الظلم والشح

 

الظلم والشح

العلامة الشيخ: عبد الرحمن الجزيري


عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ؛ واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم! حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» رواه مسلم.
يتعلق بشرح هذا الحديث أمران:
1 ـ بيان معنى الظلم وآثاره الضارَّة في الشريعة الإسلامية.
2 ـ بيان معنى الشح وآثاره الضارة بين الناس.
1 ـ كل الناس يعرفون معنى الظلم، ويدركون معنى العدوان على الأنفس والأعراض والأموال والحقوق العامة والخاصَّة، فإذا اعتدى أحد على غيره في نفسه أو ماله أو عرضه، أو سلبه حقاً من حقوقه فقد ظلمه، ومن يفعل ذلك فقد خسر خسراناً مبيناً، وكان عرضة للهلاك في الدنيا والآخرة.
لقد نهى الله عن الظلم في غير موضع من القرآن الكريم، ولعن الظالمين وهدَّدهم بأشد أنواع الجزاء، ومن ذلك قوله تعالى:[وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ] {إبراهيم:43}.
فلينتظر الظالمون الذين يفلتون من الجزاء الدنيويِّ على ما كسبت أيديهم عقاب الله تعالى يوم القيامة، وإنَّ عقابه لشديد، وإنَّ أخذه لأليم، ومعنى" تشخص فيه الأبصار": لا تقر فيه أبصارهم من شدَّة الهول والفزع، ومعنى "مهطعين": مسرعين إلى من يدعوهم، كما هو شأن الأسير الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ومعنى" مقنعي رؤوسهم": رافعي رؤوسهم من شدَّة الهول، ومعنى "لا يرتد إليهم طرفهم": لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم، ومعنى" وأفئدتهم هواء":قلوبهم لا تعي شيئاً من شدَّة الفزع والهول.
والغرض من هذه الآية الكريمة: تمثيل الحالة التي يكون عليها الظالمون يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، فبيَّن الله سبحانه أن جريمة الظلم يترتَّب عليها يوم القيامة من العذاب والفزع ما سيصعق له الظالمون الذين ينتهكون حرمات الضعاف بقوَّتهم، ويستعذبون التَّنكيل بعباد الله بدون أن يحسبوا لخالقهم حساباً، فبيَّن سبحانه أنَّ هؤلاء الظالمين سيستولي عليهم فزع العذاب وهوْل الموقف، فيذهب بعقولهم، ويتملك مظهرُ ذلك الفزع حواسَّهم، فتَشْخص أبصارهم، بحيث لا يستطيعون أن يُحرِّكوا رؤوسهم كما يشاءون، كما هو شأن الولهان الفزع الذي تفاجئه الكوارث، وتزعجه النائبات.
وممَّا لا ريب فيه أن هذه الآية الكريمة قد بيَّنت ما سيلاقيه الظالمون من هوْل وفزع أحسن بيان، وإنَّ فيها لعظة وعبرةً للظالمين الذين تغرُّهم شهوة الجاه والسلطان فيسلبون الناس حقوقهم ويؤذونهم في أموالهم، وأعراضهم وأنفسهم وحقوقهم، وهم ناعمون متلذِّذون بسلطانهم الزائل، [وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ] {إبراهيم:42}.
أما الأحاديث الواردة في التحذير عن الظلم، وتخويف الظالمين، فهي كثيرة لا تقف عند حد. ومنها هذا الحديث الذي نشرحه. فقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتَّقي شرَّ الظلم، ونتحاشاه، لأن شره مستطير، ولابد أن ينتقم الله من الظالمين في الدنيا والآخرة إن لم يتوبوا من ظلمهم، ويرجعوا عن غيهم، ويردوا الحقوق لأربابها.
ومن ذلك ما رواه مسلم وغيره من أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: «أتدرون من المفلس ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا ؛ وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار» ومن ذلك قوله  صلى الله عليه وسلم : «إن الله يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته»، رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وقد جاء في آخر هذا الحديث ذكر قوله تعالى:[وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] {هود:102}.ومن ذلك قوله  صلى الله عليه وسلم : «صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق» رواه الطبراني.[في " الأوسط"(640) ، و"الكبير "( 8005و8079)، وقال المنذري : رواه الطبراني ورجاله ثقات ، وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجال الكبير ثقات].
 وقوله  صلى الله عليه وسلم :«دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه»: رواه أحمد بإسناد حسن.
وجاء في بعض روايات الصحيح: «اتقوا دعوة المظلوم ولو كافرا» إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الصحيحة الدالة على أن الدين الإسلامي قد حثَّ الناس على ترك الظلم، ونهاهم نهياً شديداً عن إيذاء بعضهم بعضاً في أموالهم، وأعراضهم، وأنفسهم، وأمرهم بإقامة العدل والإحسان فيما بينهم، فلا يتعدَّى قويٌّ على ضعيف، ولا يجور ذو سلطان على الناس بما أتاه الله من جاه ومنصب، ومن لم يتبع أمر الله تعالى فإنه لابدَّ أن يكون نصيبه الهلاك في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
إن هذا القدر الذي ذكرناه من شناعة الظلم في نظر الشريعة الإسلامية ظاهر قد لا يخفى على أحد من الناس، ولكن الذي يجب على المسلمين أن ينتبهوا له، ويحاربوه بكل ما لديهم من قوة، هو ما يبعثهم إلى الوقوع في مثل هذه المحظورات الموبقة التي قضت على كثير من قوتهم المادية، والأدبية، وأورثتهم ذلاً بعد عز، ومهانة بعد شرف وكرامة، فمن أهم الوسائل الباعثة على ارتكاب جريمة الظلم : تحكُّم سلطان الشهوات على الأنفس، والرغبة في الحصول على أكبر قسط ممكن من تلك الشهوات الفاسدة التي تنقضي سراعاً، ثم تترك وراءها حسرات لا تنقضي ولا تفنى، وشقاءً لا ينقطع، وعذاباً أليماً، فترى ذوي الجاه والسلطان تزيِّن لهم بطانة السوء حبَّ سماع النمائم والوشايات، فيبطشون بالمؤمنين الغافلين الأبرياء طاهري القلوب سليمي الصُّدور، ويذيقونهم من أنواع الظلم والحيْف ما قد يقضي على أرواحهم وأموالهم وكرامتهم، ويسلبهم حقوقهم الطبيعية وهم غافلون.
وترى كثيراً من الناس يكادون يكونون فوضى في باب الأموال، فكل من أتيح له أن يستولي على مال الغير بأية وسيلة من الوسائل لا يتأخر عن ذلك بدون مبالاة بأوامر ربه ونواهيه.
ألم ينه الله تعالى نهياً شديداً عن الغش والخيانة وتطفيف الكيل والميزان؟
 ألم يقل سبحانه :[وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3) ]. {المطَّففين}..
 ألم يقل سبحانه:[وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] {البقرة:188}.ألم يقل:[إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا] {النساء:10}.
ألم يقل  صلى الله عليه وسلم : «كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به» ؟
 ألم يقل  صلى الله عليه وسلم :«من غشنا فليس منا»؟ إلى غير ذلك من النهي الشديد الجازم عن الظلم في باب الأموال. فما بال المسلمين يظلم بعضهم بعضاً، ويغش بعضهم بعضاً، ألا إن ذلك لهو الخسران المبين.
وترى كثيراً من الناس يكادون يكونون فوضى في شهوة الفرج، فلا يبالون بانتهاك الحرمات ولا يحسبون للتعدِّي على الأعراض حساباً، فلا زاجر يزجرهم، ولا دين يحول بينهم وبين ارتكاب جريمة الزنا، وما في معناه من الرذائل الخلقيَّة التي تمحو الفضائل، كأنهم بُهْم لا يعرفون للإنسانيَّة معنى.
وأشنع من هذا وذاك ما يرتكبه بعض قساة القلوب من قتل الأنفس البريئة التي حرَّم الله قتلها وأعدَّ للقاتل عذاباً أليماً. قال تعالى  [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] {النساء:93} .
يفعل المسلمون ذلك ويتركون دينهم وراءهم ظهرياً، كأنهم لم يسمعوا قول النبي  صلى الله عليه وسلم : «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله».  ألا فليعلم المسلمون أن ارتكاب هذه الجرائم واقتراف هذه المظالم هي السبب في انحطاطهم وتأخرهم، ولا ينفعهم إلا أن يرجعوا إلى الله ربهم، ويعملوا صالحاً لعلهم يفلحون.
2 ـ أما معنى الشح:
فهو الإمساك عن الإنفاق حيث يجب البذل، سواء كان واجباً دينياً كزكاة المال، والنفقة على الزوج والأولاد ونحوهم ممَّن تجب على المكلَّف نفقتهم، ومثل ذلك الإنفاق على إحياء نفس يتوقف على ذلك الانفاق إحياؤها، أو كان واجباً تقتضيه المروءة بأن ينفق ما يناسب حاله، فلا يليق أن يكون ذا مال كثير ويعيش عيشة البؤساء، أو يضيق على أولاده وأهله، فيحرمهم من أنعم الله تعالى، أو يسقط كرامته في البيئة التي يعيش فيها، فيصبح بذلك عُرضة لتحقير الناس إيَّاه، وغير ذلك من الأمور التي تُخلُّ بالمروءة، فإذا حفظ الإنسان نفسه من هذا لا يكون بخيلاً في نظر الدين. أما كونه كريماً فذلك تابع لحالته المالية، وتفاوت أنظار الناس في تقدير الكرم، والذي يحفظ الإنسان من شرِّ الشح هو العمل بقوله تعالى:[وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا] {الفرقان:67}.
أما شرُّ مضارِّ الشح وأكبر آفاته فهو فقد التعاون بين الناس وذهاب التراحم والتواد من بينهم، وحلول العداوة والبغضاء محل ذلك، لأن الشحيح يبغض التعاون بطبيعته، ولا تسمح نفسه ببذل شيء من ماله ولو يسيراً لمساعدة الضعفاء، فتمتلئ قلوبهم ضغْناً عليه، وتثور أنفسهم حسداً عليه، فإذا فشا الشحُّ في أمة كانت نتيجته فوضى الاشتراكية التي يترتَّب عليها سفك الدماء، واستحلال المحارم، لذلك يشير قول النبي   صلى الله عليه وسلم : «وإياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا» من حديث رواه أبو داود والحاكم.
والشح والبخل بمعنى واحد، فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام :«أمرهم بالبخل فبخلوا " أي: أمرهم بالكفِّ عن معونة الناس.
 وقيل: الشح : الحرص على ما عند غيره. والبخل : الحرص على ما عنده، فذلك صريح في أنَّ الشحَّ خطر اجتماعيٌّ كبير، يترتَّب عليه هلاك الأمم وفناؤها، لأن الإنسان بحسب تكوينه الطبيعي، وفطرته التي فطره الله عليها محتاج إلى التعاون مع غيره في هذه الحياة فلا يمكنه أن يسك سبيلها وحده وأن يقطع مراحلها منفرداً، بل لابدَّ له من ذلك في الاستناد إلى غيره والتعاون معه في كل أطواره من وقت وجوده إلى أن يوارى في التراب.
وكلما اشتدَّ ضعف الإنسان اشتدَّت حاجته إلى غيره، فتراه في حال طفولته محتاجاً إلى غيره في كل شيء، فإذا ما نشأ وترعرع استقلَّ في بعض أموره، ولكنه لم تنقطع حاجته في البعض الآخر.
ومن ذلك يتَّضح أن التعاون من ضروريات المجتمع الإنساني، وبقاء العمران، والشحُّ ينافي التعاون والتراحم بين الناس. وهيهات أن تجد الرحمة إلى نفس الشحيح سبيلاً، لأنَّ الشحَّ يدعوه إلى أن يقاطع أرحامه وأقرب الناس إليه، فضلاً عن البعيدين عنه، ويدعوه إلى القسوة والغلظة، فلا يغيث مكروباً، ولا يعين ضعيفاً، ولو توقفت حياته على معونته، يدعوه إلى أن يكسب المال من أي طريق بدون تفرقة بين حلال وحرام، يدعوه إلى أن يحقد على كل من يحاول أخذ شيء من ماله ولو كان من أبنائه وأهله، وقد يفضي به ذلك الحقد إلى ارتكاب الجنايات وسفك الدماء، فلا ريب في أن الشح من أكبر الآفات التي تضر بالمجتمع الإنساني، ولذلك قال  صلى الله عليه وسلم : «اللهم إنا نعوذ بك من البخل والكسل، وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات» رواه مسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين