الأولاد و

أستاذي، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، جزاكم الله خيراً أنتم والإخوة بمجلة "المجتمع" على كل ما تبذلونه، خاصة فيما يتعلق بتناول المشكلات الاجتماعية برؤى إسلامية.

مشكلتي التي قد لا تلقى اهتمام كثير من الوالدين والمجتمع بصفة عامة، هي "الموبايل" والأولاد! نعم نحن نواجه هذه المشكلة الآن، ودعني أولاً أعرفكم بنا:

لقد تزوجت منذ نحو 18 عاماً، ورزقنا الله بأحمد (17 عاماً)، وزياد (14 عاماً)، وفاطمة (5 أعوام)، طبيعة عملي تقتضي تأخري حتى السادسة مساء، وأحياناً قد أعمل في العطلة؛ مما يقلل –للأسف- من فرص قضاء وقت مناسب مع الأولاد.

أما زوجتي فهي تعمل مدرسة للمساعدة في أعباء المعيشة، وكما تعلم حجم الجهود التي يقضيها المدرسون من إعداد الدروس والتصحيح؛ فهي تقضي ما لا يقل عن ساعتين في ذلك، بالإضافة إلى الأعباء المنزلية وجزاها الله عنا خيراً.

زوجتي تحاول بقدر المستطاع متابعة الأولاد، ولله الحمد هم متفوقون دراسياً، ولكن لحبهم بل وشغفهم بالألعاب الإلكترونية يقضون عليها كل أوقاتهم بعد أداء مذاكرتهم، وتستغل والدتهم ذلك في دفعهم للمذاكرة بعقاب المقصر بحرمانه من اللعب.

المشكلة التي تواجهنا أن ابننا الكبير أحمد منذ التحاقه بالمرحلة الثانوية (أي منذ عامين) وهو يلحّ في طلب "موبايل" (هاتف) مثل باقي زملائه، زوجتي وعدته إذا حصل على أكثر من 90% هذا العام فستهديه بـ"موبايل"، وقد حصل على 94% ويطالبها بالوفاء بوعدها.

اعترضتُ على زوجتي لأنها وعدته دون مشورتي، وأنا أخاف عليه من حصوله على ذلك "الموبايل" حتى لا يطلع على مواد إباحية، ودار بيننا نقاش وصل إلى حد الاحتدام، فاتفقنا على استشارتكم وجزاكم الله خيراً.

التحليل:

رغم قيمة وأهمية موضوع طلب الاستشارة وهو: هل نسمح لولد في سن 17 عاماً بامتلاك "موبايل"؟

حقيقة إني أتعجب من إثارة هذا السؤال! لأنه بعد التفريط في تربية الأولاد لدرجة أنهم يقضون -كما يقول الأخ الكريم- كل وقتهم على الألعاب الإلكترونية بعد أداء واجباتهم الدراسية! وأي ضياع وأي تفريط بعد ذلك ثم يخاف من امتلاك ابنه لـ"الموبايل" كي لا يطلع على مواد إباحية!

كما ثبت علمياً، فإن عدم ترشيد استخدام الأولاد للإلكترونيات بصفة عامة قد يؤدي إلى الإدمان مثل إدمان المخدرات، بل يفوقه لصغر سنهم، وهناك العديد من الدراسات العلمية والتطبيقية الموثقة التي تتحدث عن الأخطار العقلية والنفسية والبدنية من استخدام الأولاد للإلكترونيات (وإن شاء الله تعالى سنتناولها في موضوع مستقل).

مع كل تقديري لكل المبررات التي ذكرتها من انشغالك حتى السادسة مساء في أيام العمل، كما أنه قد تتطلب ظروف عملك انشغالك في أيام العطلات، وكذلك انشغال زوجتك بأعباء التدريس والمنزل، فإن كل ما ذكرت لا يمكن أن يكون تبريراً لتضيع أولادك.. نعم تضيع أولادك.

كما أنه رغم تقديري لخوفك على ابنك من اطلاعه على مواد إباحية عند امتلاكه لـ"الموبايل"! رغم أن هناك ما هو أخطر من ذلك! نعم، هناك مواقع الإلحاد والتنصير والتشكيك في العقيدة وإثارة الشبهات من خلال غرف الدردشة، أو مجموعات الانفتاح الفكري التي تجذب للأسف كثيراً من الشباب تحت دعوى حرية التفكير والتعبير عما يدور في غرف الظلام، ناهيك عن مواقع التطرف الديني تحت دعوى الجهاد ومقاومة ظلم الحكام، وغير كثير من الموبقات الفكرية والسلوكية، فلم يعد الشر فقط في صورة أو فيديو جنسي لعلاقة طبيعية؛ بل إن الكارثة فيما ينشر عن الشذوذ، وكأن هناك حملات منظمة لنشره وتحويله إلى حرية شخصية وسلوك طبيعي مقبول.

ومَنْ ضمن لك أنه لم يطلع على هذا الوباء، موهماً إياك أنه يلعب؟

أنا ضد مبدأ أن أمنع ابني من امتلاك "موبايل" خوفاً عليه من اطلاعه على مادة إباحية؛ لأنه لو أراد أن يرى ذلك فسيتمكن من خلال الحاسوب أو "آيباد" أو من أصدقائه؛ لذا فالمشكلة ليست في "الموبايل"، بل المشكلة الحقيقية في كيفية بناء منظومة القيم التي تضبط أداء من يستخدم "الموبايل"، لذا منع ابني من تملك "الموبايل" ليس علاجاً لمخاوفنا عليهم، ولكن الحل هو التربية.

فمن المهم تربية ابني تربية تحول بينه وبين الوقوع في هذا المستنقع، ولكن كيف؟

هذا ما سأحاول أن أركز عليه في هذه الاستشارة.

1- أنا النموذج والمثل الذي سيقتدي به ابني أولاً:

تخيل ابناً يرى والديه في البيت لا يفارقهما "الموبايل"، ولا حديث بينهما وكل منهما يعيش في عالمه الافتراضي، فما الصورة الذهنية التي سترسخ في ذهنه عن أهمية "الموبايل"، وقيمة وأهمية استثمار الوقت؟ ونوعية وطبيعة التفاعل الأسري؟ وفي المقابل، تخيل ابناً يرى والديه يحسنان استخدام "الموبايل"، لا شك أنه سيستلهم منهما قيمته في التواصل والبحث المفيد وغيرها من فوائده.

2- التربية تراكمية:

إن ثمار التربية ليست آنية، بل هي تراكمية؛ بمعنى أن ما نبذله من جهود تربوية في مرحلة الأجنة(!) والرضاعة والطفولة والصبا نجد أثره في مرحلة البلوغ؛ فخوفنا من سوء استخدام أولادنا لـ"الموبايل" واطلاعهم على مفاسد الإنترنت مؤشر على سوء تربيتنا لهم.

3- خطورة الفراغ:

"النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل"؛ لذا فهناك قاعدة أساسية من المفاهيم التربوية، وهي محاولة إشغال الأولاد دائماً بالمفيد، والأهم هو توليد الدوافع نحو ذلك ليكون قيمة في حياتهم، فعندما يكون همّ الوالدين الأوحد هو التفوق الدراسي؛ فماذا بعد أداء الأولاد لدراستهم؟ أنت حر! من المهم مشاركة الأولاد في اختيار اهتمامات ذات قيمة، وعدم تركهم لأهواء النفس.

إن العامل المؤثر لترسيخ قيمة الوقت هو بيان أثر حسن الاستفادة منه؛ فرغم أهمية التبيان المعرفي لقيمة الوقت من المنظور الإسلامي، فإن مشاركة الأولاد في قضاء وقت مع فيديو يتناول قيمة أو قراءة مشتركة لكتاب أو التريض ثم مناقشتهم في العوائد وتقديرهم لما بذلوه؛ يولد لديهم الدوافع نحو الاستفادة من الوقت وعدم إهداره، كما أن جذب اهتمام الأولاد لموضوعات يحبونها لتنال اهتمامهم، ليس من عوائده فقط القيمة المضافة لحصيلة معارفهم، بل هو يبعدهم عن سلبيات الإنترنت.

4- التعريف بالمخاطر:

قبل أن نسمح لأولادنا بـ"الموبايل"، يجب أن نوضح لهم المخاطر التي قد يواجهونها، وبيان سبب خطورتها والآثار المترتبة على التعامل معها، وكيفية تجنبها، وألا يتحرجوا أن يستعينوا بنا إذا ما تورطوا في أي منها؛ فعلى سبيل المثال؛ يمكن مد الأولاد بمادة علمية حول خطورة رؤية المواد الإباحية حتى لو كانت مجرد صورة، من وجهة نظر الشرع، وكذلك أثره على صحتهم العامة وصحتهم الجنسية، وما قد يترتب على أي مشاركة لهم من ابتزاز أو تهديد قد يجرهم إلى مستنقع الرذيلة، والاستدلال على ذلك من واقع جرائم تنشرها وزارة الداخلية، بالإضافة إلى مناقشتهم ودعمهم نفسياً.

5- بناء الثقة:

من المهم جداً التعامل بثقة مع الأولاد وبناء الثقة لديهم بقدرتهم على إدارة استخدام "الموبايل" بما يرضي الله تعالى، وعدم التشكيك فيهم.

6- المتابعة والتقييم وليس التجسس:

هناك فرق بين بث الثقة في تعاملنا مع الأولاد ومتابعتهم، وكذلك بين المتابعة والتجسس المنهي عنه شرعاً، وهناك مؤشرات يمكن الاستدلال بها على سلوك الأولاد في الإنترنت، مثل: حرصهم على الانفراد في غرفهم الخاصة، حصر معظم وقتهم على "الموبايل"، اضطرابات سلوكية أو أخلاقية أو لفظية، نوعية صداقاتهم الإلكترونية، متابعة الصفحات الإلكترونية التي يزورونها بالاتفاق مع شركات الإنترنت.

7- المشاركة الإلكترونية:

من القنوات المهمة المشاركة الإلكترونية، مثل دعوة الأولاد للاشتراك معنا في مجموعات قيمة، وأن نطلب منهم إشراكنا في مجموعاتهم، والتواصل معهم إلكترونياً.

ولكن قبل كل هذه الأسباب المهمة وبعدها الابتهال إلى الله تعالى بالدعاء بأن يحفظ أولادنا وأولاد المسلمين، وأن نأخذ بأسباب الهداية، أداء للأمانة التي سيسألنا الله عز وجل عنها؛ لذا أرى أن تُوفي الأم بوعدها، ولكن بعد الأخذ بالأسباب التي عرضنا بعضها، والله خير حافظاً.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين