وجريه الدؤوب وراء تحصيل قِرشه، ومِن مُرْجِعٍ ذلك لقوة العصابة الحاكمة، وسطوة الجلادين، ودعم الغرب اللعين، إلى ما يشبه ذلك مما يجعل من العسير تصور حصول ما حصل.
 
أُحِبُّ مِصْرَ، وأعشق منها القاهرة العريقة، تزهو بمساجدها العتيقة، وتعانق السماء بمآذنها العالية، يفوح منها عبق التاريخ، وتراث الأجيال، أحبُّ أزهرَها الشريف، كُتب له ما لم يكتب لمثيلاته من الشهرة والذيوع، ويؤذيني أن صار أمرُه في حين من الدهر إلى من لم يعرفوا مكانتَه، ولا قدروه حقَّ قدره، لأنهم لم يُحسنوا قراءةَ التاريخ، ولا فهموا سننَ الاجتماع، بل جيء بهم في غفلة من الزمن، ليشغلوا منصبًا من المناصب، ويعتلوا منبرًا من المنابر، يسبحون من فوقه بحمد الطاغية، ويهللون له ويكبرون، حتى كرههم الناس وباتوا فيهم من الزاهدين، أحب الأزهر وأحب أن يعود كما كان، صوتًا للحق مجلجلًا، ومنارة للخير متلألئة، وقبلة للعلماء والدارسين.
 
أُحِبُّ القاهرة وأجدها الأقربَ إلى نفسي وروحي من بين المدن العربية، على ما عراها في زمن حكم عصابة السوء من خراب وابتذال، فهذا من الزبد الذي يذهب جفاء، أما ما ينفع الناس ففي مصر منه الكثير، هذا يذهب وتبقى مصر وشعبها الكريم، فالشعوب أبقى من الحكومات، والأمم أعز من الطواغيت. أحب القاهرة وما فيها من ميادين، وشوارع، وبنايات، أحبها وما فيها من أسواق ومقاهٍ ومكتبات، شهدت كبار رجال الشرق ونسائه، وكيف لا أحبها وفيها نشأ البارودي، والصيرفي، والمويلحي، وشوقي، وحافظ، وطه، وأمين، والعقاد، والرافعي، والمازني، وميُّ، وشكري وشاكر ومحفوظ والطناحي؟ كيف لا ومن نيلها ارتوى عبده ورضا والسنهوري والبنا وقطب والأفغاني؟ كيف لا وفي مرابعها دب زغلول ومكرم وعرابي، كيف لا وفي مسارحها نشأت أم كلثوم، وغنت وردة، وشدا درويش؟
أحبُّ في مصرَ سبقها في عالم الكتاب، وأطمع أن تعود لما كانت عليه، يوم كانت دور نشرها تصدر خير الكتب، وألذ العناوين، من المؤلَّف والمترجَم والمحقَّق، في كل فن من الفنون، نُضِّدَتْ حروفُها الجمليةُ أحسن تنضيد، وحُقِّقت نصوصُها المتينةُ أدقَّ تحقيق، وأُخرجت طبعاتُها أجملَ إخراج، بحرفها الواضح، وحواشيها الفسيحة، وضبطها المتقن الجميل، لا تقعُ العينُ فيها إلا على ما يسرّ الناظرين، فلا أخطاءَ ولا اضطراب، ولا سهوَ ولا نسيان، ولكن حُسْنٌ في حُسْن، في المادة والأسلوب، والشكل والمضمون. أحبُّ سبقَ مصرَ ويؤسفني أن آل أمرُ النشرِ العامّ في الزّمن الغريب إلى حِفنة لم تعرف للعلم قيمة، ولا للعلماء فضلًا، فَصِرْتَ ترى كُتبَ الدار في زمنها وقد خرجت بأبشع حرف، وأسوأ تنسيق، فلا ذوقَ ولا جمال، ولا دقَّةَ ولا تحقيق، ولا ابتكارَ ولا تجديد، ولكن حبرٌ يُسَوِّد الصفحات، ومحضُ آلاتٍ تدور، وإعادة ونسخٌ وتصوير، وتكرار مُمِلٌّ واجترار.
 
أحب مصر من أعماق قلبي، وأدعو الله أن يحفظها من كيد الكائدين، ومكر الماكرين. وللحديث إن شاء الله بقية...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين