لمحات من الهَدْي النبوي في الوقاية والصيانة (4)

15) بنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحس الحضاري للأمة وبسط عباءة الخلافة في الكون، فاعتنى بالحياة، فسقى الهِرَّة، وقال" إنها ليست بنَجَس، إنما هي من الطَوّافين عليكم والطَوّافات " (1) وزاد صلى الله عليه وآله وسلم " هي كبعض أهل البيت " (2)

وحذَّر صلى الله عليه وآله وسلم من أدْنَى العدوان، فقال " دخلت امرأة النار في هِرَّة ربطتها فلم تُطعمها ولم تَدَعْها تأكل من خَشاش الأرض" (3)

ورآه صلى الله عليه وآله وسلم جَمَلٌ، فحَنَّ إليه وذَرَفَت عيناه، فمسح صلى الله عليه وآله وسلم عليه فسكت، فقال لصاحب الجَمَل " أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي مَلَّكَك الله إياها، فإنه شكا إليَّ أنك تُجِيعه وتُدْئِبه " (4)

وقال صلى الله عليه وآله وسلم عن جبل أُحُد " أُحُد جبل يحبنا ونحبه " (5) وحَنَّت إليه نخلة كان يخطب عندها، فقد صحَّ أن امرأة من الأنصار قالت " يا رسول الله ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه، فإن لي غلاماً نجارا؛ قال صلى الله عليه وآله وسلم " إنْ شئتِ " فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر الذي صُنِع، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أخذها فضَمَّها، فجعلت تَئِن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت، قال جابر بن عبد الله الأنصاري " بكت على ما كانت تسمع من الذِّكْر " (6)

وضمن ذلك الشمول العمراني التفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأسرة باعتبارها اللَّبِنَة الأولى في بناء الأمة، فضم إليها جملة وصايا، فكان مما قال " إن الله حَـرَّم عليكم عُقوق الأمهات ووَأْد البنات ومَنْع وهات، وكَرِه لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " (7)

16) أكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وحدة المرجعية، فحذر من وُلوج مَظان التحريف أو التعرض للشبهات، ونبه على مضار تبعيض التناوُل؛ فحين أتى عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتابٍ قد أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم غضب صلى الله عليه وآله وسلم، وقال" أمُتَهَوِّكُون فيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نَقِيَّة، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتُكَذِّبوا به، أو بباطل فتُصَدِّقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وآله وسلم كان حَيّاً ما وَسِعَه إلا أن يَتَّبِعَني " (8)

فلما تولَّى عمر بن الخطاب أُتِيَ برجل من عبد القيس، مسكنه ببلاد السوس، كان قد نسخ كتاب النبي دانيال عليه السلام، عن أهل الكتاب، فتـلا عمر بن الخطاب علي ذلك الرجل قول الله تعالى:﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3]. ثم قـال له " انطلق فامْحُه، ولا تقرأه، ولا تُقْرِئْه أحداً من الناس " (9).

17) بَيَّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحِكَم والمقاصد المترتبة على شمولية المُباح والعفو في أحكام الوحي، فاعتمد صلى الله عليه وآله وسلم إطلاق الطاقات وإنهاض الدوافع مع رعاية المقاصد، واعتبر الفوارق بين القيود والحدود، فأرْسَى معالم الضبط والتحذير في جُمَلٍ عريضة من المحرمات والمكروهات شملت " الخمر، والمَيْتَة، والخنزير، والأصنام " (10) و " مَنع وهات، وقيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال " (11) و" دماءكم، وأموالكم " و " الفواحش " (12)

18) شدَّد صلى الله عليه وآله وسلم على خطر الغُلُو والتَّنَطُّع والتشدد والتَّعَمُّق في الدين، وما قد تسوق إليه تلك الآفات من مَظان الخلاف ودواعي الشِّقاق، فقـال صلى الله عليه وآله وسلم " إياكم والغُلُـو في الدين، فإنما هلك مَنْ كـان قبلكـم بالغُلُو في الدين" (13) وقال" فإنما هلك مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فَدَعوه" (14)

19) ذُكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم رجال يشتدون في العبادة، فقال " تلك ضَراوَة الإسلام وشِرَّتُه، ولكل ضراوة شِرَّة، ولكل شِرَّة فَتْرَة، فمَنْ كانت فَتْرَته إلى الكتاب والسُّنَّة فَلَأْمَ ما هو، ومَنْ كانت فَتْرَته إلى معاصي الله، فذلك الهالك " (15)

ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم السداد، أو القرب منه على قدر الطاقة، فكان مما قال صلى الله عليه وآله وسلم " إن الدين يُسْر، ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسَدِّدوا، وقارِبوا، وأبْشِروا " (16)

20) شَدَّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خصوصية النوع البشري، وأثر هذه الخصوصية على سلامة وعي الإنسان بقيمته وموقعه ودوره؛ لئلا تضطرب موازين الفطرة وطبائع الحركة، فلعن صلى الله عليه وآله وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال (17) والمُخَنَّثين من الرجال والمُتَرَجِّلات من النساء (18) والمتبرجات من النساء (19).

ونهى صلى الله عليه وآله وسلم عن دخول الرجال المتشبهين بالنساء على المرأة فقال "أخْرِجوهم من بيوتكم " (20).

ولما أُتِيَ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمُخَنَّث قد خَضَّب يديه ورجليه بالحِنّاء، قال صلى الله عليه وآله وسلم " ما بال هذا ؟ " فقيل " يتشبه بالنساء " فأمر صلى الله عليه وآله وسلم به فنُفِي إلى البقيع، وهي ناحية كانت بعيدة عن المدينة حينذاك (21)

21) أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض ما يجري في نفوس بعض الناس؛ ليُعَلِّم الصحابة أهمية تحرير النيَّة وتجديد الإيمان وإخلاص القصد ومَحْو الشبهات، فكان فيهم رجل أَتِيّ (غريب) اسمه قزمان (22) قال صلى الله عليه وآله وسلم فيه" أما إنه من أهل النار" (22) فلما كان يوم خيبر 6هـ قاتل قزمان أشد القتال، فلما كَثُرَت به الجراح ووجد آلامها، أهْوَى إلى كِنانته فانتزع سهماً فانتحر بها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم "يا بلال قُمْ فأذِّن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإنَّ الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " (23)

يتبع...

(1) صحيح ابن خُزَيْمَة 104

(2) صحيح ابن خُزَيْمَة 102

(3) صحيح البخاري 3140

(4) سنن أبي داود 2549، السلسلة الصحيحة الألباني 20

(5) صحيح البخاري 1411و4160

(6) صحيح البخاري 1989

(7) صحيح البخاري 2277

(8) المسند أحمد 15195، النهاية في غريب الحديث والأثر ابن الأثير 5/281، وحسّنه الألباني في (مِشْكاة المصابيح 177)، وفي (إرْواء الغليل 1589)

(9) حسَّنه الألباني في (إرْواء الغليل 1589)

(10-12) صحيح البخاري 2221و 2277و4141و4922

(13) صحيح ابن خُزَيْمَة 2867

(14) صحيح مسلم 1337

(15) المسند أحمد بن حنبل 6540، المسند البَزّار 2401 وفيه: (فَلَأْمَ ما هو) أي: يرجع إلى أصل عظيم، السلسلة الصحيحة الألباني 2850

(16) صحيح البخاري 39

(17) صحيح البخاري 5546

(18) صحيح البخاري 5547

(19) سنن النسائي 9251

(20) صحيح البخاري 5547

(21) سنن أبي داود 4928، السنن الكبرى البيهقي 16764، المسند أبو يَعْلَى 6126، فتح الباري ابن حجر 9/335، 12/160

(22) البداية والنهاية ابن كثير 6/187

(23-26) صحيح البخاري 6232

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين