تأملات في سورة الفاتحة - خطبة الجمعة التي ألقيت في جامعة الكبير بحلب
تأملات في سورة الفاتحة
للدكتور نور الدين عتر
خطبة الجمعة التي ألقيت في الجامع الكبير بحلب يوم الجمعة9/شعبان/1429
أما بعد عباد الله فإني أقرأ لكم هذه السورة التي تقرؤونها في كلِّ صلاة :أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين إهدنا الصِّراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضَّالِّين. آمين.
أيها الأخوة: تتكرَّر هذه السورة في قراءتك ـ أيها المسلم  ـ في كلِّ ركعة من ركعات الصلوات، وهي فاتحة الكتاب، ، وهي أمُّ القرآن كما ثبت في ذلك الحديث الصحيح عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فحقيقٌ بك ـ أيها المسلم ـ أن تَتَمعَّن وتتفكَّر في هذه السورة الجليلة والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ما أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان مثلها».
وقال للصحابي الجليل أبي سعيد بن المعلَّى وكان معه في المسجد : «لأعلمَّنك أعظمَ سورة في القرآن قبل أن أخرج فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت له، فقلت : يا رسول الله ، إنك قلت : كذا وكذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحمد لله رب العالمين أعظمُ سورةٍ في القرآن، وهي: السبع المثاني ، والقرآنُ العظيمُ الذي أعطيته» .
فتأمل ـ أيها المسلم ـ الحمد لله لتوجه لقلبك كلَّ حمد.
والحمدُ يتضمن ويشمل معاني الثناء الحسن الجميل بكل أنواعها معاني المدح على الصفات الكاملة المقدّسة التي لا نهاية لها، ومعاني الشكر على الإحسانات والإنعامات والإكرامات الإلهية التي شملت بها إحسان الله تبارك وتعالى كلَّ ذرة فيك يا إنسان بل كلَّ ذرة وكلِّ ذات من ذوات العوالم من أولها إلى آخرها.
ولهذا قال المحققون : أل في «الحمد لله» للاستغراق أي: لتشمل كلَّ مدح على جميع الصفات وكل شكر على جميع الأفعال في العوالم كلِّها من الأنبياء والرسل وغيرهم وغيرهم من أولياء وعالمين وصُلحاء وما يستلزم ذلك من علوم دينية وعلوم دنيوية أيضاً تعلِّم بفضل الله وكمالاته وقدسيته وتجليات أسمائه وصفاته كلِّ هذا داخل في قولك وأنت تتوجَّه إلى الله بأعظم ثناء وأعظم مدح وأعظم شكر تقول: «الحمد لله رب العالمين» نعم وهو ربُّ العالمين سبحانه وتعالى أي: مُربي العالمين، وهو خالقهم في الأول، ثم مُدبِّرهم ومُربّيهم ومنميهم ومكملهم.   والتربية تعني معنىً مهماً أقصد أن تتجلَّى بها عليك تجلي من الله بهذه الآية.
رب العالمين : التربية معناها: الإمداد والاعتناء بالشيء ، والإنفاق عليه حتى يبلغَ درجةَ الكمال اللائق به. وكلُّ ذرة مقهورةٌ لتربية الله تعالى، وكلُّ ذات من الذوات الصغيرة الضيئلة إلى المجرَّات الهائلة العظيمة مغمورةٌ ومشحونةٌ بتربية الله ربِّ العالمين، وعلَّم القرآن العالم أن العوالم كثيرة بهذه الآية التي يتعلمها كلُّ مسلم صغير وكبير ويقول: «الحمد لله رب العالمين»، وبهذا سبق كتابُ الله تعالى تقدُّم العلوم عند غير المسلمين، الذين كانوا يحكمون بالإعدام على من  يقولوا بأن هنالك عوالم متعددة غير عالمنا الذي نحن فيه حتى أيقنوا وقرروا ما جاء به القرآن مما تعلمه ـ أيها المسلم ـ بكلِّ بساطة وسهولة ويسر وأنت تقرأ وتقول : «الحمد لله رب العالمين».
اللهمَّ لك الحمد يا ربَّ العالمين، أنت أنعمتَ علينا بهذا القرآن، وبهذه السورة التي ليس في التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا الفرقان، مثلُها. فتأمل ـ أيها المؤمن ـ وتفكَّر وتدبَّر.
 ونقل عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لو شئت ملئتُ سبعين وِقْراً ـ يعني حِمْلاً ـ من سورة الفاتحة أي: من علومها وأسرارها ومعارفها. فسألني بعض الشباب المثقف: كيف قال هذا !! قلت: هذا يكفيه «الحمد لله رب العالمين» لما فيها من علوم تربية الله، وإحسانه وتدبيره، كل ذرة في العوالم، وكل ذات من ذوات صغيرة أو كبيرة.
فتفقه في العلم، وتفقه في القرآن، وتفقه في كتاب الله المفتوح المنظور أمام عينك وعقلك وقَلبك لتزداد إيماناً بأن هذا كلِّام الله الذي يقول عنه العالمِ: كيف يعبدونه ويحمدونه، ويقول الحمد لله رب العالمين.
«الرحمن الرحيم»: الرحمن: الرحمة العامة كما قال: «ورحمتي وسعت كلِّ شيء»، والرحيم: الرحمة الخاصَّة التي قال: «وكان بالمؤمنين رحيما» اللهمَّ تجلَّى علينا برحماتك العامَّة والخاصَّة وخاصَّة الخاصَّة يا رب العالمين.
وأنت الذي علمتنا أن نقول: الرحمن الرحيم، إذاً العالم مُربى لله، ومُدبَّر بتدبير الله تدبيراً تحفه الرحمانية والرحيمية، وهذا يوجب عليك أيها المسلم أن تُحسن الظن بالله، وأن لا تيأس من رحمة الله وكرمه وتيسيره وتسخيره وإنعامه أبداً، ولهذا قال في سورة يوسف: «إنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون »، كيف ييأس من رحمة الله مَنْ يقرأ كلِّ يوم مراراً وتكراراً: «رب العالمين الرحمن الرحيم»؟! ، وكيف ييأس من رحمة الله من يقرأ: «مالك يوم الدين» أي: مالك العوالم ، والسُلطة فيها ، والأمر والنهي والإجابة والإعداد والإمداد والإعطاء والمنع، والإنعام والإكرام، والأخذ بالعذاب والحساب يوم الدين سبحانه وتعالى.
 لا تيأس فالله يفيض عليك من رحمته العامَّة و من رحمته الخاصَّة.
 «الرحمن الرحيم» ويؤيدك بجلاله مالك يوم الدين .
«إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين» بعد هذا الفصل من الأسماء والصفات الشاملة للجلال والكمال
الجلال والجمال لرب العالمين «الرحمن الرحيم»: الجلال والكمال لمالك يوم الدين.
تتوجَّه إليه سبحانه بغاية التذلُّل والخضوع، مُخاطباً عظمته سبحانه وتعالى وقهاريته، وقد رقَّال ورفعك إلى أن تقول وتبلغ هذا الشرف والفضل العظيم؛ إذ تقول مخاطباً ربك، رب العالمين: «إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين» أي: لا نعبد غيرك، ولا نطلب المعونةَ من سواك. نعم. إيَّاك نعبد. لماذا نعبد؟
انتبه ـ أيها المسلم ـ يا قارئ السورة، يا من تُصلِّي يا متوجِّهاً إلى ربِّ العالمين؟ في كلِّ شيء تعبد الله في الصلاة والصوم والزكاة والحج، وكسب الحلال، وإتقان العمل بالمكتب والبيوع والمعمل والمصنع والمتجر، كلِّ هذا داخل في «إيَّاك نعبد» لا تنساه. الآية باقيةٌ للعبادة ، للصلاة أو الصوم أو الزكاة أو الحج. هذه أركان العبادات.
وأما العبادة في القرآن وفي الحديث وفي الإسلام فهي: الانقياد وأقصى غاية الخضوع والطاعة والتذلُّل والاستسلام لربِّ الأرباب، في كلِّ شيء في المعمل والمتجر، في الجامع وفي الشارع. هنا «إيَّاك نعبد» وهناك: «إيَّاك نعبد» في العمل اليسير، وفي العمل الكثير، في العمل القليل، وفي العمل الثقيل ، تعبد الله فيه بأن يكون موافقاً للشرع، محبوباً إلى الله. فيا تاجر إذا عرضت تجارتك على الله، هل تستعد أن تقف أمامه؟ .
ويا عاملاً بالمعمل إذا عَرَضْتَ عملك على الله، هل تستعد أن تقف أمامه؟ يا خبيراً في فنِّك: هل تستطيع أن تقف أمام عرضك على الله؟! «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله»، اعملوا كلَّ شيء في أمور الدنيا والآخرة والدين والعبادة، اعمل حسابك بأنها داخلة في قولك وأنت تخاطب رب العالمين: «إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين»، نعم نستعين بك يارب في كلِّ أمر صغير أو كبير، يسير أو عظيم، كلِّ ذلك لا يتم إلا بعون الله، وقد صدرت السورة لك بهذا الافتتاح: «الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين» فكيف تقول: «إيَّاك نستعين» أي: أطْلُبُ وأسألُ العون منك، في كلِّ أمر من أموري، ثم لا يجيبك، وقد علمك أن تقول: «الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين» هذا محال، ولكن حذار يا مسلم حذار حذار من الغفلة.
اقرأ وحصِّن نفسك وتمعَّن وراجع تفسير سورة الفاتحة كل فترة، لتستحضر ما تيسَّر من معانيها وتتفكَّر فيها.
«وإيَّاك نستعين» على كلِّ أمر.
«اهدنا الصِّراط المستقيم...» الهداية أعظم مطلوب وأهم مطلوب. «الصِّراط» في أصل اللغة معناه: الطريق الواسع، «المستقيم» واضح ليس فيه التواء و لا اعوجاج ولا انحراف، وأراد الله تعالى به طريق الحق، وقال قائل من المفسرين: هو الإسلام، وقال قائل: هو: القرآن ، وقال قائل هو: السنة، وقال بعضهم: هو طريق الجنة، وقال قائل: الصِّراط المستقيم: هو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم. نعم كلُّ هذه الأقوال صحيحة ومترابطة مع بعضها البعض، فمن اتبع الإسلام فقد اتبع الحق، ومن اتَّبع الحق دخل الجنة، لأنه سلك طريق الجنة، ومن اتَّبع طريق الحق لا يمكن إلا أن يكون متَّبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر والصحابة رضي الله عنهم لأنهم هم السُّفراء، وهم الوسطاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،  أنابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه في تبليغ رسالته إلى العالم في مجالسَ خاصَّة ومناسبات ومواقف عامَّة، أجلّها وأعظمها: خطبة حَجَّة الوداع التي كان يقول فيها في كلِّ مقطع : قوله صلى الله عليه وسلم «ألا هل بلغت اللهمَّ فاشهد»، ثم قال: «ليبلِّغ الشاهدُ منكم الغائب» . هذا خطاب لكلِّ الصحابة، ولا يتأتَّى هذا الخطاب من سيِّد الأحباب إلا أن يكون الصحابة مرضيين عنده، مقبولين للنقل والشهادة على الإسلام ورواية الإسلام وتعليم القرآن، وتعليم الحديث، والإبلاغ عن سيِّد المرسلين عليه وعليهم الصلاة والسلام. فانتبه جيداً ولا تغفل لهذا .
قالو:« الصِّراط المستقيم» يشهد لكلِّ هذه المعاني، وسُئل الإمام التابعيُّ الجليل إمام أهل المدينة في التفسير أبو العالية الرياحي:ما معنى الصِّراط المستقيم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر. فقال الإمام التابعيُّ الجليل سيدنا الحسن البصري رضي الله عنه: هذا أخوك أبو العالية ـ يعني أخوك في الإسلامـ  يقول: الصِّراط المستقيم: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، فقال ـ رحمه الله تعالى ـ ورضي عنه: صدق أبو العالية ونصح.
فالصحابة خير الناس بعد رسول الله، وأعظم الناس خدمةً لدين الله، فتحوا الأراضي من العالم في الشرق والغرب بعددهم القليل وسلاحهم اليسير ، وهدى الله بهم العباد، ودخلوا في دين الله أفواجاً بألطفِ الوسائل وقوة روحهم المُسْتمدَّة من رُوح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شَبَّههم علماءُ الدين في البلاد التي فتحوها بأصحاب سيدنا عيسى بالحواريين لصفائهم وروحانيتهم وقوة يقينهم ونفاد سرِّ الإيمان من قلوبهم إلى قلوب الناس، ولهذا نجد شاهد التاريخ يخبرك عن فضل الصحابة في الواقع العملي في البلاد التي دخلها الإسلام على يد الصحابة تمكَّنت تمكُّناً عظيماً جداً جداً، البلاد التي دخلها الإسلام بعد عهد الصحابة بمئة أو مئتين أو ثلاثمائة تعرّضت لهزّات وتغييرات وبدع وأمور، وكلِّما اقتربنا من عهد النبوة كانت قوة الروح أقوى لقُربها من عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال، وعلَّمنا ربنا أن نقول : «إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين اهدنا الصِّراط المستقيم» صراط رسول الله وأصحابه وفي مقدّمتهم: أبو بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين.
«صراط الذين أنعمت عليهم» بأيِّ شيء؟ كلُّ النعم في الدنيا والآخرة ، الدينية والدنيوية «غير المغضوب عليهم ولا الضَّالِّين» آمين.
«المغضوب عليهم الضالون» كلُّ الكفره بأنواعهم، ملحدون وماديون وعُبَّاد الصَّنم، ونصارى ويهود، ومجوس وصابئون، وعباد النجوم، كلِّهم داخلون في الآية
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في روايات تزيد على عشرة أحاديث، منها قوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم سيد قومه، وكان قد تنصَّر قال له: فإنَّ اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضلال. فخصَّص اليهود والنصارى بالتفسير، لكي تكون ـ أيها المسلم ـ حذراً وكأنما ينظرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغيب الذي تعانيه أمة الإسلام في هذه الأيام. أنت تقرأ كلَّ يوم مراراً وتكراراً : «اهدنا الصِّراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضَّالِّين» آمين يا رب. وما بلاء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلا التقليد الأعمى لليهود والنصارى المغضوب عليهم الضالون يقلدونهم بالتواطئ والقشور والنفايات ، ولا ينهضون للاقتباس والاستفادة من العلوم النافعة والاختراعات اللازمة والفوائد المهمة لإقامة بنيان المجتمع والصناعة والتقنيات، هذه لا يفكر فيها المرضى والمقلدون التقليد الأعمى، وهذا ما حذرت منه سورة الفاتحة، وفسَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحاديث منها قوله عليه الصلاة والسلام :« لتتبعنَّ سَنَنَ من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع. قالوا : آليهود والنصارى؟ قال: فمن»؟ هذا من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم حذَّرك ـ أيها المسلم ـ أن تنخدع بالقشور والنفايات والأكاذيب،  ووسائل الإعلام الضالة والفضائيات التي تمزِّق الصدق والإيمان واليقين والدين والفضائل، كن حذراً :«لتتبعنَّ سَنَن من كان قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جَحْر ضب ـ أي: شَقٍّ صغير في حائط لو دخلوا جحر ضب ـ لدخلتموه قالوا: آليهود والنصارى؟ قال: فمن.
اللهمَّ اهدنا الصِّراط المستقيم صراط، الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضَّالِّين اللهم آمين أستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين