المرأة بين قانونين

د/ عبد المجيد البيانوني 


 
أكثر النساء متزوّجات وغير متزوّجات يعشن هاجس الخوف من الزوجة الثانية .. حالاً أو مآلاً .. والتهمة بطبيعة الحال على الرجل .. والجريمة النكراء من الرجل .. واللؤم والخسّة ، وقلّة الوفاء من الرجل .. وقل ما شئت على الرجال ، فإنّك لن تعدم أدلّة وإثباتات ..
وربّما كان بعض هذا القول أو كثير منه له حظّ من الصواب .. ولكن هل هذه هي الحقيقة النهائيّة ، التي تعني أنّه لا يرجى من ورائها حلّ المشكلة .. بإبعاد هذا الهاجس عن المرأة .؟ وهل لهذه المشكلة من حلّ حقيقة .؟ أم أنّ جزءاً من طبيعة المرأة أن تعيش هذا الهاجس وتصبر عليه.؟ فما عليها إلاّ أن تستسلم لواقعها ، وترضى بما هو من فطرتها .. أو تفكّر بحياة الوحدة والرهبانيّة ، بالبعد عن الرجل ، والانتكاس عن الفطرة .!


الحقيقة فيما أظنّ خلاف ذلك .. والمرأة في أغلب الأحوال هي التي تصنع هذا الهاجس ، أو تصطنعه باتّخاذ أسبابه وتغذيتها .. فإذا كانت كذلك ، فهي تستطيع أن تلغيه من قاموس حياتها ، أو أن لا توجده أصلاً ..


ولكن كيف يكون لها ذلك .؟! هنا مربط الفرس كما يقولون .. يكون لها ذلك عندما تعي المرأة قانونين في حياتها وعلاقتها بزوجها ، وتحسن التعامل بهما ، هذان القانونان هما قانون الحبّ وقانون الزواج .. وهما قانونان مترابطان متداخلان ، في كثير من علاقاتهما ومعانيهما ، ومتميّزان في خصوصيّة كلّ واحد منهما ، ومستواه وميدان عمله وتأثيره ..


وبيان ذلك أنّ حياة أكثر الأزواج تبدأ بقانون الحبّ .. ثمّ لا يزال ينزل سقفه ويتدنّى مع الأيّام ، حتّى يصل إلى سقف قانون الزواج ، وعندها يضمر قانون الحبّ أو يغيب ..


فقانون الحبّ أعلى من قانون الزواج وأسمى ، وأدنى قانون الحبّ متّصل ومماسّ لأعلى قانون الزواج .. فإمّا أن يقف الاختراق عند حدود قانون الزواج ، ولا ينزل دونه ، فبها ونعمت ، وإمّا أن يُخترَق قانون الزواج مرّة بعد مرّة ، وعندئذٍ يكون الخطر على المرأة من الزوجة الثانية قريباً وحقيقيّاً ..


قانون الحبّ له شروطه ومتطلّباته ، ومعانيه وقيمه ، وأخلاقياته وآدابه .. وقانون الزواج له شروطه وحدوده ، وقيمه وآدابه .. وكلا القانونين يُسأل عنهما الزوجان ، ويتحمّلان مسؤوليّة رعايتهما ، والوفاء بحقوقهما ، ولا يعفى أحدهما بتقصير الآخر في مسؤوليّته ، بل يتحمّل عبءاً أكبر لسدّ الخلل ، وتدارك النقص ..


وما أشبه قانون الزواج بالفريضة المكتوبة ، وقانون الحبّ بالنافلة المسنونة ، التي تحيط بالفريضة كالسياج وتحميها ..
وبدء الخلل في العلاقة أن يبرّر أحد الزوجين تقصيره بتقصير صاحبه ، وينتظر مبادرة صاحبه ، ولا يبادر هو إلى إصلاح العلاقة ، وتدارك الخلل من منطلق الحديث الشريف : ( .. وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ ) ([1]) .


إنّ أكثر الأزواج يرون مثاليّتهم في التعامل مع زوجاتهم أن يؤدّوا ما عليهم من الحقوق المادّيّة من المطعم والمشرب والملبس ، والحقوق العاطفيّة في حدّها الأدنى ، ثمّ يرون أنّ التعامل مع قانون الحبّ كما تتطلّبه النساء ، وتتطلّع إليه نوع من الشطط ، الذي لا ينسجم مع جدّيّة الرجل ، وانشغاله بضغوط الحياة ومتطلّباتها المتزايدة ، والاستجابة لهذا الشطط في نظرهم يدعو المرأة إلى طلب المزيد ، ممّا هو مكلف نفسيّاً أو مادّيّاً ، فلا عجب أن يقفوا منه موقفاً سلبيّاً جافياً ..
وفي مثل هذا الحال ، وهو كثير غالب ، لا بدّ للمرأة العاقلة ـ بعد أن تتقن قانون الزواج بحدوده وحقوقه وآدابه ـ أن تفرض قانون الحبّ والتعامل مع زوجها من خلال سلوكها العمليّ ، ومواقفها الرقيقة المؤثّرة ، لا أسلوبها الكيديّ الفظّ ، الذي يزيد الرجل تباعداً ونفوراً ..


قانون الحبّ تعجز الكلمات عن التعبير عنه .. إنّه يعني شفافية العلاقة الزوجيّة وسموّها ، ورقّتها وحيويّتها ، والإيثار والتضحية بغير حدود ، والبذل والعطاء بغير حساب ..
ولا يقوم قانون الحبّ في تصوّرنا وثقافتنا ما لم يقم قانون الزواج على أصوله ومبادئه ، وتُرعى حدوده وآدابه ..
وقانون الزواج يقتضي أن يقوم البيت ، وتسلّم الزوجة بحقائق القوامة ، وحقوق الزوج المقرّرة شرعاً ، من حقّ الطاعة والبرّ ، والأدب والاحترام ، والبعد عن النشوز ، وأيّ أنواع الأذى ..
كما يسلّم الزوج بحقوق الزوجة المادّيّة والمعنويّة : من المعاشرة بالمعروف ، والرفق وحسن الخلق ، والبرّ والإحسان ..


وعند ذلك يقوم قانون الحبّ على أرض صلبة من قانون الزواج .. وإلاّ .. فأيّ قانون للحبّ يرجى إذا كان قانون الزواج منتهكاً أو معطّلاً .؟! وكيف يبحث عن النافلة من ضيّع الفريضة .؟!


وأيّ قانون للحبّ يرجى إذا كان الرجل لا تقدّر ظروفه ، ولا يعان على متاعبه ومشكلاته .؟! وأيّ قانون للحبّ يرجى إذا كان الزوج لا تلبّى رغباته النفسيّة والعاطفيّة ، ولا تؤدّى حقوقه .؟! وأيّ قانون للحبّ يبقى إذا كان الزوج لا يعترف له بحقّ الطاعة والقوامة .؟!


وأيّ قانون للحبّ يرجى إذا كانت المرأة تسبّ وتهان .؟! وأيّ قانون للحبّ يرجى إذا كانت الزوجة لا تقدّر ظروفها النفسيّة والصحّيّة ، ولا تراعى مشاعرها ورغباتها .؟!
موقف معبّر له دلالته : كان عند صديق حميم ، يتحاور معه حول موضوعات مهمّة ، واحتدم النقاش ، واصطرعت الأفكار ، وبينما هو في انفعال ظاهر تلقّى مكالمة ، فانفرجت أساريره ، وهدأت أعصابه ، وتلطّفت كلماته وإجاباته ، وتوالت وعوده ، وختم حديثه بألطف ممّا بدأ .. ثمّ قال لصاحبه ممازحاً : إنّها مكالمة من وليّ الأمر ، يعني زوجته .. ثمّ لم يلبث إلاّ أن تلقّى مكالمة أخرى من أحد أبنائه ، فكان حديثه معه بلغة عربيّة غير متكلّفة ، وعبارات راقية ، ولطف في القول ظاهر .. وبعد المكالمة التفت إليه صديقه ، وقال له : أهكذا تخاطب أولادك .؟ قال : نعم ، وهل في الأمر غرابة .؟ قال : نعم ، كلّ الغرابة .. ألا ترى كيف يكلّم كثير من الناس أولادهم ..؟ ثمّ قال له : هنيئاً لزوجتك أنّك لا تفكّر بالزواج عليها ، قال : وممّ عرفت ذلك .؟ قال : إنّ من كان بمثل هذا اللطف والرقيّ في العلاقة مع زوجته وأولاده ، لا يمكن أن يتزوّج بأخرى .. فقال له : الفضل لها عليّ ، هي ألطف منّي وأرقى ..


والسؤال المهمّ هنا : أيّ الطرفين أحقّ برعاية قانون الحبّ وأولى : الرجل أم المرأة .؟!
إنّ النظرة الموضوعيّة المجرّدة تقول لنا : إنّ المرأة أحقّ من الرجل برعاية قانون الحبّ ، وأحوج إليه منه باعتبارات عديدة :
ـ فهي أحقّ من الرجل برعاية قانون الحبّ نظراً لطبيعتها الفطريّة واحتياجها ..


ـ وهي أحقّ من الرجل برعاية قانون الحبّ نظراً لما هو مطلوب منها من اجتذاب الرجل إليها ، وتحقيق سكنه النفسيّ ..
ـ وهي أحوج من الرجل إلى رعاية قانون الحبّ لتطوّق به عنق الرجل ، وتملك حواسّه ومشاعره ، فلا يلتفت إلى غيرها .. إذ هو بفطرته يميل إلى أكثر من واحدة ، وما لم يتحقّق له الإشباع العاطفيّ والنفسيّ بزوجته ، وما لم تطوّق مشاعره وأحاسيسه بقانون الحبّ ، الذي يستقي من طبيعتها الأنثويّة الجذّابة ، فإنّها لن تستطيع أن تطوّقه بأيّة رقابة صارمة ، أو غيرة جامحة ، أو نكد يخاف من المجهول ، ويطارد الأشباح والأوهام ..


ـ وهي أحوج من الرجل إلى رعاية قانون الحبّ ، لأنّ البديل للرجل عن ذلك ليس حرمانها العاطفيّ فحسب ، بل أن يتّجه إلى غيرها بطريق الحلال ، بالبحث عن الزوجة الثانية إن كان يتّقي الله ، أو سلوك طريق الفساد والحرام ، إن لم يكن من أهل التقوى والاستقامة ..


والبديل للمرأة عند ذلك أحد أمرين أو كلاهما ، وأحلاهما مرّ : فإمّا أن تصبر على الحرمان العاطفيّ ، أو تختار الفراق .. أفليس خيراً لها أن تتعهّد قانون الحبّ وترعاه ، من أن تصل إلى هذه النتيجة التي لا ترضاها .؟!


وبعد ؛ فإنّ قانون الحبّ يحمي قانون الزواج ويصونه ، وعندما ينهار يتعرّض الزواج للانهيار ، أو يعيش الزوجان بما يسمّى الطلاق العاطفيّ .. كما يحمي قانون الحبّ المرأة ممّا تخشاه من هاجس الزوجة الثانية ، الذي يقلق حياتها ، وينغّص هناءتها .. إلاّ إذا كان للأمر مبرّراته الوجيهة ، التي يعذر بها عقلاء الناس ، ممّا لا ينتقص قانون الحبّ ولا يلغيه ..
________________________________________
([1]) ـ جزء من حديث رواه البخاري (5 / 2256) باب الهجرة ، ومسلم في البر والصلة والآداب باب تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي رقم (2560) وغيرهما عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ  .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين