مدارس حلب في العهد الأيوبي ...ابن العديم ومدرسته الكمالية

سليمى محجوب


إن تسليح الإنسان بالمعرفة والعلم سبيل للتمتع بالحياة كي يصبح قادراً على بناء مستقبله وتحدي عوامل الجهل التي قد تفتك به في مسيرة عالم سريع التطور يسعى سعياً حثيثاً ومتفجراً إلى اكتساب المعارف والعلوم والآداب والفنون .
ولا يمكن اكتساب هذه المعارف إلا عن طريق المؤسسات التعليمية والتربوية التي توظف لبناء الأجيال وتزويد الفرد والمجتمع بالسلاح الأمضى في ميدان التنوير الفكري والبناء الثقافي والتواصل الحضاري مع العالم على مر العصور.‏
وتراثنا العربي غني وثقافتنا الفكرية عريقة منذ العصر الإسلامي فالأموي والعباسي ومروراً بالعصر الأيوبي فالمملوكي ومن ثم العهد العثماني وما تلاه من عصور النهضة والتنوير .‏
وإذا ما توقفنا في مسيرة التاريخ على أبواب العصر الأيوبي فإننا نقف باعتزاز مع الإرث العربي الإسلامي الذي تجلى في مدينة حلب الشهباء في أصالة جذوره ورواسخ معالمه الأثرية منذ بداية هذا العهد وعلى أيدي رجالاته ونسائه ممن تولوا الحكم والسيادة وتركوا بصمات خالدة في تاريخ العمارة والثقافة .‏
ازدهار التعليم في العهد الأيوبي‏
بدأ العهد الأيوبي في مدينة حلب سنة (579هـ - 1183م) وذلك بعد أن تم التنازل عنها لصلاح الدين الأيوبي فتركها الناصر صلاح الدين في أيد أمينة حين ولى عليها ابنه الظاهر غازي الذي بذل كل جهده لتطوير جميع مناحي الحياة فيها رغم ما كانت تعانيه البلاد من حروب ونكبات وبذلك تألقت مدينة حلب مزدهرة أيام الملك الظاهر غازي على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والعمراني .‏
وقد سار الظاهر غازي وأولاده على خطا الزنكيين في تشجيع العلم والعلماء وكذلك فعل أمراؤهم وأعيانهم في تشييد صروح المعرفة فبنيت في حلب الشهباء المدارس والزوايا والتكايا والمراكز الثقافية المختلفة لتعليم القرآن والحديث والفقه كما انتشرت الكتاتيب الخاصة والعامة بالإضافة إلى المساجد التي كان لها دور كبير في نشر العلم وأصول الدين .‏
وقد كثرت هذه المدارس في عهد الأيوبيين في مدينة حلب وقد أحصى "ابن شداد" المتوفى سنة (684هـ - 1285م) في كتابه "الأعلاق الخطيرة" مدارس هذه المدينة فبلغ عددها (44) مدرسة ولكن توقف التدريس في أغلبها مع انتهاء العهد الأيوبي واجتياح هولاكو لمدينة حلب سنة (658هـ - 1259م) .‏
هذه المدارس كانت دوراً ساطعة لتدريس كافة العلوم من شرعية وفلسفية وكما يبدو فإن تقلبات الأيام أتت على هذه المدارس فاندثر أغلبها ولم ينج من عوادي الدهر سوى (12) مدرسة كان قد بني أغلبها خارج أسوار حلب والقليل منها شيد داخل الأسوار وأذكر من هذه المدارس التي ظلت صامدة في وجه التاريخ والتي يعود بناؤها إلى العهد الأيوبي المدرسة الشاذبختية والمدرسة الظاهرية والمدرسة الشرفية والمدرسة السلطانية والكاملية والمدرسة الفردوس والمدرسة الكمالية العديمية نسبة إلى أحد مدرسيها الذي ينتسب إلى بني العديم .‏
وتمثل المدرسة الظاهرية قفزة هامة في فن عمارة المدارس بعد مدرسة الفردوس وقد أمر بإنشائها الملك الظاهر غازي عام (610هـ - 1213م) لذلك نسبت إليه وكان الملك الظاهر قد أمر أيضاً بإنشاء مدرسة أخرى وهي المدرسة السلطانية ولكن لم يتم بناؤها فتابع الأتابك شهاب الدين عبد الله طغرل بناءها عام (620هـ-1222م) أيام الملك العزيز محمد بن الظاهر غازي وتقع المدرسة السلطانية تحت القلعة يفصلها عن مدخل القلعة شارع وحديقة .‏
أما المدرسة الكاملية فقد أنشئت بين عامي (627هـ-634هـ) (1229م-1226م) وتقع شرقي المدرسة الظاهرية وقد شيدت بأمر من "فاطمة خاتون" زوج الملك العزيز محمد وابنة الملك الكامل ونسبتها إليه .‏
وقد تهدمت أجزاء منها وظلت مغلقة فترة طويلة من الزمن ثم رممت من قبل مديرية المتاحف والآثار عام 1995م فأولتها عناية جعلتها تبدو بحالة جيدة ولكن للأسف مازالت مغلقة لم يتم توظيفها والاستفادة منها حتى الآن .‏
ومن المدارس المشهورة التي بنيت في الفترة الأيوبية مدرسة الفردوس ويرجع الفضل في تأسيسها إلى امرأة عظيمة هي الملكة "ضيفة خاتون" عام (633هـ-1235م) وهي بنت الملك العادل أخي السلطان صلاح الدين الأيوبي .‏
لقد أنشئت المدرسة في حي الفردوس خارج باب المقام وجعلتها الملكة خاتون مدرسة وتربة ورباطاً وجعلت فيها زاوية لتدريس الحديث الشريف .‏
أما المدرسة الشرفية فقد أسسها "شرف الدين عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن العجمي" عام (640هـ-1241م) ونسبت إليه وتقع في سوق استانبول شرقي الجامع الأموي الكبير .‏
المدرسة الكمالية العديمية‏
تعرف بمؤسس المدرسة الكمالية العديمية، ولد أبو القاسم ابن العديم العقيلي في مدينة حلب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة من ذي الحجة ونبغ حدثاً وهو في السابعة من عمره فتفرس فيه شيوخه ومعلموه النباهة والنبوغ ولاسيما في تجويد الخط .‏
تلقى ابن العديم علومه على كبار مشايخ حلب في عصره فقرأ "اللمع" وحفظه على شيخ حلب يومئذ وهو الضياء بن دهن الحصا النحوي الأديب الشاعر كما حفظ "التدوري" ويذكر ابن شاكر الكتبي في "فوات الوفيات" عدداً من أساتذة ابن العديم ومنهم "ابن طبرزد" والاقتخار الهاشمي المتوفى (سنة 616هـ) والكندي والخرساني وسمع عن جماعة كثيرة بدمشق وحلب والقدس والحجاز والعراق مما يشير إلى تنقله وارتحاله في طلب العلم وقد وصف ابن شاكر شخصية ابن العديم بقوله: (كان محدّثاً فاضلاً حافظاً مؤرخاً صادقاً فقيهاً مفتياً منشئاً بليغاً كاتباً محموداً درس وأفتى وصنف وتراسل عن الملوك وكان رأساً في الخط ولاسيما النسخ والحواشي) .‏
ترك ابن العديم عدداً من المؤلفات كان أهمها في تاريخ حلب الذي أسماها: (بغية الطلب في تاريخ حلب) ويقع في أربعين مجلداً ومختصرة: (زبدة الحلب في تاريخ حلب) .‏
لقد أحب الشاعر مدينة حلب وحز بنفسه ما فعله التتار بها إثر اجتياحها عام /658هـ/ من تدمير وخراب .‏
وبعد الشوق الشديد للعودة إليها من الديار المصرية غادرها حزيناً كئيباً لما آل إليه جمالها وحضارتها فعاد إلى مصر ووافته المنية بعد عام من عودته ودفن في سفح جبل المقطم وذلك سنة /660هـ/‏
لقد كان لابن العديم صلات حسنة ومتينة مع صاحب حلب الملك غازي ابن صلاح الدين الأيوبي وقد وصف ما حباه به من حب وتقدير قائلاً:‏
كان الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب رحمه الله كثير الإكرام لي وما حضرت مجلسه قط فما أقيل على أحد إقباله عليَّ مع صغر السن .‏
فلا عجب إذن أن تجد ابن العديم مقدراً هذا الملك العظيم وأن يسير على خطاه في بناء المدارس العلمية المختلفة وأن يمنح حلب التي أحب كل اهتمامه من تدوين لتاريخها وإشادة لإحدى مدارسها وهي التي حملت اسمه ألا وهي: المدرسة الكمالية العديمية .‏
تقع هذه المدرسة في المحلة المعروفة اليوم بمحلة "محمد بك" غربي قسطل علي بك وتطل من مرتفع على شارع رئيسي يفصلها عنه زقاق ثم أرض ترابية ويصلها به درج .‏
يذكر المستشرق "سوفاجيه" أن المدرسة الكمالية العديمية شرع مؤرخ حلب "ابن العديم" ببنائها سنة (639هـ-1241م) وانتهى منها في سنة (649هـ-1251م) وقد طرأت بعض التغييرات على المدرسة حيث تهدمت واجهة البناء الشمالي في حين بقيت منارتها في العهد العثماني عام (1293هـ-1876م) والمدرسة اليوم بحالة جيدة وهي واسعة تضم عدداً من الغرف ويمكن الاهتمام بها وإعادتها إلى وظيفتها الأولى كمدرسة لتدريس الفقه الإسلامي كما كانت أيام ابن العديم وهي الآن مسجد ويقيم بعض الناس في الطابق الأول كمسكن لهم وكذلك في الدار الملحقة .‏
أوصاف المدرسة الكمالية العديمية‏
لم تتغير معالم هذه المدرسة بل ظلت محافظة على تخطيطها القديم كما وصفها لنا مؤرخو حلب ومنهم الغزي والطباخ في كتابي إعلام النبلاء ونهر الذهب في تاريخ حلب ومن دقائق هذا الوصف أن للمدرسة بابين بمتدليات ويذكر الغزي أنه كان في وسط صحنها حوض تحت الأرض يجري إليه الماء من القناة بينما يذكر الطباخ أن في صحن المدرسة مغارة منقورة قديمة في وسط حوض حجارته كبيرة فوقه منفذ إلى الصحن يسحب منه الماء وأن في غرب المنارة باباً يؤدي إلى منارة الشعارة الواقعة شرقي المدرسة أما فيما عدا ذلك فلا يوجد اختلاف كبير عن وضعها الراهن .‏
تتألف المدرسة من طابقين:‏
الطابق الأرضي: ويتألف من مدخل ويليه رواق ثم صحن يحيط به شمالاً الإيوان .‏
أما الطابق الأول: فيتكون من جناحين أحدهما شرقي صحن الدار والآخر غربه ولكل من الجناحين درج يؤدي إلى رواق فوق الطابق الأرضي ويوزع إلى غرف للمجاورين ويتصل بكل رواق غرفتان تمتدان فوق طرفي الإيوانين .‏
أما صحن المدرسة فهو مستطيل الشكل مبلط بحجارة صفراء للمدرسة إيوانان يقعان أمام القبلية وقد كسيت جدران الإيوان الأول بطبقة خشبية حديثة الصنع أما الإيوان الثاني فهو مسقوف بقبوين متطاولين مدببين الأمامي منهما أكثر اتساعاً وارتفاعاً .‏
في هذه المدرسة أربعة أروقة وفيها غرف صغيرة تنفتح على الرواق بباب لكل منها وتسقفها أقبية متطاولة .‏
كما يوجد في مدرسة ابن العديم مدفن تنفتح غرفته على الشارع الرئيسي وسقف المدفن عبارة عن قسمين :‏
الأول منهما متطاول والثاني قبة محمولة على رقبة قصيرة مضلعة كما يوجد في المدرسة موضأ وهو عبارة عن غرفة تقع شرقي القبلية وتناظر غرفة المدفن ويقع حوض ماء الوضوء أمام جدارها الشمالي .‏
المئذنة في المدرسة عثمانية البناء وهي مثمنة الشكل يقسم بدنها بإفريز إلى قسمين ولها شرفة يحيط بها سياج خشبي وتسقفها مظلة خشبية محمولة على ثمانية أعمدة خشبية .‏
لقد اهتم البناؤون بزخرفة هذه المدرسة فاستعملت فيها المقرنصات التي تزين القبلية على بوابتي المدخل وعلى أعمدة الرواقين .‏
كما زخرف المدخل الرئيسي مزيناً بالأشكال النجومية الحجرية وظهر نظام الأيلق باللونين الأصفر والأسود وهو يتخذ لأول مرة كزخرفة في واجهة المدخل في المدرسة الكمالية العديمية .‏
أخيراً يمكن القول أن مدرسة ابن العديم وغيرها من المدارس التي شيدت في العهد الأيوبي تعطينا صورة مشرقة لانتشار الثقافة وتطور المعرفة بضروبها الرائعة مما استدعى إلى إنشاء هذه المدارس فأغنت وطورت وعززت مناهج التعليم والتعلم على مستوى ما كان الإسلام يؤكد أهميته في إشاعة القراءة والكتابة وغيرها من علوم الدين ولطالما كان الإسلام وما يزال يكبر من دور العلم والعلماء وما المدارس إلا دور للارتقاء الإنساني ومركز إشعاع وهي إحدى القنوات الثقافية والعلمية التي طورت حياة الإنسان وارتقت بمعارفه .‏
وبرغم أن هذه المدارس قد تعرضت إلى الكثير من التغيير إلا أنها ظلت محافظة على طابعها الإسلامي في بنائها ومبادئها وتقاليدها وظلت صامدة أبداً في سفر البقاء على مر السنين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين