إيثار الحق على الخلق للعلامة ابن الوزير محمد بن المرتضى اليماني

د. موسى الإبراهيم


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
بين يدي القراءة:
العلامة ابن الوزير اليماني رحمه الله في كتابه القيم "إيثار الحق على الخلق" كشف العتام عن المنهج الحق في أمهات المسائل العقدية والأصولية واسم الكتاب يدل على مضمونه الذي يريد المؤلف من علماء الأمة فضلاً عن عامة الناس أن يرتفعوا إليه إنه إيثار الحق على الخلق ورد الخلاف إلى المذهب الحق وسوف أقتطف في هذه القراءة شذرات من عبق هذا المنهج لعلنا نرتفع بمهمتنا إلى حيث ينبغي أن يكون عليه تفكير العلماء والمثقفين بعيداً عن الجمود وبعيداً عن منطق البلدة والشارع والحارة الضيقة وسمواً إلى الآفاق العالمية آفاق الفطرة والتفكير الحر الإبداعي المستند إلى البصيرة قبل البصر وإلى موازين الحق والإيمان قبل موازين الفلسفة والمنطق الأرسطي اليوناني الجافي الغليظ وأهم المعالم التي اقتطفها من هذا الكتاب القيم هي:
1- أقسام العلم
2- موازين معرفة الحق من الباطل
3- أنواع الاختلاف بين الناس
4- التقليد مذموم
5- الاتفاق والاختلاف
6- الاختلاف المحمود والمذموم
7- الولاء والبراء
فإلى تلك الإشراقات الجميلة بأسلوبها القشيب الندي.
إيثار الحق على الخلق
للعلامة ابن الوزير أبي عبد الله محمد بن المرتضى اليماني
في رد الخلاف إلى المذهب الحق من أصول التوحيد
أولاً: - أقسام العلم
1- الحق الذي تخاف المضرة بجهله وهو ما جاء الإسلام بوجوب معرفته أو أمر بها أو ندب إليها.
2- ما لا يدل سمع ولا عقل على وجوب معرفته.
- وبترك النوع الثاني يسهل الأمر ويهون الخطب (ويقل الخلاف)
- ليس الطلب لكل علم بمحمود ولا كل مطلوب بموجود.
- جاء في الحديث: إن من العلم جهلاً.
وقد علم الله آدم الأسماء كلها دون الملائكة وعلمنا قليلاً مع قدرته أن يؤتينا كثيراً، ولما رفعت ليلة القدر قال الرسول صلى الله عليه وسلم عسى أن يكون خيراً لكم. رواه البخاري.
- قال ابن أبي الحديد المعتزلي وقد حكى كثرة بحثه في علم الكلام:
وأسـائل  الملل التي اختلفت      فـي الـدين حتى عابد الوثن
وحـسـبـت  أني بالغ أملي     فـيـما طلبت ومبرئ شجني
فـإذا الـذي اسـتكثرت منه      هو الجاني علي عظائم المحن
فـضـلـلت في تيه بلا علم     وغـرقـت فـي يمٍ بلا iiسفن
- وقال صاحب نهاية الإقدام:
قـد طفت في تلك المعاهد كلها    وسيرت طرفي بين تلك المعالم    
فـلم  أر إلا واضعاً كف حائر      عـلى  ذقن أو قارعاً من نادم.
3- المختار في حقيقة النظر أنه: تجريد القلب عن الغفلات لا ترتيب المقدمات.
4- المحتاج إليه من المعارف الإسلامية في الأصول (وهي سبعة) أمور كلها فطرية جلية، وأن البصيرة في المعلومات كالبصر في المحسوسات كلاهما مخلوقان في الأصل على الكمال.
- أما خوض جميع المتكلمين في عقائدهم الخلافية، فمتوقف على مقدمات مختلف فيها أشد الاختلاف بين أذكياء العالم وفحول علم المعقولات من علماء الإسلام دع عنك غيرهم، ويتولد عن ذلك مفاسد منها: إيجاب ما لا يجب، وتكفير من لا يعرف ذلك، والتفرق المنهي عنه، وتمكين أعداء الإسلام من التشكيك على المسلمين، والابتداع وتوسيع دائرته.
ثانياً: -موازين معرفة الحق من الباطل
من العبر الجلية للمتأملين أن أهل الدنيا الموصوفة بأنها لعب ولهو ومتاع، قد أتقنوا موازين معرفة الحق من الباطل فيما بينهم وتمييز يسير الحيف في ذلك.
فلو أن أهل الكلام استطاعوا أن يضعوا في أمور الدين المهمة موازين حق تميز حق التمييز الحق من الباطل على وجه واضح يقطع الخلاف ويشفي الصدور ماكرهو ذلك، ولا يتهمون بالتقصير، وإنما أتوا من أنهم تركوا الاعتماد على تعلم الحق من الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الذي أنزله من أنزل الميزان ليتعرف به الحق (الله أنزل الكتاب بالحق والميزان) فترك الأكثرون الاعتماد عليه وتعرضوا لما لا يمكن من إيضاح المحارات التي لا تتضح والسير في الطريق التي لا توصل والوزن بالموازين التي لم ينزلها الله تعالى ولا علمتها رسله ولا اجتمعت عليها عقول العقلاء، وما خرج عن ذلك كله فمن أين له الوضوح؟
ثالثاً: - أنواع الاختلاف بين الناس
مدركها الفطرة
إنني تأملت جميع الاختلاف الواقع بين الناس من الملل الكفرية والفرق الإسلامية فوجدته يرجع إلى سبعة أشياء مدركها بالفطرة قريب بعون الله.
1- إثبات العلوم الضرورية التي يبتنى الإسلام على ثبوتها.
2- ثبوت الرب عز وجل
3- توحيده سبحانه
4- كماله بأسمائه الحسنى
5- ثبوت النبوات وصحتها في الجملة
6- الإيمان بجميعهم وعدم التفريق بينهم
7- ترك الابتداع في دينهم
فالستة الأول يكفر جاهدها اتفاقاً والسابع لا يكفر مخالفه عند الأكثر.
وقد لاحظت في هذا المختص هذه الأمور السبعة وأشبعت الكلام فيها نصرتها بجهدي وغاية ما في قدرتي من العبارات الواضحة, والجهاد باللسان أحد أنواع الجهاد وقد أحسن من قال
جاهدت فيك بقولي يوم يختصم الـ    أبـطال  إذ فات سيفي يوم iiيمتصع
إن الـلـسـان لو صال إلى طرق     فـي الحق لا تهتديها الذبل السرع.
- وإنما اقتصرت على هذه الأمور السبعة لأنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
رابعاً: - التقليد مذموم
 ومن أعجب العجائب دعوى المقلدين للمعارف.
- إياك أن تسلك هذه المسالك (التقليد) فإن نشأة الإنسان على ما عليه أهل شارعه وبلده وجيرانه وأترابه صنيع أسقط الناس همة وأدناهم مرتبة فلم يعجز عن ذلك صبيان النصارى واليهود ولاربات القدود والنهود، وانظر لنفسك وأنج بها.
- الحذر كل الحذر
- وليحذر كل الحذر من زخرفه العبارات وليعتبر يقول الله ورسوله:
 (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً) ويا لها من موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
- ولا ينبغي أن يستوحش الظافر بالحق من كثرة المخالفين.
ينبغي على كل مكلف أن يطرح العصبية، ويصحح النية، ويستعمل النظر بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا يقدم عليها ما لقنه أهل مذهبه، فإذا فعل ذلك وجد ترجيح الحق على الباطل في كل متضادين من الأمور بشكل جلي وواضح.
- الأمور تقسم إلى قسمين
الأول: ما لا يحتاج إلى معرفته في الدين ولا يسأل الإنسان عنه في الآخرة.
الثاني: ما يحتاج إليه في الدين وهو قسمان:
1- قسم لا خلاف في حسنه مثل النصوص الشرعية والإجماع وعلم الزهد مما أجمع عليه ومن أنفس كنبه رياض الصالحين، والترغيب والترهيب.
ومن هذا النوع كتب الفروع والعربية.
2- قسم مختلف فيه اختلافاً تخشى مضرته في الآخرة فما ليس واجباً أعرض عنه وطالب صاحبه بالدليل ثم حرر النية في طلب الحق مما أوجب الله عليك طاعة له واستعن بالله وتضرع إليه فإن الله إذا أوجب أمراً أعان عليه.
- وما دق على فطرتك من العلوم تركته لاسيما مع دقة الشبه المعارضة له ولم تكلف فيه ما لم تعلم مثل ما إن دق على بصرك من المرئيات تركته.
خامساً: -الاتفاق والاختلاف
- والقاعدة المعروفة في أن الأعلم إذا تميز شيئاً قليلاً عن أجناسه وأشباهه لم يكن بد من أن يأتي بما لا يعرفون ويفعل ما لا يألفون ويستحسن بعض ما يستقبحون. حتى قيلت في هذا الأشعار وضربت فيه الأمثال وحتى قيل: إن الاجتماع في الخفيات محال مثلما أن الاختلاف في الجاليات محال وقد أجاد في هذا المعنى من قال؟
تـسل  عن الوفاق فمر بنا      قد حـكي بين الملائكة iiالخصاما
كـذا الخضر المكرم والوجيه    الـمـكـلـم  إذ ألم به iiلماما
تـكـدر صفو جمعهما مراراً    وعجل صاحب السر الصراما
فـفـارقـه  الكليم كليم قلب    وقد  ثنى على الخضر الملاما
فـدل عـل اتساع الأمر فيما    الـكـرام  فيه خالفت الكراما
سادساً: -الاختلاف المحمود والمذموم
الاختلاف المحذر منه غير الاختلاف المحسن به، فالمحذر منه التباغض والتعادي والتكاذب المؤدي إلى فساد ذات البين وضعف الإسلام وظهور أعدائه على أهله، والمحسن هو عمل كل أحد بما علم مع عدم المعاداة لمخالفه والطعن عليه, على ذلك درج السلف الصالح من أهل البيت والصحابة والتابعين.
سابعاً: -الولاء والبراء
- عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً: أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله رواه أبو داود في السنن.
- وعن عائشة مرفوعاً: الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل وأدناه أن يحب على شيء من الجور ويبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب والبغض. رواه الحاكم في تفسير آل عمران من المستدرك وقال صحيح الإسناد.
- عن البراء بن عازب قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي .. الإسلام أوثق؟ قالوا: الصلاة قال: حسنة وما هو به، قالوا: الحج، قال: حسن وما هو به، قالوا: الجهاد قال حسن ما هو به قال: إن أوثق العرى الإسلام أن تحب في الله وتبغض في الله عز وجل.
- قال ابن الوزير في إيثار الحق على الخلق
إن هذا كله في الحب الذي هو في القلب والمخالصة لأجل الدين وذلك للمؤمنين المتيقن بالإجماع، وللمسلمين الموحدين إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة.
- وأما المخالقة والمنافعة وبذل المعروف وكظم الغيظ وحسن الخلق وإكرام الضيف ونحو ذلك فيستحب بذله لجميع الخلق إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة فلا يبذل للعدو في حال الحرب كما أشارت إليه الآية (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) ص408
- وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء.
فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز وهو المنافعة وربما عبر عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة وما كان من أمر الدين فهو الرياء الحرام.
- وذكر الإمام المهدي محمد بن المطهر: أن المولاة المحرمة بالإجماع هي موالاة الكافر لكفره والعاصي لمعصيته ونحو ذلك.
قلت –ابن الوزير- وهو كلام صحيح والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء منها: قوله تعالى: وصاحبهما في الدنيا معروفاً، وقوله: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين).
- وكذلك قصة حاطب فقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره بالخوف على أهله في مكة.
- وكذلك تبرا النبي مما فعل خالد ولم يبرأ منه بل لم يعزله من إمارته.
- وكذلك حديث شارب الخمر وفيه: لا تعينوا الشيطان على أخيكم أما إنه يحب الله ورسوله. رواه البخاري
- وكذلك (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) (إنما المؤمنون إخوة) فسمى الباغي أخاً.
- ولذلك قال أهل السنة: تجب كراهة ذنب المؤمن العاصي ولا تجب كراهة المسلم نفسه بل يحب لإسلامه حباً لا يوقع في معصية ولا يؤدي إلى مفسدة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين