العدل (1)

بقلم الشيخ: مجد مكي

 

فالعدل هو رأس الفضائل والخيرات، وأساس المكارم والكمالات... به تنتظم أمور الدنيا والدين، وعليه تتوقف سعادة المجتمع... والعدل هو القيام بالحقوق على الوجه الأكمل، ووضع الأمور في نصابها من غير إفراط ولا تفريط.
ولقد أمر الإسلام بالعدل وأوجبه وحثَّ عليه، ونهى عن الظلم وحذَّر منه.
يقول تعالى في كتابه المبين:[إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] {النحل:90}.
ويقول سبحانه:[ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] {الحجرات:9}.
 ويقول عزَّ وجل:[قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ] {الأعراف:29}.
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ المقسطين ـ أي: العادلين ـ عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عزَّ وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا). وإنما كانوا على منابر، لأنهم رفعوا من شأن المظلومين ونصفوهم من الظالمين. وإنما كانت المنابر من نور، لأنهم نوَّروا للناس طريق الخير، وقادوهم إلى ما فيه سعادتهم، بسبب عدلهم وإنصافهم...
نظر الإسلام إلى العدل نظرة عامة شاملة... وهذه النظرة الشاملة لا تقف عند الحياة الماديَّة والنظام الاقتصادي، ولا تقف عند الحياة الفكرية والمجال العقلي، ولا تقف عند الحياة السياسية ونظام الحكم، ولا تقف عند الحياة الاجتماعية وعلاقات الأفراد... بل لا تقف نظرة الإسلام إلى العدل عند حياة الناس فحسب. ولكنها تشمل الكون كله، بعوالمه العلوية والأرضية.
فهذا الترابط المحكم بين الكائنات والنظام المنسَّق بينها يمثِّل العدل التَّكويني في جميع المخلوقات، وإلى هذا يشير القرآن الكريم:[وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالحَقِّ] {الحجر:85}. 
ويقول سبحانه: [قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] {طه:50}.
ويقول تعالى: [الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى] {الأعلى:3}.
ويقول عزَّ شأنه:[لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] {يس:40}.
ويذكِّر الله سبحانه الإنسان بنعمه عليه في تسوية خلقه، وتعديل تركيبه، وتنسيق صورته، فيقول سبحانه:[الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ] {الانفطار:8}.
فالحياة كلها في نظر الإسلام قائمة على اتِّساق عناصرها، وتماسك ذرَّاتها... وهذا الاتِّساق والنظام والتماسك هو العدل التكويني الذي قامت به السموات والأرض كما قال سبحانه:[إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولَا] {فاطر:41} [وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ] {الحج:65}. وهذا العدل المطلق في نظام الكون، ليس من صنع الإنسان، بل هو من خلق الله تعالى... جعله سبحانه مثلاً في الحسِّ والمشاهدة، ليُقتدى ويُحتذى في تحقيق العدل في حياة الإنسان ـ.
إنَّ الأمر بالعدل شامل لجميع جوانب الحياة، وجميع الأفراد والجماعات... ويشمل عدل الإنسان مع ربِّه وخالقه ورازقه، وعدل الإنسان مع نفسه، وعدله مع غيره.
فأما عدل الإنسان مع ربه: فهو إيثار حقِّه تعالى على حظِّ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر، والامتثال للأوامر، بفعل جميع ما أمره الله به، والانتهاء عما نهاه الله عنه، وأنْ يكثر من ذكره وأنْ يراقبه سبحانه في سرِّه وعلنه.
وأما عدل الإنسان مع نفسه: بأن لا يظلمها بعصيان الله فيعرَّضَها لغضبه وأليم عقابه، فالكافر والمشرك والمرتد كل واحد منهم ظالم لنفسه، وتارك للعدل بترك الإيمان الذي ينجيها من العذاب. والفاسق والعاصي وأصحاب الكبائر ظالمون لأنفسهم غير منصفين لها لأنهم جلبوا لها الشقاء والمتاعب... ومن ظلم النفس : تعريضها لآلام الأمراض بتعاطي المخدرات وتناول المسكرات. والله سبحانه وتعالى يقول:[ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا] {النساء:29}.
ومن ظلم النفس أيضا : التَّشديد عليها والقسوة عليها بتحميلها ما تنوء به. حتى ولو بالعبادة، ومن ثَمَّ قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ لربِّك عليك حقاً، وإنَّ لنفسك عليك حقاً،... فأعْطِ كل ذي حقٍّ حقه).
قال تعالى في كتابه المبين:[وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)]. {الشمس}.. فالطاعة تزكِّي النفس وتطهِّرها وترتفع بها، والمعاصي تدنِّس النفس وتخمدها، وتحطّ من مكانتها... وتصير كالشيء الذي يدسّ في التراب.
قال سبحانه في محكم كتابه: [وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] {آل عمران:117} . وقال أيضاً:[سَاءَ مَثَلًا القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ] {الأعراف:177}.وقال أيضاً: [وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء:110}. 
وأما عدل الإنسان مع غيره: فهو شامل لجميع الأفراد والجماعات، والحكام والقضاة، والأتباع والولاة، فيتناول عدل الأزواج بين زوجاتهم، وعدل الآباء بين أبنائهم، وعدل الأولياء في اليتامى وأموالهم، وعدل القاضي بين المتخاصمين، وعدل الحاكم في رعيَّته.
فالعدل بين الزوجات: بالتَّسوية بينهنَّ بالنفقة والكسوة والمسكن والقسمة تأليفاً لقلوبهنَّ، وإرضاءً لجميعهنَّ، فلا يخصّ إحداهنّ بزيادة على الأُخريات في ذلك. وأما التَّسوية بينهن في الحب وميْل القلب فلا يجب لأن القلوب بيد الله يصرِّفها كيف يشاء، ولا يستطيع إنسان أن يتحكم في ذلك. وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: (اللهمَّ هذا قسمي فيما أملك ـ وهو المبيت عند كل واحدة ـ فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) يعني المودَّة والحب ـ رواه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم.
وممَّا يؤكِّد العدل بين الزوجات قوله صلى الله عليه وسلم: ( من كانت له امرأتان فمالَ على إحداهنّ جاء يوم القيامة وشقه مائل) رواه أحمد والأربعة وسنده صحيح.
إنه وعيد شديد، وتهديد أكيد، حيث أن هذا المائل عن العدل بين زوجاته يأتي يوم القيامة موسوم بجريمته، متصف بظلمه، للتشنيع به، والتشهير بفعله.
ولقد أباح الله عزَّ وجل الزواج بواحدة إلى أربع، ولكن الزواج بأكثر من واحدة جاء مشروطاً بالعدل بين الزوجات، بل إن الخوف من الظلم يكون مانعاً مما أباحه الله في التعدد، وموجباً للاقتصار على واحدة. قال تعالى:[وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً] {النساء:3}.
ومن العدل الإمساك بمعروف أو التَّسريح بإحسان، وعدم الإمساك للإضرار أو للحمل على الافتداء. قال سبحانه:[وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ...] {البقرة:231}.
وإنَّ من ظلم الزوجة، وترك العدل في حقها، أن يُقصِّر الزوج في حق من حقوقها التي أوجبها لها الشارع الحكيم، فإنَّ ترك الحق ظلم واعتداء.
روى أبو داود عن معاوية بن حيدة قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أن تطعِمها إذا طَعمت،، وأن تكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت).
وأما عدل الآباء بين الأبناء: فإنه يكون بالمساواة بينهم في العطايا وفي الحدب والرعاية، وأن لا يُؤْثر واحداً منهم على مَنْ سواه، ولا يخصّه بشيء دون ما عداه، وهذا العدل يقوِّي رابطة الأخوة بينهم ويملأ قلوبهم بالمحبة لبعضهم ولوالدهم، ويقيهم شرَّ التحاسد والتباغض والتنافر والتقاطع.
روى الشيخان في صحيحهما عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكلُّ ولدك نحلته مثل هذا ؟) فقال: لا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأرجعه فإني لا أشهد على جور، اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).
وأما عدل الأولياء في اليتامى وأموالهم: فإنه يتحقَّق في العناية بهم، وإكرامهم والمحافظة على أموالهم، وعدم التَّصرُّف بها إلا بما تقتضيه مصلحتهم. حتى يبلغوا الحلم ويُستأنس منهم الرُّشد.
ولقد حذَّر الإسلام من ظلم اليتامى، وأكل أموالهم، وأوعد عليه أعظم وعيد، ودعا إلى إنصافهم وإكرامهم، والإحسان إليهم. قال تعالى: [وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا] {النساء:10}.
روى النسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أحرِّج حقَّ الضعيفين، اليتيم والمرأة).
ومعنى أحرج: أي: ألحق الحرج والإثم بمن ضيَّع حقَّهما، وأُحذِّر من ذلك تحذيراً بليغاً وزجراً كبيراً.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خير بيت في المسلمين بيت فيه بيتمٌ يُحسن إليه. وشرُّ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُساء إليه، أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بأصبعيه).
قال سبحانه متوعِّداً وزاجراً:. [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ] {الماعون:2}. أي: يدفعه عن حقِّه دفعاً قوياً وظلماً وتعدياً

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين