البعثة المحمدية  منحة للإنسانية

الشيخ: مجد مكي


إعلان فريد في تاريخ الإنسانية:
قال الله تعالى مخاطباً نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.
هذا إعلان فريدٌ من نوعه، جاء في كتاب خالد، يتلى في كل زمان ومكان...
إن سعة هذا الإعلان، وإطاره الكبير ومساحته الزمانية والمكانية تجعلان هذا الإعلان خارقاً للعادة، فإن مساحته الزمنية تحوي جميع الأجيال والأدوار التاريخية التي تتلو البعثة المحمدية، ومساحته المكانية تشع العالم كله... فإن الله سبحانه لم يقل: إننا أرسلناك رحمة لجزيرة العرب، أو للشرق أو للغرب، أو لقارة مثل آسية، بل قال: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.
إن سَعَة هذا الإعلان، وشموله وعظمته، وسموَّه، واستمراره، وخلوده، يقتضي أن يقف عنده الفكر الإنساني متأمِّلاً... لأننا لا نجد في تاريخ الأديان والنِّحل، وفي تاريخ الحضارات والفلسفات، بل في تاريخ العالم كله، وفي المكتبة الإنسانية بأسرها مثل هذا الإعلان المحيط بالكون كله، والأجيال البشرية كلها، والأدوار التاريخية بأجمعها، حتى إن تعاليم الأنبياء السابقين وسيرتهم التي وصلت إلينا هي مجرَّدةٌ عن مثل هذا الإعلان.
أما اليهودية: فإنها تنظر إلى الله كربِّ بني إسرائيل، وصحف (العهد القديم) والكتب المقدسة عند اليهود تخلو من ذكر الله كربِّ العالمين،... فالبحث في سيرة نبي من أنبيائهم كموسى وهارون وداود وسليمان عليهم صلاة الله وسلامه، عن مثل هذا الإعلان عبث، وإضاعة وقت، فإن هذه الديانة لم تكن في مرحلة من مراحلها ـ رسالة رحمة ومساواة للجيل الإنسانيِّ كلِّه من غير تمييز عنصري، ولن تشجع فيها الدعوة إلى هذه الديانة خارج بني إسرائيل أبداً...
أما النصرانية: فقد جاء في (الإنجيل) تصريح ـ والعهدة عليه ـ بأن المسيح صرَّح بأنه لم يبعث إلا ليرعى خراف بني إسرائيل الضالة...وحين لُفت نظره إلى بعض المرضى، الذين لم تكن لهم صلة رحم ونسب ببني إسرائيل اعتذر وقال: إني لست ذلك الرجل يعطي خبز الأولاد للكلاب ـ كما في إنجيل متى ـ
أما الديانات الشرقية والآسيوية الأخرى: وخاصة الهندوكية، فإنها لا تختلف كثيراً عن النموذج السابق، بل إنها تسبق الديانات السابقة في تقديس النسب والسلالة، وتوزيع الناس طبقات توزيعاً ظلماً جائراً.
 فقد كان (المنبوذون) في المجتمع الهندي محرومين من كل نوع من أنواع التكريم والشرف والمساواة، ومن أبسط مبادئ الإنسانية لا يجوز لهم تحصيل العلم، والتعليم والتدريس، والتطلع إلى القيم الروحية...
فقد خصَّت دراسة (فيدا) وتقديم القرابين،والنذر لآلهتهم بالبراهمة فحسب...
ولم يكن يعرف أهل الهند وراء جبال (الهملايا) دنيا، ولا صلة لهم بالعالم الخارجي، ولا بالشعوب الأخرى... فالبحث عن مثل هذا الإعلان عن نبي أو مصلح عبث وإضاعة جهد ووقت.
قيمة الرحمة التي اقترنت بالبعثة المحمدية كماً وكيفاً:
لتقدير هذا الإعلان، لابدَّ من قيامه بمقداره وحجمه، وبجوهره ووصفه.
وهذا الإعلان يشمل هذين النوعين، ويجمع بين الناحيتين، فإن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وشخصه وتعاليمه الساميتين، أفاضت على الإنسانية مِسحةً جديدة من الحياة والنشاط، وكانت السبب المباشر في شفائها من أسقامها وعلاتها، وفي حلِّ معضلاتها، ونهاية آلامها وأحزانها، وكانت هذه المعطيات المحمدية منقطعة النظير بحساب الكمية والكيفية...
(الرحمة) : لفظ شاع استعماله في حياتنا، وهو يطلق على كل شيء ينال الإنسان به نفعاً وراحة... أما أنواع الرحمة ودرجاتها فلا حصر لها.
يقدم أحدنا الماء البارد إلى أخيه العطشان، ويدل الغريب على الطريق، يحرِّك المروحة في يوم صائف شديد الحر، الأم تحنو على طفلها، الأب يربي ولده ويعلمه، ويزوده بحاجات الحياة، المدرِّس يدرِّس تلاميذه، ويمنحهم ما عنده من العلم... وهكذا إطعام الجائع، وإكرام الضيف وإكساء العريان، كل ذلك من مظاهر الرحمة وألوانها... وهي تستحق منا كل تقدير واعتراف...
ولكن أكبر مظهر من مظاهر الرحمة، وأروع صورة من صورها الجميلة أن ينقذ أحدُنا أخاه من مخالب الموت.
طفل صغير بريء تراه في حالة الاحتضار كاد يلفظ نفسه الأخير، الأمُّ تقف إلى جواره تبكي، أظلمت الدنيا في ناظريها، وانقطع أملها من فلذة كبدها، ومأوى حنانها وحبها، الأب يسعى هنا وهناك حائراً هائماً على وجهه، فلا يجد راقياً ولا أنيساً، هنالك يأتي طبيب حاذق، كما ينزل الملك من السماء، ويقول: مهلاً... لا داعي للقلق، ولا مُوجب لليأس، ويضع في فم الطفل قطرات قليلة من الدواء...فيفتح عينيه، وتدب فيه الحياة...
ماذا يقال لهذا الطبيب؟ إنه ملك الرحمة، أرسله الله لإنقاذ هذا الطفل، وإعادة الحياة إليه؟ هنالك تتلاشى كل أنواع الرحمة التي قدَّمنا، وتذوب أمام هذا المظهر الرائع الأخاذ من الرحمة، إنها ليست منةً على الطفل فقط، بل على أسرته كلها.
ترى أعمى يمشي متوكئاً على عصاه، قد شارف هُوَّة عميقة أو بئراً، قد تكون خطوته التالية خطوة الموت، فيهرول إليه عبد من عباد الله يأخذ بحُجزه ويمنعه عن الوقوع في هذه الهوة... أفلا نسميه ملك الرحمة؟
هذا شاب يافع، قرة عين أبويه، وكفيل عائلته الفقيرة، قد أشرفَ على الغرق في نهر يحاول أن يطفو على الماء، دون جدوى، فيقفز إليه رجل مجازفاً بحياته، ويأخذ به إلى ساحل النجاة، فيحمله ربُّ الأسرة، ويضمه إلى صدره بحب وحنان، ولا ينسون فضله على أسرتهم الصغيرة مدى الدهور... فهل تساوي مظاهر الرحمة الأولى هذه الرحمة العظيمة الغالية؟.
البعثة المحمدية أنقذت العالم من الشقاء والهلاك:
ولكن آخر مظهر من مظاهر الرحمة وذروة سنامها، هي أن ينقذ رجلٌ الإنسانية كلها من الهلاك. وهناك فرق عظيم بين هلاك وهلاك، وبين خطر وخطر، ذلك هلاكٌ سطحيٌّ محدود، وخطر عابر، قد يزول، وهذا هلاك أبديٌّ وخطر مستمر لا يزول...
إن أمامنا بحراً هائجاً مائجاً من الحياة، لا يلتقم الأفرادَ والآحادَ فحسب، بل إنه يبتلع الأمم والبلاد، ويهضم الحضارات والمدنيات، ترتفع أمواجه الهائلة، كأفواه التماسيح الفاغرة، وتنقضُّ على الجموع البشرية كالأسود الضارية؟
والمشكلة أنه كيف نعبُرُ هذا البحر الهادر الزاخر الذي لا يعرف الرحمة؟ وكيف ننزل بسفينة الإنسانية إلى برِّ الأمان ؟.
ولا يكون صاحب الفضل الأكبر، ولا يعتبر أكبر منقذ للإنسانية، وصاحب الفضل عليها، إلا من يجدف بهذه السفينة التي تلعب بها العواصف الهوجاء، والأمواج الهائلة كالجبال، والتي غاصت بركابها، وغاب الملاح والرُّبان، ثم يوصلها إلى ساحل النجاة ؟..
فما هي أمواج هذا البحر، وما هي تماسيحه الضارية الشرسة؟
إنها الجهل بخالق هذا الكون، ورب العالمين، بصفاته العلية، وأسمائه الحسنى، والوقوع في حبائل الشرك والوثنية، وعبادة الأصنام، إنها بلادة حس الإنسانية، وذهولها عن نفسها، وغفلتها عن خالقها وبارئها...
إنها عبادة المادة والمعدة، وتعدِّي الحدود، وانتهاك الحرمات، والتهرب من أداء الواجبات.
إن أكبر خطر على الإنسانية أن ينسى الإنسان قيمته ومداركه، وغاية حياته...
إنه يتحول إلى ذئب مفترس أو أفعى أو ثعبان، حين يذهل الإنسان عن هذه الحقائق الكبرى يتحوَّل بحر الحياة إلى نار متأججة، ولهب مرتفع... هنالك يزدري الإنسان أخاه الإنسان، ويفترسه... وينقلب الإنسان إلى أكبر ذئب في هذه الغابة الإنسانية...تخجل أمامه الذئاب ويتحول شيطاناً مريداً، تستحيي منه الشياطين.
في هذه الفترة الرهيبة المظلمة تهب نفحة من نفحات الرحمة الإلهية، وتدب الحياة في رفات الإنسانية الخامدة الهامدة...
تصوير العصر الجاهلي وتهيؤه للانتحار والانهيار:
ذلك هو الوضع الذي ساد العالم في القرن السادس المسيحي، إنه انتحار جماعي عام للبشرية.. تساقط وتهالك للوقوع في خندق الموت..
لقد صوَّر القرآن العظيم هذا المنظر تصويراً دقيقاً، لا يصوره أي رسام أو أديب أو روائي أو مؤرخ:[ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] {آل عمران:103}.
لم يكن العصر الجاهلي مجرد انحطاط اجتماعي أو خلقي؟ أو قضية خمر وقمار، أو عبث واستهتار، أو ظلم واستبداد؟ أو وأد البنات؟ كلا... إنه كان قضية وأد الإنسانية كلها.
إنه الإنسان الذي كرَّمه الله يريد أن يَقْفِزَ في خنق عظيم هائل ترتفع منه ألسنة اللهب... ورفع رجله وجمع ثيابه، وكاد يقع فيه... وما هي إلا دقائق حتى يغيب في هذا الظلام المخيف... لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بإيجاز وإعجاز: [وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا] {آل عمران:103}.
وذلك ما صوره لنا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم تصويراً دقيقاً بمثال رائع بليغ قال صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الناس: كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغْلبنه، فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم، وأنا آخذ بحُجَزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها).
والحديث الآخر: (مثلي ومثلكم كمثل رجل أتى قومه فقال: إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا على مهلهم فنجوا،وكذبته طائفة فصبحه الجيش واجتاحهم).
لقد كانت قصة الجاهلية الأولى أن حجرها حاد عن موضعه، وتحطم وتهشم، ولم يبق أمل في الإصلاح، ووقف الإنسان أمام المحكمة الإلهية ينتظر الحكم الإلهي الأخير في مصيره، هناك بعث محمد صلى الله عليه وسلم ونادى صوت السماء:[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}.
منح البعثة المحمدية:
1 ـ عقيدة التوحيد النقية الواضحة.
2 ـ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية.
3 ـ كرامة الإنسان وسموه.
4 ـ محاربة اليأس وبعث الأمل والرجاء والثقة والاعتزاز.
5 ـ الجمع بين الدين والدنيا، وتوحيد الصفوف المتنافرة والمعسكرات المتحاربة.
6 ـ تعيين الأهداف والغايات في ميادين الحياة...

وصلى الله على الهادي البشير سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين