الشمس لا شعاع لها

 

يشيع الحديث عن ترقب صبيحة اليوم الذي تشرق فيه الشمس لا شعاع لها علامة على أن تلك الليلة هي ليلة القدر، ويتبرع شهود بالشهادة برؤية ذلك، ويبادر بعض المصورين المحترفين بصناعة صور يزعمون أنها رصدت ذلك.

وتلح تساؤلات عند كثيرين قد يجهر بها البعض ويتحاشى آخرون التجاهر بها خشية أن يقدح ذلك في إيمانهم.

فهذا متسائل يقول: أليست الشمس تشرق كل يوم لا شعاع لها؟ وأن ذلك -كما يقول الفلكيون -بسبب تركز العوالق الجوية قرب الأفق، والتي تحجب أشعتها فترات متفاوتة حسب شدة تركيز هذه العوالق: تماماً كما نلاحظه عند غروب الشمس أيضاً.

ويتساءل آخر كيف يحدث هذا التغير الفلكي الكوني ولا يراه الناس كلهم مسلمهم وكافرهم والشمس تشرق عليهم جميعاً؟ ولم ينقل منذ 1400 سنة عن يوم بأن الشمس طلعت فيه بصفة استثنائية مختلفة عن طلوعها كل يوم.

ثم هذه المراصد على دقتها وحساسيتها لم ترصد تغيراً في طلوع الشمس منذ بدأت مراقبة الشمس عبر وكالات الفضاء والمراصد الفلكية.

ثم إن كان هناك علامة فلكية كونية تتكرر كل سنة مرتبطة بشريعة هذا النبي الكريم فهذه معجزة يخضع لها البشر كلهم، بل هي نقل للإيمان من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ولن يستطيع كافر بعدها ان يكابر، فكيف لم يحصل ذلك أو شيء من ذلك؟

ولا تزال هذه الأسئلة تتناسل في أذهان الشباب فتطل برأسها أحياناً على شكل تساؤل مهذب، أو تقمعها أحياناً عظمة الشهر وتعظيم ليلة القدر.

ولذا لا بد من مواجهة هذه التساؤلات بوضوح، فليس في رسالة نبينا ما يحرج عقولنا، ولا ما يجعل إيماننا في أزمة مع الحس والواقع ومدركات العلوم وحقائقها.

لقد جاء ذكر طلوع الشمس لا شعاع لها في صحيح مسلم من حديث زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ، يَقُولُ: سَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ: إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؟ فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: أَرَادَ أَنْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَأَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ حَلَفَ لَا يَسْتَثْنِي، أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَقُولُ ذَلِكَ؟ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، قَالَ: بِالْعَلَامَةِ، أَوْ بِالْآيَةِ الَّتِي «أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا تَطْلُعُ يَوْمَئِذٍ، لَا شُعَاعَ لَهَا» 

وعند النظر في كلام العلماء نجد في كلامهم رحمهم الله ما يرفع الإشكال ويزيل تراكم التساؤلات المعلقة وذلك في نقاط منها:

أولاً: أن هذه علامة على ليلة بعينها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وليست علامة مطردة تتكرر في كل سنة كل ليلة قدر، وأنها مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (وقد رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ مِنْ صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ). فهذا مختص بليلة القدر تلك السنة التي وقعت فيها الرؤيا، وليس علامة أن ليلة القدر في كل سنة تكون ليلة ممطرة، وهو ما قرره القاضي عياض رحمه الله في إكمال المعلم.

ثانياً: الذي يظهر والله أعلم أن ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمر يتعلق برؤية الشمس لا بحال الشمس، فلم يكن حدثاً فلكياً كونياً تغيرت فيه حال الشمس في ذلك اليوم عن حالها في كل يوم، ولكنها في ذلك اليوم كانت ترى على هذا النحو بسبب الحالة الجوية إما لوجود سحاب رقيق يحجب أشعة الشمس بعد ارتفاعها بحيث ترى كما يرى القمر ليلة البدر، أو نحو ذلك، ومثل هذا يتكرر في أيام كثيرة في السنة، ولكنه توافق مع ليلة القدر تلك السنة، كما توافق معها في إحدى السنوات المطر في ليلتها.

ووصف الشمس بحسب رؤيتها لا بحسب حقيقتها ورد في القرآن في قوله الله تعالى عن ذي القرنين: (حَتَّى? إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) فإن المقصود بذلك وصف منظر الشمس عندما تغرب في البحر وليس حقيقة حالها.

ثالثاً: والذي يؤكد أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حالة كونية استثنائية تتعلق بحال الشمس تلك الليلة وإنما بحال الرائيين، أن كثيراً من الصحابة لم يفطن لهذ العلامة، ولذا اختلفوا في تعيين ليلة القدر على أقول كثيرة بلغ بها الحافظ ابن حجر ستة وأربعين قولاً، أكثرها مروي الخلاف فيه عن الصحابة رضي الله عنهم، فلو كان الذي حدث شيئاً كونياً استثنائياً لما حصل هذا الاختلاف الواسع في تحديد ليلتها بين الصحابة، ولاتفقوا جميعاً على الليلة التي رأوا الشمس صبيحتها في الحالة الخاصة التي لم تر في غيرها.

رابعاً: ومما يدل على ذلك أن العلامات المروية في ليلة القدر تنوعت، بل بعضها أوصاف متعارضة، كوصف ليلة القدر بأنها ليلة ساكنة صاحية، وورد أيضاً أنها ليلة مطيرة، والسبب في ذلك تنوع الحال في كل سنة حسب الحال التي وافقت ليلة القدر، لا أن هذه علامة ليلة القدر في كل سنة، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله.

ومما يبين ذلك أن أبي بن كعب رضي الله عنه لم يطلب من زر بن حبيش مراقبة الشمس ولم يستنفر الناس لرؤيتها، ولم ينقل أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستشرفون الشمس ويراقبون شعاعها ولا التابعون لهم بإحسان، وأما ما يذكر في بعض كتب الوعظ المتأخرة من حكايات رؤية الشمس تطلع لا شعاع لها، أو رؤية علامات كونية يستدل بها على ليلة القدر، فهي أخبار من كتب لا تعتني بتوثيق الأخبار وتصحيح النقول.

ولذا ذكر الإمام الطبري رحمه الله أنه لا يشترط لموافقتها رؤية شيء ولا سماعه، أي انه ليس لها علامة مطردة تعرف بها، وإنما يبقى المسلم على أصل التحري والاجتهاد في إصابتها في الأوقات التي هي أرجى فيها كالعشر الأواخر وآكدها أوتارها.

جعلنا الله ممن وافق ليلة القدر، ووفق فيها لصالح القول والعمل، وفاز فيها بالرضا والقبول.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين