الثَّبات على الإيمان بعد انقضاء رمضان

عناصر المادة

1- لزوم الاستقامة عين الكرامة2- احذر النُّكوص على الأعقاب

مقدمة:

انقضت أيّام رمضان العامرة، وانقضت لياليه الزّاهرة، وتولّت أجواؤه العاطرة، ذلك الشّهر الّذي أروى ظمأ العطشى، وشفى جراحات المرضى، وأعاد الحياة إلى الأرواح، والصّحة إلى الأبدان، وعادت به النّفوس إلى بارئها، ولكن لمّا كان لكلّ بدايةٍ نهايةٌ، ولكلّ أجلٍ كتابٌ، انقضت أيّام رمضان كسائر أيّام الدّنيا الّتي تمرّ كالسّحاب، فحزن الإنسان لفراقها، ولكنّ لحظة الفراق والتّوديع فيها ألمٌ وحُرقةٌ، لا سيّما إذا كان المودَّع حبيبًا، وعلى النّفس عزيزًا، كموسم الخيرات -الّذي نتحدّث عنه- الّذي تعظم فيه الهبات، وتُقال فيه العثرات، وتُغفر فيه الخطيئات، فإذا كان هذا فضله فكيف لا يجري للمؤمن على فراقه دموعٌ، وهو لا يدري هل بقي في عمره إليه رجوع؟!

قلوب المتّقين إلى هذا الشّهر تحنّ، ومِن ألم فراقه تئنّ، وإذا كان هذا جزَع مَن ربح فيه، فكيف حال مَن خسر أيّامه ولياليه، وماذا ينفع المفرّط فيه بكاؤه، وقد عظمت فيه مصيبته، وجلّ عزاؤه، هكذا الدّنيا تمرّ كما يمرّ رمضان، فينسى الطّائع فيها مشقّة الطّاعة، ولكن أجرها له محفوظٌ، وينسى العاصي لذّة المعصية، ولكنّ وزرها في صحيفته عليه مكتوبٌ، فالعاقل مَن جعل دهره كلّه رمضان، بالصّيام عن العصيان، والاجتهاد في طاعة الرّحمن والثّبات على الصّراط المستقيم، دون تغييرٍ أو تبديلٍ، حتّى إذا جاءه الموت حان وقت فطره، وبشّرته ملائكة الرّحمن بما لذّ وطاب مِن النّعيم المقيم، الّذي لا يحول ولا يزول في جنان الخلد، فاستحقّ مكافأة عمله وجزاء إحسانه.

1- لزوم الاستقامة عين الكرامة

قبل أيّامٍ قليلةٍ كنّا نعيش في جوٍّ عظيمٍ، مليءٍ بالسّعادة والرّاحة والرّضوان، وكان فيه التّنافس بشتّى أنواع الطّاعات والقربات، مِن دعواتٍ وصلواتٍ، وأذكارٍ وصدقاتٍ، ولقد كان رمضان مدرسة التّأديب والتّهذيب، والأخلاق والإحسان، ولكنّه مرّ مع الأيّام مرّ السّحاب، وذهب بدون شعورٍ ولا حسابٍ، وكلّ أيّامنا تنقضي، وأعمارنا تنتهي، ولم ننتبه للعبر، ولم نلتفت للتّذكّر، قال تعالى: {مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].

فهل استفدنا مِن الصّوم، وتأمّلنا روحانيّاته، وتدبّرنا فيه مراقبة الله وخشيته؟ وهل تعوّدنا فيه الصّبر على الملمّات، والعزيمة على الشّدائد والصّعوبات، وعمل الحساب ليوم الحساب، فطوبى لعبدٍ خرج مِن شهر رمضان بتلك الحصيلة مِن الخير وعمل الصّالحات، واستقام على فعل الخير والبرّ، واستعد للقاء الله، قال سبحانه: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16].

ولقد أمرنا الإسلام أن نكون دائمي الصّلة بربّنا جل جلاله، فجعل الصّلاة المفروضة تتكرّر مع العبد كلّ يومٍ وليلةٍ، وجعل الصّيام يعود كلّ عامٍ، ومثل ذلك يقال في الزّكاة وغيرها ممّا يكثر عدّه، بل تعدّى ذلك إلى النّوافل، فاستحبّ للعبد أن يستمرّ فيها ولا يقطعها، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ). [ 1 ]

وحثّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على قضاء النّافلة عند فواتها، عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ، أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، فَقَرَأَهُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَصَلَاةِ الظُّهْرِ، كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ). [ 2 ]

فمَن كان دائم الاتّصال بربّه سبحانه، متقرّبًا إليه بالفرائض والنّوافل، نال محبّة الله عز وجل ورضاه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ). [ 3 ]

ولقد كان نبيّنا صلى الله عليه وسلم يسأل ربّه الاستمرار على العمل الصّالح، عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَنَا وَاللهِ أُحِبُّكَ، قَالَ: (فَإِنِّي أُوصِيكَ بِكَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ). [ 4 ]

وأوصى معاذًا أن يدعو بذلك دبر كلّ صلاةٍ، وإنّ استمرار العبد على العمل الصّالح، كفيلٌ بتخفيف كلّ شدّةٍ وإزالتها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ). [ 5 ]

2- احذر النُّكوص على الأعقاب

مضى شهر رمضان وانقضى سريعًا كعادته، ربح فيه مَن ربح، وخسر فيه مَن خسر، وإنّ ما يعتصر له القلب حزنًا وأسىً، أن تجد -بعد رمضان- أناسًا ممّن كانوا مِن المجتهدين الطّائعين في رمضان، تجدهم بعد انتهاء ذلك الموسم العظيم قد نكصوا على أعقابهم، وعادوا إلى سيرتهم الأولى، فتهاونوا في أداء الصّلاة، وهجروا القرآن، وعادوا إلى وحل المعاصي والآثام، ليهدموا بأيديهم ذلك البناء الجميل الّذي بنوه في رمضان، وكأنّهم قد نسجوا ثوبًا ثمّ سارعوا بتقطيعه ونقضه، وكان الأولى بهم -وقد جمعوا همّتهم في رمضان- أن يحذروا فتور عزمهم، ونقض غزلهم مِن بعد ما نسجوا بينهم وبين ربّهم خيوط الوصال، فكان حالهم كحال تلك المرأة الخرقاء مِن مكّة، الّتي كانت تغزل غزلًا طول النّهار، حتّى إذا ما أتمّت ذلك الثّوب، باتت تنقضه خيطًا خيطًا، تفعل ذلك باختيارها مِن سفاهتها وحمقها، ولمّا بلغت مِن السّفه مبلغًا عظيمًا، جعلها الله مثلًا لكلّ مَن ينتكس بعد الطّاعة، ويُدبر بعد الإقبال، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النّحل: 92].

وإنّ هذا المثل وغيره ينطبق على كلّ مَن ذاق حلاوة الإيمان في رمضان، حتّى إذا ما انقضى هذا الشّهر ترى هذا الإنسان قد أعرض عن ربّه، ونقض غزله مِن بعد قوّةٍ أنكاثًا، وإنّه مِن الحماقة والسّفه أن يهدم الإنسان ما بنى، أو ينقض ما غزل.

إنّ مِن أعظم الضّلال ضلال مَن تلبّس بالغواية بعد الهداية، ذلك أنّ الله سبحانه يمنّ عليه بالهداية ويدلّه على طريقها، ثمّ ما يلبث أن يرفضها، ولخطورة هذا المسلك حذّر الله منه، وأمر نبيّه أن يتلو على النّاس نبأ رجلٍ آتاه الله علمًا وهدىً، فانسلخ منها واستبدل بالحقّ باطلًا، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175-176].

إنّه أنموذجٌ يتكرّر في كلّ وقتٍ، حيث يوجد الكثير ممّن آتاهم الله جل جلاله نعمة العلم والهداية والإيمان، ثمّ يكفرون ويتنكّرون ويعرضون.

إذا كان فعل الطّاعة جميلًا فإنّ الأجمل منه الثّبات على هذه الطّاعة والمداومة عليها، ولئن كان فعل المعصية قبيحًا في نظر الإسلام فإنّ الأقبح منه فعل السّيّئة بعد الحسنة، فليحافظ كلّ مسلمٍ على ما بناه في رمضان مِن بناء العمل الصّالح، وليداوم عليه، ولا يجعل للمعاول الهدّامة -مِن المعاصي والسّيئات- عليه سبيلًا.

خاتمةٌ:

لقد عاش المسلمون الأوّلون في جوار رمضان أحسن جوارٍ، فأكرموا جواره، واقتبسوا مِن أنواره، فكانوا في اللّيل رهبانًا، وفي النّهار فرسانًا، يعملون الأعمال الصّالحة، ويجاهدون في سبيل الله عز وجل، وإذا خرج عنهم رمضان ظلّوا على طاعة الله سبحانه، وداوموا على عبادته، لأنّ روح الصّوم أثّرت في أعماق قلوبهم، وتفاعلت في نفوسهم، وتعودّت جوارحهم عمل الصّالحات وفعل الخيرات، فكانوا بعد رمضان أهدى حالًا، وأحسن قيلًا، وأكثر عبادةً، ممّا كانوا عليه في رمضان، وهذا مِن علامة قبول الصّيام، أن يوفَّق للطّاعة بعد الطّاعة، فلنقتدِ بهم، ولنسرْ على نهجهم، ولنتمسّك بحبل التّقوى، ولنظلّ مقبلين على مائدة الطّاعة، ولا نترك ذلك الطّعام الطّيب من العبادات، حتّى ننال رضوان الله جل جلاله، فإنّ الله سبحانه يحبّ مَن تقرّب إليه، ويقبل على مَن سعى لساحته، وقطع العوائق الّتي تبعده عنه، ويبغض العصاة المجرمين، فالثّبات الثّبات على الأعمال الصّالحة حتّى الممات، وإيّاكم والنّكوص على الأعقاب، والارتداد على الأعقاب.

 

1 - صحيح البخاريّ: 6464

2 - صحيح مسلم: 747

3 - صحيح البخاريّ: 6502

4 - مسند أحمد: 22126

5 - سنن التّرمذيّ: 3382

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين