الغضب ـ 1 ـ

الشيخ مجد مكي

ذم الغضب وحكمة خلقه في الإنسان :
روى البخاري في الأدب(6116) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : أوصني، قال: «لا تغضب» فردَّد مراراً ؛ فقال: «لا تغضب».
وروى أحمد في مسنده (6635) بإسناد حسن ، أن ابن عمرو سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يارسول الله ، ماذا يباعدني من غضب الله ؟ فقال : «لا تغضب».
وروى الطبراني في الأوسط (2353)عن أبي الدرداء ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم،فقال : دلَّني على عمل يدخلني الجنة . فقال : " لا تغضب ".
هذه وصيَّة من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم المتكرِّرة لعددٍ من أصحابه ، ألا يغضبوا ، وهو يرشدهم بهذه الوصيَّة إلى باب عظيم من مكارم الأخلاق ، الذي هو أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة ، وهو : كفُّ النفس عند الغضب .
والله سبحانه ركَّب في الإنسان غريزة الغضب ، كما ركَّب فيه غريزة الشهوة لحكمة يعلمها الله ، فبالشهوة إلى الطعام يسعى في الأرض ، ويطلب الرزق ، وبالشهوة الجنسية يندفع الإنسان إلى إشباعها بالزواج ، فيأتي النسل ، ويستمر العمران ، ويبقى النوع الإنساني إلى ما يشاء الله .
وركَّب الله في الإنسان غريزة الغضب ليدافع بها عن نفسه ، وحرماته، ولكن كل شيء إذا زاد عن حدِّه انقلب إلى ضده ، فإذا استسلم الإنسان للغضب أوللشهوة ، خرج عن طور الرُّشد الإنساني ، وأصبح حين يستسلم لشهوته كالبهيمة ، وحينما يستسلم لغضبه كالوحش المفترس .
للغضب ثلاث درجات:
الأولى: درجة الاعتدال:
بأن يغضب ليدافع عن نفسه أو دينه أو عرضه أو ماله، أو ليدافع عن الحقوق العامة ونصرة المظلوم، وتلك الحالة هي التي من أجلها خلق الغضب، فهو مخلوق لحكمة ضرورية اقتضتها طبيعة العمران، وطلبها نظام المجتمع الإنساني، فإن التنافس في هذه الحياة والتزاحم على مرافقها، يستدعي دفاعاً قوياً عن النفس والدين والمال والعرض... ولولا ذلك لفسدت الأرض بانتشار الفوضى وتقويض نظام الاجتماع، لأنَّ من لا يغضب لنفسه كان مُعرَّضاً للزوال من هذا الوجود، أو مُعرَّضاً لأن يُسخِّره غيره تسخير الدواب، ومن لا يغضب لدينه يتهاون في الالتزام بأوامر الله تعالى ويبتعد عن مرضاته.
ومن لا يغضب لعرضه لا يغار على نسائه فتختلط الأنساب وتشيع الفاحشة، ومن لا يغضب لماله فإنه لا يلبث أن يسلبه الناس منه فيصبح فقيراً مُعْدماً.
ومن لا يغضب للحقوق العامَّة وإنصاف المظلومين فقد سكت عن الحق، وأقرَّ المنكر. وإلى ذلك يشير قوله تعالى:[ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] {البقرة:251}.
الثانية: درجة التفريط:
وهي أن ينحط الغضب عن درجة الاعتدال بأن يضعف في الإنسان أو يفقد منه. وتلك الحالة مذمومة شرعاً وعقلاً، لأن من لا يغضب لنفسه أو لدينه أو لعرضه أو لماله أو للمصالح العامة فهو جبان، لم يَجْرِ على سنن الله في خلقه، وفي ذلك خطر عظيم على الاجتماع لأنه مثار الفوضى والاضطراب.
الثالثة: درجة الإفراط:
وهي أن يخرج الغضب عن حدِّ الاعتدال ويطغى على العقل والدين ويندفع في سبيل الشر اندفاعاً قد يؤدِّي إلى الهلاك من حيث لا يدري، وربما جرَّه غضبه لأجل أمر يسير إلى ارتكاب أكبر الجرائم وشر الموبقات.
بين الغضب لله والغضب للنفس :
والغضب المطلوب كفُّه هو ما كان غضباً للنفس، أما الغضب لله، فهو أمر واجب، لأنه ينبع من منابع الإيمان، لا من منابع النفس والدنيا.
والغضب لله هو ما يكون من المؤمن إذا انتهكت حرمة من حرمات الله تعالى بارتكاب معصية من المعاصي مع المجاهرة وعدم المبالاة.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حليماً في أمره كله، وكان لا يغضب ولا ينتقم لنفسه، ولكن كان إذا عُصِيَ الله أمامه إذ انتهكت حرمة من حرماته غضب لله وانتقم لله.
بيْد أن إظهار الغضب لله يجب أن يكون مقترناً بالحكمة التي تُحقِّق إزالة المنكر من جهة، وإصلاح حال العصاة من جهة أخرى.
ومن مواقف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي فيها شيء من الشدَّة غضباً لله تعالى، موقفه مع عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حينما دخل عليها فرأى أنها سترت مقدمة بيتها بقِرام ـ أي: ستر رقيق ـ فيه تماثيل، فهتكه وتلوّن وجهه وقال: (يا عائشة أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)، رواه البخاري ومسلم عن عائشة.
ونظير هذا الموقف شدَّة الرسول صلى الله عليه وسلم على أسامة رضي الله عنه وعلى من دفعه إلى الشفاعة في المرأة المخزومية التي سرقت.
أسباب الغضب:
للغضب أسباب كثيرة: منها الجدال والمُزاح والسخرية بالناس والاستهزاء بهم وإطلاق العنان للسان، فلا يبالي بسبِّ الغير أو غيبته أو النمِّ عليه وما إلى ذلك من آفات اللسان. كذلك الكبرياء والعُجْب، ومصاحبة الأشرار الذين يحسبون التهور شجاعة، وطغيان الغضب الموجب للظلم رجولة، فتتأثر نفسه بذلك، وتصبح سرعة الغضب عادة له وشعاراً.
تلك أهم الأسباب التي تثير الغضب وتُهيِّجه. والغضب المترتِّب عليها كلها قبيح شرعاً وعقلاً.
التحذير من الغضب:
قال الله تعالى:[إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ] {الفتح:26}. فذمّ الكفار بما تظاهروا به من الحميَّة الصادرة من الغضب والتَّهوُّر بالباطل، ومدح المؤمنين بما أنزل الله عليهم من السكينة والثبات والوقار.
الشديد من يملك نفسه عند الغضب :
روى البخاري(6114) ومسلم (2609) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم :" ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنَّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".
وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تعدُّون الصُّرَعَة فيكم؟" قالوا: الذي لا تصرعه الرجال، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب".
والصُّرَعة: هو بطل المصارعة، الذي يغلب مصارعيه وينتصر عليهم، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن بطل المصارعة ليس هو الذي يستحق أن يقال عنه الرجل الشديد، وإنما الذي يستحق هذا الوصف هو قوي الإرادة الذي يملك نفسه عند مثيرات الغضب.وهذه - وايم الله - هي القدرة على النفس والتحكم في زمامها .
علاج الغضب:
الغضب إما أن يكون طبيعة في المرء، وإما أن يكون مكتسباً بالمخالطة.
فمن كان الغضب له طبعاً فعلاجه باجتناب الأسباب المثيرة له، كالتكبُّر والافتخار والتعيير والمزاح والجدل.
ويجب عليه أن يُروّض نفسه دائماً على التواضع والحِلْم، ويُذكِّرها بعظمة الله وحده، وأنه مخلوقٌ من ماءٍ مَهين، وأنه صائر إلى الفناء، ومن كان هذا شأنه لا يليق به أن يكون متكبراً فخوراً.
ومن كان غضبه مكتسباً بالعادة والاختلاط فعلاجه اجتنابه الأسباب المهيجة للغضب، واجتناب مصاحبة الأشرار والابتعاد عنهم، وأن يعلم أن ليس للإنسان أن يغضب إلا لدينه أو عرضه أو ماله... وما وراء هذا فالغضب فيه رذيلة يجب الاحتراس منها.
وهذا طريق الوقاية من الوقوع في ثورة الغضب ، وهو نوعان :
أولا : العلاج العلمي ، وثانيا : العلاج العملي .
 أما العلاج العلمي فيتحقق بتذكُّر هذه الحقائق:
1 - أن يتذكرالأجرالعظيم للذين يكظمون غيظهم ابتغاء مرضاة الله عز وجل:
فإن ثار نار غضبه وجَبَ عليه أن يذكر على الفور قوله تعالى:[ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] {آل عمران:134}. والكظم: هو الكفُّ بضبط النفس وبالصَّفح عن المسيء.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما جرع عبد جرعة أعظمَ أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى" رواه أحمد وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كظم غيظاً وهو يقدر على أن يُنفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة ويخيَّر عن أي الحور شاء". رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن معاذ وأنس رضي الله عنهما.
إذا علم من اشتدَّ غضبه أن الله يوكل ملكاً يردُّ عنه، خفَّت حِدَّة غضبه، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وكان عنده أبو بكر رضي الله عنه، فأغضبه رجل وأكثر عليه وهو ممسك عنه، ثم انتصر أبو بكر رضي الله عنه لنفسه فقام عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أوجدت عليَّ يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: (لا، ولكنك لما كنت ساكتاً أنزل الله ملكا يجيب عنك، فلما انتصرت لنفسك ذهب الملك وحضر الشيطان فما كنت لأجلس مع الشيطان) .
ادفع بالتي هي أحسن :
بكظم الغيظ والعفو تنقلب عداوة الناس إليك محبة ، ونفورهم منك إلفة ومودة لك :
[وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] {فصِّلت:34}.
[وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا] {الفرقان:63}.
[وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ] {الشُّورى:37}.
2 ـ أن يُخوّف نفسه بعقاب الله، فيقول: قدرة الله عليَّ أعظم من قدرتي على هذا الإنسان، فلو نفّذتُ غضبي عليه فما آمنُ أن يمضي الله ُ غضبه عليَّ يوم القيامة، وأنا أحوج ما أكون إلى العفو.
3 ـ أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب، بأن يتمثَّل صورة غيره في حالة غضبه هذا هو العلاج العلمي، أما العلاج العملين فيتحقق بالخطوات التالية :
1 ـ الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم. فيقول: أعوذ بالله من الشيطان، هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال عند الغضب.لأن الشيطان يتحكَّم بالإنسان عند الغضب وعند الشهوة ، ونستطيع أن نقهر الشيطان ونذله ونضعف كيده، إذا اعتصمنا بالله ولجأنا إليه ،وقلنا هذه الكلمة من أعماق قلوبنا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
روى البخاري ومسلم عن سليمان بن صَرَدٍ قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم ورجلان يسْتبّان، وأحدهما قد احمرّ وجهه وانتفخت أوداجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد) قالوا له: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعوّذ بالله من الشيطان الرجيم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا غضب الرجل فقال: أعوذ بالله، سكن غضبه).
 
2 ـ الالتصاق بالأرض (السكون) فإن لم يزل الغضب  فليجلس إن كان قائماً، ويضطجع إن كان جالساً، روى الترمذي قال صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب جمرة توقد في القلب، ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه، فإذا وجد أحدُكم من ذلك شيئاً فإن كان قائماً فليجلس، وإن كان جالساً فلينم) والأوداج :عروق العنق.
روى الإمام أحمد (2163) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا غضب أحدكم فليسكت) وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً، فيتلفَّظ بكلمات قد يكون فيها كفر والعياذ بالله، أو لعنٌ أو طلاقٌ يهدم بيته، أو سبٌّ وشتم يجلب له عداوة الآخرين، وبالجملة فالسكوت هو الحل لتلافي كل ذلك.
 
3- تأمُّل الغاضب نفسه لحظة الغضب: لو قُدِّر لغاضب أن ينظر إلى صورته في المرآه حين غضبه لكره نفسه ومنظره، فلو رأى تغيُّر لونه، وشدَّة رعدته وارتجاف أطرافه، وانقلاب سحنته، واحمرار وجهه، وجحوظ عينيه، لأنِفَ من نفسه واشمأز من هيئته، ومعلوم أنَّ قبح الباطن أعظم من قبح الظاهر، فما أفرح الشيطان بشخص هذا حاله! نعوذ بالله من الشيطان.
4- الدعاء: سلاح المؤمن ، فليطلب من ربه أن يخلِّصه من الشرور والآفات والأخلاق الردئية... وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (.... اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الإخلاص في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بالقضاء، وأسألك بَردَ العيش بعد الموت، وأسألك لذَّة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضرَّاء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زيِّنا بالإيمان واجعلنا هداة مهتدين ) رواه النسائي والحاكم.
اللجوء إلى الوضوء:فإن لم يسكن غضبه فليتوضأ أو يغتسل، روى أبو داود قال صلى الله عليه وسلم: (إذا غضب أحدكم فليتوضأ). والمقصود من هذا أن ينتقل الإنسان من حالة إلى حالة ليتفكَّر في قبح الغضب وجمال الحلم، ومتى اتَّجه عقله إلى هذه الناحية سكن غضبه.
روى أحمد وأبو داود عن عطية بن عروة السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب من الشيطان، وإنَّ الشيطان خُلِق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين