السيرة النبوية (4): من فتح مكة إلى الوفاة

وفي رمضان منها: كان فتح مكة

وسبب انتقاض الصلح مع قريش: أن قريشًا أعانت حلفاءهم بني بكر على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقدم عمرو بن سالم الخزاعي رضي الله عنه يستنصرُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قريش، فأجابه لذلك.

وتجهزَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة في عشرة آلاف، فلما بلغ الجُحْفة، لقيه عمه العباس رضي الله عنه مهاجرًا بأهله، فردّه معه، وكان قد أسلم بعد بدر، واستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أن يقيمَ بـمكة على سقاية الحاج، فأذن له.

ولقيه أيضًا ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه قد أقبل مسلمًا، معتذرًا مما كان جرى منه، فردَّه معه، ولم يشعر أحد بخروجه صلى الله عليه وآله وسلم .

فلما بلغ مرّ الظهران أدركتِ العباس رضي الله عنه الرِّقة على قومه، فركب بغلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإذنه؛ ليخبرهم أن يأخذوا أمانًا منه صلى الله عليه وآله وسلم ، فأتى بأبي سفيان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم، ثم أصبح صلى الله عليه وآله وسلم فدخل مكة ضحىً من أعلاها، وذلك لعشر بقينَ من رمضان، وأقام بها ثمانية عشرَ يومًا يقصرُ الصلاة.

ثم بلغه أن هوازن اجتمعت لحربه في عشرين ألفًا، عليهم مالك بن عوف النصريُّ فخرج صلى الله عليه وآله وسلم إليهم لعشرين من شوال، في اثني عشر ألفًا، فأعجبتهم كثرتهم، فقالوا: لن نُغلَب اليوم من قِلّة، فلم تغنِ عنهم كثرتهم شيئًا، ووجدوا المشركين قد كمنوا لهم في شِعاب حُنَين ـ وهو وادٍ بين مكة والطائف ـ .

فلمَّا توسط المسلمون شدّوا عليهم، ورشقوهم بالنبل، وكانوا رماة، فانهزم المسلمون، وثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جماعة، فنزل عن بغلته، وأخذ كفًّا من الحصى، فرمى به في وجوه المشركين، فانهزموا، ونصر الله المسلمين، فغنموا ذراريهم وأموالهم، وكانوا قد أتوا بهم معهم ليقاتلوا دونهم.

فانهزمَ منهم طائفة عليهم: دُرَيد بن الصِّمَّة، وساقوا المال والذّراري، فأدركهم أبو عامر الأشعري رضي الله عنه في سرية بأَوْطاسٍ، فهزموهم، وقُتِل أبو عامر رضي الله عنه ، ولحق أكثرهم بالطائف، فتوجهَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم للطائف، وقاتلهم قتالًا شديدًا، وحاصرهم بضعًا وعشرينَ ليلةً، فلم يظفر بهم، فدعا لهم بالهداية، ورجعَ، فأتوه بعد رجوعه للمدينة مسلمين على يدي مالك بن عوفٍ رضي الله عنه .

ولما رجع من الطائف قسم غنائم حُنين بـالجِعْرانة، ثم أحرم منها بعمرة، وذلك في ذي القعدة، فدخل مكة، فقضى نسكه، ثم رجع إلى المدينة فدخلها في آخر ذي القعدة.

وفي السنة التاسعة: دخل الناس في دين الله أفواجًا، كما أخبر الله تعالى بذلك، وجعله علامة على وفاته صلى الله عليه وآله وسلم ، ووفدت عليه الوفود؛ فمنهم:

وفد عبد القَيس، ورئيسهم الجارود رضي الله عنه ، وكان فيهم الأشجّ رضي الله عنه ، فأثنى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيرًا.

ووفدُ بني حنيفة، في جمع كثير، عليهم: مسيلمة الكذاب، وأبى أن يسلم، إلا أن يجعل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمرَ من بعده، ورجع خائبًا.

ومنهم: وفد نجران، وكانوا نصارى، فحاجوه في عيسى عليه السلام أنه ابن الله؛ لكونه خلقه من غير أب، فنزلت: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59] ( أي: من غير أمٍّ، ولا أبٍ).

ونزلت آية المباهلة: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران: 61] ، فأراد رئيساهم (السيد والعاقب) أن يلاعناه، فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فواللهِ لئن كان نبيًّا فلاعننا، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، ثم صالحوه على الجزية، وقالوا: ابعث معنا رجلًا أمينًا من أصحابك، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ، وقال: « هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ».

ومنهم: وفود اليمن، فأسلموا، فقال: « أَتَاكُمْ أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ »، وبعث معهم معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما .

وقدم عليه: كعب بن زهير رضي الله عنه وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أهدر دمه لشِعْرٍ عرَّض فيه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأسلم، واعتذر إليه مما كان منه، وأنشده في المسجد قصيدته المشهورة: (بانت سعادُ) فقبل عذره، وكساه بردته.

وفيها: كانت عزوةُ تبوك إلى الشام لقتال الروم، وهي آخر غزواته صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرج في ثلاثين ألفًا من المسلمين، وقد سمَّاه الله: جيش العُسْرة، واستخلف على المدينة عليًّا رضي الله عنه ، فقال: أتخلِّفني في الصبيان، والنساء؟ قال: « أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّه لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي ».

فلما بلغ تبوك، أقام بها بضع عشرة ليلة، ولم يلق عدوًّا، وصالح أهل أَيْلة، وجَرْباء، وأَذرُح على الجِزية.

ثم رجع إلى المدينة، وجاءه المنافقون يعتذرون لتخلفهم عنه، وحلفوا له بالكذب، فقبل عذرهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، ففضحهم الله تعالى بما أنزله في سورة براءة، فسميت الفاضحة.

وأما الثلاثة الذي تخلفوا واعترفوا بأنهم لا عذر لهم، وهم: كعب بن مالكٍ، وهلال بن أمية، ومرارة بن الرَّبيع رضي الله عنهم فتاب الله عليهم، فسميت سورة التوبة.

وفي رجب منها: نعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم النجاشي، واسمه أصحمة رضي الله عنه ، وصلَّى عليه في المصلى جماعة.

وفي خاتمة تلك السنة: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر رضي الله عنه أن يحجَّ بالناس، فسار بهم، ثم بعث بعده علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليبرأ من المشركين بصدر سورة براءة يوم الحج الأكبر، فنبذ إلى كل مشرك عهده.

وفي السنة العاشرة: حج صلى الله عليه وآله وسلم ، وحج بأزواجه كلِّهِنَّ، وبخلقٍ كثيرٍ، فحضرها من الصحابة مائة ألف، فودَّع صلى الله عليه وآله وسلم الناسَ، وأنذرهم، وقال: « إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ »، قَالُوا: نَعَمْ؛ قَالَ: « اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثَلَاثًا ».

ثم رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، فدخلها آخر ذي الحجة، فلبث بها المحرم، وصفر.

وفيها: توفي ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إبراهيم، بعد أن عاش بضعة عشر شهرًا.

وفي ربيع من السنة الحادية عشرة: أمر الناس بالخروج إلى الشام للجهاد، وأمَّر عليهم أُسامة بن زيد رضي الله عنهما فأخذوا في جَهازهم.

وفي ربيع من تلك السنة: اشتد مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأقام جيش أسامة ينتظر أمره صلى الله عليه وآله وسلم ، فتوفي صلى الله عليه وآله وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها وله من العمر ثلاث وستون سنة، ضحى يوم الاثنين، في الثاني عشرَ من ربيع الأول، في الوقت، واليوم، والشهر الذي دخل فيه المدينة، ودفن يوم الثلاثاء بعد العصر، وجعل قبره صلى الله عليه وآله وسلم غير مرتفع عن الأرض.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين