العدل ـ 2 ـ

الشيخ مجد مكي

العدل في الإسلام ليس مبدءاً ثانوياً، بل هو أصل أصيل، وأساس متين يدخل في تعاليم وأحكامه كلها عقائد وشرائع وأخلاقاً.
وحين أمر الله بثلاثة أشياء كان العدل أولها. قال تعالى: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى] {النحل:90}.
وحين أمر بشيئين كان العدل أحدهما. قال تعالى:[إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ] {النساء:58}.
وحين أمر بشيء واحد أمر بالعدل. قال الله تعالى:[قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ] {الأعراف:29}.
إن التوحيد ـ وهو جوهر الإسلام ـ معنى من العدل، كما أن الشرك ضرب من الظلم، كما قال تعالى:[ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] {لقمان:13}.
ومما يدل على عناية الإسلام بالعدل: حظره للظلم، وتأكيد نهيه عنه، وتشديد الحملة على الظالمين، ووعيدهم بأشد أنواع العذاب في الدنيا والآخرة وحسبنا أن نقرأ هذه الآيات وهي قُل كمن كُثر:
[إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] {الشُّورى:40}.[إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] {الأنعام:21}.[وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] {آل عمران:86}.[وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا] {طه:111}.[وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا] {الكهف:59}.[فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا] {النمل:52}.[وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] {هود:102}.[وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ] {هود:113}.
ومما قرره القرآن الكريم: إن الله قد يبقي الدول والأمم مع الكفر، ويؤجل حسابها للآخرة، ولكنه لا يبقيها مع الظلم والبغي في الأرض.
وفي هذا يقول تعالى:[وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] {هود:117}. والمراد بالظلم هنا (الشرك)، والمعنى: أن الله تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين، إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم.
فعذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم مشركين أو كافرين، بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤوا في المعاملات وسعوا في الظلم.
فمعنى الآية:[وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ] {هود:117}. أي: لا يهلكهم بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعامل بعضهم بعضاً على السداد.
والدليل عليه أن قوم نوح وهود وصالح وشعيب إنما نزل عليهم عذاب الاستئصال لما حكى الله عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق.
إن الحكمة من وراء إرسال الرسل وإنزال الكتب هي: قيام الناس بالعدل. قال تعالى:[لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ] {الحديد:25}.
حدَّد القرآن الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب معهم تحديداً واضحاً، أن يقوم الناس بالقسط.
والتعبير هنا يشير إلى معنى دقيق رائع، وهو أن الناس هم الذين عليهم أن يقوموا بالعدل بأنفسهم، وما على الرسل إلا أن يبينوا الحق والعدل.
وهذا التعليل يعطي الحق بمعالجة الأوضاع الظالمة والمسالك المنحرفة والقضاء على آثار التسلط والبغي.
فإذا لم يستجب الناس لإقامة العدل بالحسنى فهناك سلطان القوى الذي أشارت إليه الآية الكريمة:[ وَأَنْزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ] {الحديد:25}.
والمراد بالعدل: أن يعطى كل ذي حق حقه، سواءً أكان الحق فرداً أم جماعة، أم شيئاً أم معنى، بلا طغيان، ولا خسران.
الإسلام يأمر بالعدل مع النفس، بأن يوازن بين حق نفسه، وحق ربه، وحقوق غيره كما قال صلى الله عليه وسلم لابن عمرو: (إن لبدنك عليك حقاً،.....فأعط كل ذي حق حقه).
والإسلام يأمر بالعدل مع الأسرة: مع الزوجة أو الزوجات، مع الأبناء والبنات:[ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً] {النساء:3}.وحين أراد بشير بن سعد أن يشهده على هبة معينة لأحد أولاده سأله صلى الله عليه وسلم: (أكل أولادك أعطيتهم مثل هذا؟ فقال: لا. قال: أشهد على ذلك غيري، فإني لا أشهد على جوْر).
يأمر الإسلام بالعدل مع الناس كل الناس: بالعدل مع من يحب، ومع من يكره، لا تدفعه عاطفة الحب إلى المحاباة بالباطل، ولا تمنعه عاطفة الكره من الإنصاف.
يقول تعالى في العدل مع من يحب:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ] {النساء:135}.
ويقول سبحانه في العدل مع منم تعادي:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] {المائدة:8}.
وكم حفل التاريخ السياسي والقضائي بمواقف رائعة، حكم فيها لغير المسلمين ضد المسلمين، وللرعية ضد الرعاة.
يأمر الإسلام بالعدل في القول، فلا يخرجه الغضب عن قول الحق، ولا يدخله الرضا في قول الباطل:[ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] {الأنعام:152}.
يأمر بالعدل في الشهادة، لا يشهد إلا بما علم، لا يزيد ولا ينقص، ولا يحرف ولا يبدل قال تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالقِسْطِ] {المائدة:8}.
يأمر الإسلام بالعدل في الحكم:[ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ] {النساء:58}. وووقد استفاضت الأحاديث بفضل الإمام العادل، فهو أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله، وأحد الثلاثة الذين لا ترد دعوتهم.
ومن أبرز أنواع العدل الذي شدَّد عليه الإسلام:العدل الإجتماعي، في توزيع الثروة، وفي إتاحة الفرص المتكافئة لأبناء الأمة الواحدة في التقريب الفوارق الشاسعة بالحد من طغيان الأغنياء، ورفع مستوى الفقراء، في إعطاء العاملين أجرهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين