النصائح الذهبيّة لتربية الأولاد ورعايتهم (2)

6 ـ كن قدوة حسنة لأولادك في قولك وفعلك وسلوكك وأخلاقك.

ينبغي أن نعلم أنّ حبّ الكمال مغروس في كلّ نفس، وعلينا أن ننمّيه في نفوس أبنائنا بتوجيهنا الدائب، وسلوكنا العمليّ، وذلك بأن نكون قدوة لهم، وعلينا أن نرفع هممهم وعزائمهم للجدّ والنشاط، ونحبّبهم به، ليرتقوا درجاته يوماً بعد يوم، ويسيروا في مدارجه ولا يتوقّفوا، ما دام فيهم عرق ينبض، ونفس يصعَد ويهبِط.. كما أنّ علينا أن نحبّب إليهم معالي الأمور، ونُكرّههم بسفسافها، ليكونوا من أهل الجدّ والاجتهاد، والعزم والثبات، فعلوّ الهمّة من الإيمان، ولن يشبع مؤمن من خير حتّى يكون منتهاه الجنّة..

وإنّ أحوج ما يحتاجه الناشئ: أن يرى القدوة الحسنة فيمن حوله، في والديه على وجه الخصوص، وإخوته وأخواته ممّن هم أكبر منه سنّاً، ففي فطرة الإنسان نزعة التقليد والمحاكاة للآخرين، وهذه النزعة لا تميّز في مرحلة الطفولة بخاصّة بين التقليد في الخير، أو التقليد في الشرّ، بل إنّنا نجد أن الكبار لا يميّزون أيضاً عندما يقعون تحت تأثير الانبهار والإعجاب بالآخرين، فيصبح التقليد أعمى، والاتّباع بغير وعيٍ ولا تمييز.. فمن ثمّ فإن خير ما يقدّم للناشئ القدوة الحسنة، في الأقوال والأفعال، والأخلاق والسلوك..

وهذه القدوة الحسنة هي خير ما يدعم المبدأ والفكرة التي نريد بثّها في نفس الناشئ، وتربيته عليها..

ـ فإذا أردنا أن نغرس الصدق، فإنّ علينا أن نكون أوّلاً صادقين..

ـ وإذا أردنا أن نغرس الأمانة في نفوس أبنائنا، فعلينا أن نكون أمناء في أنفسنا وسلوكنا..

ـ وإذا أردنا أن نغرس في نفوس أبنائنا حسن الخلق، فعلينا أن نري أبناءنا في كلامنا ومواقفنا، وغضبنا ورضانا: حسن الخلق، وضبط اللسان، وعفّة القول، والبعد عن البذاءة أو الفحش..

إنّ كثيراً من الأبناء يرون التناقض البيّن بين سلوك آبائهم وأمّهاتهم وبين ما يأمرونهم به، ويحثّونهم عليه..

ويخطئ كثير من الآباء والأمّهات عندما يظنّون أنّ أبناءهم لا ينتبهون لسلوكهم، ولا يلاحظون تصرّفاتهم، ولا يحاكمون أفعالهم ولا يقوّمونها..

إن الأبناء يَزِنُون آباءهم وأمّهاتهم ومربّيهم بميزان فطريّ دقيق، ويقيمون لهم في أنفسهم التقدير والاحترام على حسب رجحانهم في ذلك الميزان، أو خسرانهم..

أيّها الآباء والأمّهات.! لنكن صرحاء مع أنفسنا، إنّنا قبل أن نربّي نحتاج أن نتربّى، وقبل أن نتطلّب المثاليّة من أولادنا، ونكلّفهم ما نريد من كمال، ينبغي أن نكون قدوة حسنة لهم، ونموذجاً صالحاً.. نبدأ بأنفسنا، ونقوّم اعوجاجنا، ثمّ نأمر بما التزمنا به، فلن نرى بعد ذلك من يتلكّأ عن طاعتنا، أو يعاند في الاستجابة لنا..

7 ـ اقترب من أولادك، وادخل إلى تفكيرهم، وتفهّم جيّداً اهتماماتهم:

إن كثيراً من الآباء والأمّهات بعيدون عن عالم الأطفال غاية البعد، لقد ودّعوا حياة الطفولة، وعلى الرغم من أنّهم يحتفظون منها بذكريات جميلةً، يذكرونها في كلّ مناسبة، ويعذرون أنفسهم فيما كانوا عليه من اهتمامات وتوجّهات، ولكنّهم يتنكّرون لطفولة أبنائهم، ولا يحاولون أن يتفهّموا اهتماماتهم، بل يستقرّ في قرارة شعورهم موقف ردّة الفعل من كلّ اهتمامات أبنائهم وتوجّهاتهم..

ومن هذه النقطة تبدأ الفجوة بين كثير من الآباء والأمّهات وبين أولادهم، وهذه الفجوة لها مظاهر كثيرة، فهي في البدء تحول نفسيّاً بين الوالدين وبين توجيه أبنائهم، ثمّ تصدّ الولد عن أن يستجيب لتوجيه والديه، أو يتجاوب مع نصحهم وتقويمهم، ثمّ تحمل تلك الفجوة بعض الأبناء، ولو كانوا في سنّ مبكّر على التمرّد على والديهم، فلا يستجيبون لهم فيما يطلبون منهم.. كما يشعر الآباء أن أولادهم لا ينظرون إليهم نظرة التقدير والاحترام اللائقة بهم على حسب مكانتهم الفطريّة والاجتماعيّة، وفهمهم للحياة، وخبرتهم بها..

وأخيراً ينحصر أثر الآباء في حياة أولادهم بتقديم متطلّباتهم المادّيّة دون القيام بأيّ دور تربويّ أو تأثير فكريّ أو سلوكيّ، وربما قدّم الآباء لأولادهم في هذه الحالة مادّيّاً ما لا يرون في تقديمه جدوى أو أيّة فائدة..

لقد انحصر أثرهم في ذلك، ولم يعد لهم أيّ أثر آخر..!

وسبب ذلك كلّه أنّ الآباء والأمّهات لم يقتربوا من أولادهم، ولم يتفهّموا اهتماماتهم جيّداً، كما لم يتنزّلوا إلى متطلّبات السنّ التي هم فيها، فكانت ردّة فعل الأولاد من ضارّة بهم بالذات، كما كانت ضارّة بوالديهم.. وكانت النتائج ضارّة على كلّ مستوى..!

وقد ورد في الأثر عن بعض السلف: " مَن كان له صبيّ فليتصابَ له "، ومعنى ذلك أن يتنزّل إلى مستواه، فيداعبه ويلاعبه، ويتفهّم اهتماماته ومتطلّبات السنّ التي هو فيها، ليستطيع رعايته وسياسته، والدخول إلى قلبه، والتأثير فيه على أحسن وجه.

8 ـ كن واقعيّاً ومنطقيّاً في أوامرك وتكليفاتك.

إنّ على الوالدين أن يحدّدا بدقّة: ماذا يريدان من أولادهم.؟ ثمّ أن يعرفا مدى استعداد الولد في كلّ مرحلة من مراحل نشأته وتكوينه، ومدى قدرته الحقيقيّة على الاستجابة لما يطلب منه.؟ فليس النجاح التربويّ هو القدرة الفائقة على إلقاء سيل من الأوامر والتكليفات، التي قد تكون في كثير من الأحيان لا تتلاءم مع قدرة الناشئ، ولا تتناسب مع نموّه واستعداده..

ولنتذكّر أنفسنا دائماً أيّها الآباء والأمّهات والمربّون عندما كنّا صغاراً في مثل سنّ أطفالنا، وكيف كنا نضيق ذرعاً عندما كنّا نكلّف فوق طاقتنا، وكيف نلوم في أنفسنا الكبار على عدم تقديرهم لاستعدادنا، ونجد لأنفسنا الأعذار عندما لا نستجيب لما يطلب منّا..! ويحضرني دائماً في مثل هذه المناسبة، عندما أرى تكليف بعض الناشئين ما ليس في وسعهم الاستشهادُ بقول الله تعالى: { كذلِكَ كُنتُم مِن قَبلُ، فَمَنَّ اللهُ عَليكُم فتَبيّنُوا.. } [ النساء: 94 ].

إنّ علينا أن نعلم أنّ كلّ مرحلة يمرّ بها الناشئ لها متطلّباتها واحتياجاتها، كما أنّ للناشئ فيها قدرته التي لا يستطيع أن يتجاوزها، وليس من الحكمة ولا من المنطق أن نكلّفه ما لا يطيق، وقد أرشدنا النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمر الخدم، وهم قد يكونون رجالاً أقوياء أشدّاء ألاّ نكلّفهم ما لا يقدرون عليه جسميّاً، فقال صلى الله عليه وسلم: (.. ولا تكلّفُوهم ما يغلبُهم، وإن كلّفتُموهُم فأعينُوهُم عليه.. ) ( ).

وإذا كان أكثر الآباء والأمّهات لا يكلّفون أولادهم جسميّاً ما لا يقدرون عليه، لأنّ الإرهاق الجسميّ يظهر للعيان، وقد يؤدّي إلى ضرر جسميّ مادّيّ، هم أرحم بأولادهم من أن يقعوا فيه، فإنّ كثيراً من الآباء والأمّهات يكلّفون أولادهم ما لا يقدرون عليه، ولا يتلاءم معهم نفسيّاً، ثمّ يلومونهم إذا لم يستجيبوا لهم، ويتّهمونهم بالتمرّد عليهم، والخروج عن طاعتهم..

9 ـ املأ فراغ أولادك بما ينفع وقدّم لهم البديل النافع الهادف.

الحديث عن فراغ الناشئين، وكيف يملأ يحتاج إلى رسالة مستقلّة، وقد كتب في موضوعه بعض المهتمّين بأمر التربية، ولا يزال الحديث عنه موصولاً، ويحتاج إلى المزيد..

وعندما يذكر الفراغ، وكيف يملأ.؟ تقفز إلى الأذهان صورة التلفاز والفيديو، وألعاب الأتاري، وغير ذلك من وسائل التقنية الحديثة التي غزت البيوت، وتسلّلت إلى العقول، واقتحمت غرف النوم، وأصبح يشكو من ويلاتها الكثيرون، ولكنّ أكثر الشاكين يقفون متفرّجين عاجزين..!

ولا يسعنا في هذه الرسالة الموجزة أن نحيط بهذا الأمر من جوانبه، وإنّما نوضّح معالمه، ونضع الأسس الرئيسة لما ينبغي أن يكون عليه الآباء والأمّهات في علاقتهم بأولادهم في هذا الجانب، وطريقة تربيتهم لهم لاستغلال أوقاتهم، وأسلوب معالجتهم لمشكلات فراغهم..

ولاشكّ أنّ الفراغ مفسدة للإنسان كبيراً كان أو صغيراً وأيّ مفسدة، وهو على الناشئ أضرّ وأخطر، لما أنّ الفراغ يعوّده على حبّ اللهو والبطالة، وإنفاق العمر فيما يضرّ ولا ينفع، ومن هنا فإنّ مما يتأكّد على الوالدين أن يفكّرا دائماً في فراغ أولادهم: كيف يملأ.؟ وأن يملكا في ذلك المبادرة الإيجابيّة، ولا ينتظرا ما يقوم به ولدهم، ثمّ تكون مبادرتهم بعد ذلك إلى المنع والإنكار، وكان خيراً لهما وله قبل أن يتعلّق قلبه بما يضرّ ولا ينفع: أن يقدّما له البديل المناسب، ويرغّباه به، وينبغي أن يكون في ذلك البديل ما يناسب سنّ الناشئ واهتمامه، وأن يجذبه ويستهوي نفسه..

وينبغي أن يراعي الوالدان في البديل الذي يملأ فراغ الناشئ ما يلي:

ـ أن تعرف ميول الناشئ، ويحرص المربّي على توجيهها وتعديلها بطريقة إقناعيّة، تجعله يتبنّى المواقف الصحية ويتحمّس لها.

ـ أن يُعرّف الناشئ والناشئة بالهوايات الفكريّة والعمليّة النافعة، ويوجّه إلى الأخذ بما يرغب منها، ويشجّع على ذلك، فإن الاكتشاف المبكّر للهوايات الفكريّة أو العمليّة النافعة، والتوجّه إليها هو سبيل الإبداع في حياة المبدعين، وقد أثبتت الدراسات التربويّة المعاصرة: ألاّ علاقة بين الإبداع وعلو درجة الذكاء في المبدعين، وإنما الدرجة العالية من الذكاء أمر ثانويّ مكمّل، والعلاقة الأكبر لتوجّهات النفس وميولها، وما تحمله من استعداد لذلك.

ـ ألاّ يكون البديل جدّاً صارماً، يجري على وتيرة واحدة، فينفر منه الناشئ، ويعاند والديه في اختياره وإنّما يلوّن له في أنواع ذلك ونماذجه.

ـ ينبغي أن يجمع البديل بين الترفيه المشروع، وبين الهدف التعليميّ أو التربويّ الهادف، ولا يجوز أن يقتصر على اللعب الذي ينهى الشرع عنه، أو اللعب غير الهادف.

ـ أن تعرف رغبة الناشئ، وتلبّى ما أمكن، وتوجّه برفق إلى الأفضل والأكمل، وتبيّن له وجوه المنافع والمضار، فيما يهوى من الألعاب، وأسباب تحريم ما حرّم منها أو نهي عنه..

ـ وينبغي أن يعوّد الناشئ على الاعتدال في اللعب، وأن يعطي لكلّ وقت حقّه، فلا يشغله الترفيه أو اللعب عن أيّ واجب مطلوب منه، وألاّ يدفعه اللعب إلى تأخير الصلاة عن أوّل وقتها.

10 ـ كن صديقاً لأولادك، واختر لهم الأصدقاء الذين تطمئن إلى دينهم أخلاقهم وسلوكهم.

وهذه النصيحة مما يتّصل بمشكلة الفراغ على نحو كبير، إذ إنّ الفراغ الأخطر في حياة الإنسان هو: فراغ النفس، وهذا الفراغ لا تملؤه إلاّ صحبة الأقران في مثل سنّه، والعلاقات الاجتماعيّة التي تلائم الناشئ وتملأ نفسه، وهي جزء من فطرته لا يستطيع أن ينفكّ عنها، أو يتجاهلها ويمضي في حياته..

وعندما تُختار الصحبة الصالحة للناشئ بعناية، فإنّها قد تؤدّي دوراً تربويّاً يعجز الوالدان عن أدائه، وهذا ظاهر ملموس، لما أنّ تأثير الأقران في بعضهم تأثير نفسيّ غير مباشر، إنّه يكون بالمخالطة والمعايشة، والملاطفة والمؤانسة، والتقارب النفسيّ الذي يجعل الإنسان يتأثّر بجليسه ومخالطه بغير قصد منه أو شعور، فيتمكّن الصاحب من الدخول إلى قلب صاحبه، والتأثير في ميوله واتّجاهاته، بغير أمر ولا نهي، ولا عناء ولا كلفة، ومن هنا جاء في المثل: " الصاحب ساحب "، وجاء في المثل أيضاً: " قل لي من تصاحب، أقل لك من أنت "، وجاء المثل النبويّ الرائع الذي ضربه النبيّ صلى الله عليه وسلم للجليس الصالح، وجليس السوء، ففي الحديث عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ( إنما مثلُ الجليسِ الصالحِ وجليسِ السوءِ، كحاملِ المسكِ ونافخِ الكيرِ، فحاملُ المسكِ: إمّا أن يحذيَكَ، أو تبتاعَ منه، أو تجدَ منه ريحاً طيّبةً، ونافخُ الكيرِ: إمّا أن يحرِقَ ثيابَك، وإمّا أن تجدَ منه ريحاً منتنةً ) ( ).

وقد نوّه الله تعالى بأثر الصحبة الصالحة في سعادة الإنسان في الآخرة، فقال سبحانه: { الأَخِلاّءُ بعضُهم يومئِذٍ لِبعضٍ عدُوٌّ إلاّ المتّقينَ (67) يا عِبادِ لا خَوفٌ عليكُمُ اليومَ، ولا أنتُم تحزَنُون (68) } الزخرف.

كما بيّن سبحانه عاقبة صحبة الظالمين، والانسياق وراء مجالستهم وموادّتهم، والاستجابة إلى سلوكهم، وكيف أنّها تجرّ على الإنسان الشقاء في الآخرة وسوء المصير، فقال تعالى: { ويومَ يَعَضُّ الظالمُ على يديهِ، يَقولُ: يا ليتني اتّخذتُ معَ الرسُولِ سبيلاً (27) يا وَيلتا، لَيتني لم أتّخِذْ فُلاناً خَليلاً (28) لقد أضَلّني عَنِ الذِّكرِ بعدَ إذ جاءَني وكانَ الشَّيطانُ للإنسانِ خَذُولاً (29) } الفرقان.

فليحرص الآباء والأمّهات على أن يغرسوا في نفوس أولادهم منذ الصغر والطفولة ألاّ يصاحبوا إلاّ أرفع الأولاد خلقاً، وأحسنهم تربية وسلوكاً، وأن يأنفوا من صحبة الأشرار والفاسدين، أو مجالستهم، فإن ذلك حصانة لهم في مستقبل أيّامهم.

وعندما يشبّ الأبناء ويصلون مرحلة النضج والوعي فعلى الآباء والأمّهات أن يكونوا أصدقاء لأولادهم، فيعاملوهم بتقدير واحترام، وأن يستمعوا لآرائهم، ويشجّعوهم على إبداء وجهات نظرهم، ويناقشوهم فيها بموضوعيّة وتجرّد، ولا ينبغي أن يعاملوهم، وهم شباب متفتّحون على الحياة، متوقّدو الطموح والرغبات وكأنّهم أطفال صغار لا رأي لهم، ولا وزن لأفكارهم.. إنّها المشكلة التي تقطع الروابط بين الآباء والأبناء، وتهدم صلات التقدير والاحترام.

وعندما يختار الأولاد أصدقاءهم ينبغي على الوالدين أن يكون لهم رأي في ذلك، فليتعرّفوا عليهم، وليعرفوا مستوى تربيتهم، ومدى التزامهم واستقامة سلوكهم، ليطمئنّوا على سلوك أبنائهم وسلامة اتّجاههم..

وممّا يتّصل بهذه الوصيّة، وهو على درجة كبيرة من الأهمّيّة أنّ على الوالدين أن يحرصا على صحبة أولادهم معهم إلى مجالس أهل العلم والخير والفضل، وزيارتهم في بيوتهم بين الحين والآخر، وأن يعلّموهم الأدب معهم، والتواضع لهم، والحرص على خدمتهم، والتماس دعواتهم الصالحة، فلذلك بركة عظيمة على الناشئ تظهر آثارها في خلقه وسلوكه ومستقبل أيّامه..

فهذا موسى عليه السلام رسول من أولي العزم يحرص على صحبة الخضر عليه السلام ليتعلّم منه، وينتفع بصحبته كما أخبرنا الله تعالى في كتابه..

11 ـ أكثر من الدعاء لأولادك بالخير والهداية، فإنّ الدعاء يذلّل الصعاب.

لقد تركّز الحديث في الفقرات السابقة على الأسباب الظاهرة، التي ينبغي على الوالدين أن يأخذوا بها في تربية أولادهم، ولكن لا يخفى على كلّ مؤمن أنّ هذه الأسباب لا تكفي وحدها، ولا ينبغي أن نحصر أنفسنا بها لتحقيق ما نصبو إليه من آمال وأهداف، فلابدّ لنا أن نعلم: أنّ الهداية بيد الله تعالى أوّلاً وآخراً، وأنّها منحة إلهيّة لا تدرك حكمتها، ولا تدخل تحت شيء من جهد العبد وحيلته، وبخاصّة بعدما علمنا خبر حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على هداية عمّه أبي طالب، وبذله كلّ ما يستطيع في دعوته والتلطّف معه، ثمّ لم يشأ الله له الهداية، ومات على الكفر، ونزل فيه قول الله تعالى: { إنّكَ لا تَهدي مَن أحببتَ، ولكنّ الله يَهدِي مَن يَشاءُ، وهُو أعلمُ بالمهتدينَ (56) } القصص.

وإنّ من البداهة بمكان أن نعلم أنّ ذلك لا ينبغي أن يصدّنا عن بذل الأسباب والوسائل، واتّخاذ ما نستطيع من الأساليب فإن لم يكتب الله الهداية لإنسان فقد قامت عليه الحجّة بذلك، إذ إنّ أمر الهداية غيبيّ، لا يستطيع أن يتكهّن به أحد، وأدب العبد أن يفعل ما كلّف به، ولاّ يتجاوز حدود عبوديّته..

ولعلّ من حكمة ذلك أن تتعلّق القلوب بالله تعالى رغباً ورهباً، وأن يتوكّل العبد على ربّه، ويبرأ من حوله وقوّته، ولا ينسب إلى نفسه تأثيراً ولا تدبيراً..

وقد أثنى الله على عباد الرحمن إذ يقولون: { ربّنا هبْ لنا مِن أزواجِنا وذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعينٍ، واجعَلنا للمُتّقينَ إماماً (74) } الفرقان.

والدعاء بصدق وإخلاص، وتجرّد لله تعالى وتذلّل: سلاح قاطع، ودواء مجرّب، نتعلّمه من هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم وسنّته، وسيرته العطرة ومواقفه، ألم يقل له بعض الصحابة بعد حصار ثقيف في الطائف: " ادع الله يا رسول الله على ثقيف "، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ( اللهمّ اهدِ ثقيفاً، وائتِ بهم مسلمين ) فلم يكد النبيّ صلى الله عليه وسلم يصل إلى المدينة المنوّرة حتّى جاءه وفد ثقيف ليبايع على الإسلام.

وقال له أبو هريرة رضي الله عنه: " ادع الله يا رسول الله أن يهدي أمّي إلى الإسلام "، فدعا لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: ( اللهمّ اهدِ أمّ أبي هريرة إلى الإسلام )، فلم يكد يصل أبو هريرة رضي الله عنه إلى بيته حتّى سمع صوت الماء من خارج البيت، لقد كانت أمّه تغتسل لتعلن دخولها في الإسلام..

وكم رأينا في حياتنا الخاصّة والعامّة، وسمعنا من أخبار ذلك ما يزيد المؤمن إيماناً ويقيناً بالله تعالى، وتسليماً لله تعالى وتوكّلاً عليه، وأكتفي في هذه المناسبة بذكر قصّتين فيهما العبرة والموعظة:

ـ ذكر بعض العلماء أنّه كان له ولد حرِص كلّ الحرص على أن يسلك سبيل العلم والدعوة إلى الله تعالى، ولكنّه لم يستجب لدعوة والده، والتفت إلى رفاق بطّالين صاحبهم، وضيّع أوقاته معهم، مما ترك في نفس أبيه ألماً وغصّة، ولكنّه لم يستيئس منه، فكان كلّما رآه أظهر له تألّمه وشديد حزنه، ولم يصادف ذلك منه أذناً صاغية، ولا قلباً مستجيباً، فلجأ إلى الدعاء، واجتهد في التوسّل والضراعة إلى الله تعالى، فلم يلبث مدّة حتّى جاءه ولده، وقد تزيّى بزيّ طلبة العلم، فقبّل يد والده، وقال له: ها قد جئتك كما تريد.. ثمّ لزم والده، وكان من خيار طلبته علماً وعملاً، واجتهاداً في الدعوة إلى الله تعالى..

ـ وحدّثني والد فاضل أنّه اجتهد هو وزوجته في تربية ولدهما، وحثّه على حفظ القرآن الكريم، فكان يغلب عليه التهرّب واللعب، وعدم الاهتمام بحفظ القرآن أو مراجعته، وكانت الأمّ تتابعه بكلّ حرص واجتهاد، حتّى ضاقت به ذرعاً، فعزمت على تركه وإهماله، لأنّها وجدته معرضاً غير مبال بكلّ ما يتّبع معه من أساليب، فنصحها زوجها أن تجتهد في الدعاء له، عسى أن يشرح الله صدره لحفظ القرآن والاهتمام به، وتعاهدا على ذلك، فلم تمض فترة أشهر حتّى توجّه الولد إلى حفظ القرآن الكريم بكلّ رغبته واجتهاده، ثمّ لم تمض سنة ونصف السنة، حتّى كان قد أتمّ حفظ القرآن الكريم على خير وجه..

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين