ابنا آدم ـ 1 ـ

 

[وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ(27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ(28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29) ]. {المائدة}..
 
1 ـ هذا النص القرآني فيه تعليل لما كان من اليهود من قبله من بسط أيديهم بالأذى للنبي صلى الله عليه وسلم ونقضهم المواثيق، وقتلهم للنبيين، وادعائهم الكاذب الفضل على الناس، فإنَّ علة ذلك هو الحسد الكمين في نفوسهم، والحسد قديم في الخليقة قدم الإنسان فيها، فهذا أحد ولدي آدم يحسد أخاه، حتى في العبادة التي تقتضي تنقية النفوس وتقوية القلوب، وذلك دليل على كمون الحسد في بعض النفوس مما لا علاج له إلا الصبر على الذين تصيبهم هذه الآفة، كما صبر الأخ الذي قتله أخوه، فإذا كان في النصوص بيان لآفة الحسد، ففيها أيضاً بيان لحلية الصبر والصفح، والرضا بما يقدره رب العالمين من أذى المؤذين، والإخلاص لله تعالى.
 
وكل هذا فيه عزاء للنبي صلى الله عليه وسلم، يدعوه إلى الصبر، كما قال تعالى:[وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ] {النحل:127}.
وكما أن في النص تعليلاً لما سبقه ففيه تمهيد لما يلحقه فإنَّه سيجيء بعد ذلك عقوبات رادعة للذين يعيثون في الأرض فساداً، ويخربون، ويقتلون الأنفس البريئة، ويزعجون الآمنين بالسرقات والاختطاف، ففي هذا النص يبين قسوة المعتدي ليتبين استحقاقه هو وأمثاله من عقاب ردعاً وزجراً، ونكالاً يمنع غيرهم من العبث، ولذلك كانت الآية التي أعقبت هذا النص فيها بيان لسببيته في شرعية العقاب الرادع، فقال تعالى:[مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا] {المائدة:32} .
 
[وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ] {المائدة:27}.
 
2 ـ ابنا آدم، يقول المؤرخون وبعض المفسرين فيهما، كما جاء في التوراة هما: هابيل التقي، وقابيل الباغي، ويقول أكثر المفسرين: أنهما ولدا آدم من صلبه، ولكن الحسن من التابعين قال: إنهما من بني إسرائيل، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله تعالى من بعد: [مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا] {المائدة:32} .
 
ولا يهمنا أن نعرف من هما، ولكن الذي يهمنا أن نعرف ما يومئ إليه النص من حقائق، والقصص صادق وواقع، ولكن نترك ما تركه القرآن ولا نهيم في إسرائيليات صادقة أو كاذبة، والنص القرآني واضح في مقصده من غير حاجة إلى ما يوضحه من خارجه.
 
ويقول سبحانه: [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالحَقِّ]. ومعناه: اذكر خبر ابني آدم ذكراً متتابعاً منسقاً يشبه الكلام العظيم المتلو، وأصل التلاوة القراءة المتتابعة الواضحة في مخارج حروفها والمصورة للمعاني في وقوفها.
 
والمؤدَّى:  أخبرْهم بخبر هذين الابنين بعناية، وأخبرهم بهذا الخبر وصار حليته، ومظهره وحقيقته، والنبأ هو الخبر العظيم، ذو الشأن الذي يستدعي دراسة وعناية، ولا شك أن خبر ابني آدم (خبر له شأنه) بما فيه من قتل الأخ لأخيه من غير جريمة ارتكبت، ولا شر وقع، ولا اعتداء، بل بسبب العبادة الخالصة لوجه الله تعالى، فما كان سبب الاعتداء إلا ذلك، ولذا ذكر سبحانه وقت الجريمة، وهو سببها، وباعثها مما يدل على أن القلب الخبيث لا يدفعه فعل الخير المقبول إلا إلى الأذى الممقوت، فقال:[ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ] {المائدة:27}.
 
3 ـ أي اذكرهما ذكراً حقاً صادقاً في الوقت الذي قربا فيه قربناً وكانت نتيجة القربان تقبلاً حسناً من أحدهما، وعدم تقبل من الآخر فكان من وراء ذلك الاعتداء الشنيع من الذي لم يقبل قربانه، والقربان العبادة التي يتقرب بها إلى الله تعالى، وهي تطلق في أكثر أحوال العبادة على الذبائح التي يتقرب إلى الله تعالى بذبحها كذبح الهدي في مكة.
 
والتقبل معناه القبول بقوة من القابل سبحانه، فهو قبول ورضا وترحيب،  وقد ذكر اللفظ في الإثبات لمعنى القصد الطيب والنية الحسنة من الابن الصالح، وذكر اللفظ في النفي بقوله سبحانه: (ولم يتقبل من الآخر). للمقابلة بين النفي والإثبات، لأن قربان ذلك الآثم لم يقبل أصلا، فنفيه منصب على أصل القبول، لا على وصفه.
 
وكان عدم قبوله لسوء نيته، ولنقص تقواه؟ ولأنه قصد الخبيث من ماله وأراد به التقرب، ولأنه قصد المباهاة والفخر، ولم يقصد وجه الله، ولأن قلبه متأشب بالآثام كما تبين من سوء فعله وخبثه، وعدم رحمته من بعد ذلك، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن أحدهما لم يتقبل قربانه، ولم يبين سبحانه كيف عرف أنه لم يقبل، ولقد ذكر العلماء كلاماً في هذا، فقيل: إن القربان تنزل عليه نار فتأكله، والآخر لا تنزل عليه نار، وقد علم القبول بهذه الأمارة، وقال آخرون: إن ذلك كان بوحي أوحي إلى نبي هذا الزمان، وعندي أن ذلك كان برؤيا صادقة أو بحال المتصدق في نفسه، وقد علم من حاله أن تصدقه غير مقبول، وقد يكون بإخبار نبي الزمان إن كانا غير ولدى آدم الصلبيين.
 
وكانت نتيجة ذلك أن كان بين الأخوين تلك المجاوبات الكلامية ثم الجريمة الكبرى التي هي أعظم ما ظهر من جرائم في الوجود الإنساني، ولنذكر المجاوبة بين التقى المؤمن العادل السمح، والفاجر الباغي الظالم الحاسد، قال: (لأقتلنك).
 
4 ـ تلك كلمة الظالم الآثم الذي خلا قلبه من كل شعور بالحق، فلم يشعر بالعدالة في ذاتها، ولم يشعر بالرحم الواصلة بينهما، ولم يشعر بحق الحياة التي خلقها الله تعالى وأودعها كل نفس ولم يشعر بحرمة الدم، وبأن القتل أعظم جريمة في هذا الوجود الإنساني، وقد أكد عزمته الآثمة، وإصراره عليها من غير خَوَرٍ ولا ضعف؟ ولذلك أكَّدهما أولا بالقسم المطوي في القول، والذي تدل عليه اللام، وهى مؤكدة أيضا بنون التوكيد الثقيلة، وكانت المجابهة الآثمة لأخيه بذلك الخطاب المواجه، ولم يستر نيته، فكان التبجُّح السافر الذي أدَّى إليه الفُجْر في القول، والإجرام في العمل، والكسب الآثم.
 
وإن هذا يدل على تصميمه على القتل، وهذا النص الموجز يبين روح الإجرام في المجرمين الذين يريدون السوء بالأخيار في المجتمع، وكلما زاد خير الأخيار، أوغل المجرمون في الشر والإيذاء، حتى أنهم ليستمرئون الشر، كما يستطيب الأخيار حب الخير، وإن هؤلاء آفة الجماعة الإنسانية، ومن تظهر مآثمه منهم تحق عليه كلمة العقاب زجراً وردعاً، وتهذيباً للمجتمع وتطهيراً له، فالذين يذهب بهم فرط رأفتهم إلى الاعتذار لهم آثمون في حق جماعتهم، راضون بأن يعيش الشر في قلوب الآثمين.
 
 [قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ]
 
5 ـ تلك أول كلمة نطق بها التقي البر في مجاوبة اعتداء أخيه، أو الجهر بنية الاعتداء، وهي في ذاتها اعتداء، فقد قال كلمات أربعة، كل واحدة منها تنبئ عن إيمان مكين عميق، وتلك هي الأولى، وهذه الكلمة تفيد السبب في القبول، وترشد أخاه إلى تطهير قلبه، وإلى الاتجاه إلى ربه، وإلى الاستشعار لخشيته، وفي تلك الكلمات الطيبة معان كريمة.
فهي أولاً تفيد قصر القبول بلفظ (إنما) على المتقين، والقصر نفي وإثبات، أي: أن التقوى هي: سبب القبول، فإن وجدت كان القبول، وإن لم توجد انتفي القبول، وتفيد ثانيا أن عدم القبول إنما يكون من نفس المتصدق، لا من أمر خارجي فالجزاء على قدر النية، فالتقوى دائما من القلوب.
وتفيد ثالثا توجيه أخيه الفاسد إلى الإقلاع عن ذنبه بموضع الداء في قلبه، وأن عليه أن يطب له.
 
 والتقوى التي اعتبرت سببا للجزاء الطيب، تتضمن خشية الله تعالى، وامتلاء القلب بطلب رضاه، وتتضمن اتقاء الذنوب والآثام، وتتضمن احترام حق الإنسان على أخيه الإنسان، فهي كلمة جامعة لكل معاني الفضيلة الدينية والخلقية والاجتماعية.
 [لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ] {المائدة:28}
 
6 ـ هو تلك هي الكلمة الثانية، وبَسْطُ اليد: مَدُّها بالاعتداء، ونرى في هذا النص قسما ينبئ عن الطيبة والخلق السمح في مقابل قسم ينبئ عن الشر ونية الأذى والتصميم عليه، وهذا يصور ما بين الأخيار والأشرار من تضاد، فهو يؤكد هنا سلامة القلب وسلامة العمل، أقسم الأول على القتل، وأقسم الثاني على عدم الرد، وقد أكد نفيه بهذا القسم، وبالتعبير بالجملة الاسمية في جوابي القسم؟ لأن جواب القسم: [مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ] {المائدة:28}.
 
وقد أكد النفي بأمور ثلاثة:
أولها: التعبير بالوصف، فهو ينفي عن نفسه وصف بسط اليد لأجل الاعتداء؛ لأن ذلك ليس من شأنه ولا من رغباته.
والثاني: التعبير (باليد) للإشارة إلى أن ما بينهما من رابطة الرحم الموصولة عنده تمنعه من أن يمد إليه يده بالأذى.
 والمؤكد الثالث:التعبير (لأقتلك) فيه أن هذه الجريمة تنفر منها الطبائع السليمة، ولا ترضى بها العقول المستقيمة، وخصوصا إذا كان يريد قتله.
 
وقد أقسم الأول على الفعل فقال (لأقتلنك ) وردَّد كلامه في نيَّة الاعتداء بالفعل أيضا؛ لأن موضوع القول هو ذلك الفعل الذي كان ثمرة للنية الخبيثة من فاعله، أما النفي الذي كان من الشاب الطيب، فقد كان عن نفي الوصف، أي أنه لا يقع منه ذلك الفعل، ولا يمكن أن يقع.
 
ويثير الفقهاء بحثا في هذا الموضوع، وهو حول ما قرروه من أن الدفاع عن النفس عند محاولة الجاني للقتل أمر مشروع لا يتجافى مع التقوى، ويقرر الحنفية أن الشخص إذا تأكد أنه مقتول إذا لم يدفع عن نفسه ولو بالقتل، يكون الدفاع واجباً حفظاً لنفسه، ويكتفي الأكثرون من الفقهاء بالقول بأن الدفاع يكون مشروعاً، ولا يكون لازماً، وسواء أكان هذا أم ذاك، فإنه ليس من التقوى أن يقف المجنيُّ عليه مكتوفَ اليدِ لا يُدافع.
وقد أجاب جمهور الفقهاء بأن التقوى في هذا المقام اختياريَّة، أي: أنه يختار أي الطريقين. فإما أن يدفع الشر وإما أن يكون عبد الله المظلوم، ولا يكون عبد الله الظالم، وليس في كليهما ما ينافي التقوى، أما الحنفية الذين قالوا: إنَّ الدفاع عن النفس واجب، فقد قالوا: إنَّ السكوت واعتباره من التقوى كان شرع من قبلنا، أما شرعنا فهو واضح في قوله تعالى: [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] {البقرة:194}
 
ونقول: إنَّ موقف ولدي آدم خارجٌ عن موضوع الخلاف؛ لأن موضوع الخلاف هو في دفع الصائل الذي يجيء ليقتل، فإنه يجب دفعه، حتى لا يستشرى شره، أما هنا فأخ يهدد أخاه بالقتل، ولو أنه هدده بمثل ما هدده به لدخلا في ملحمة، ولا يدرى أيهما الغالب، ويكون هذا داخلا في معنى قوله عليه السلام: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، قالوا: هذا القاتل يا رسول الله، فما بال المقتول، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إنه كان حريصا على قتل صاحبه ) ـ رواه البخاري: الإيمان ـ  على أن في الصبر أجراً، وقد قال تعالى: ([وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] {النحل:126}
فهذه القضية خارجة خروجا تاما عن موضع الخلاف، وخصوصا أن الأمر بين أخوين، لا بين صائل يضرب بالسيف ابتداء من غير فرصة للموازنة والتفكير.
 
 [إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ] {المائدة:28}
7ـ  هذه هي الكلمة الثالثة، وهى تنبئ عن الباعث الذي جعله يقف ذلك الموقف السلبي ويتخلى حتى عن الدفاع عن نفسه، والباعث عليه هو خوف الله تعالى، وفي ذلك إشعار لأخيه الذي يهم بقتله بأن يقف موقفه ويخاف الله تعالى الذي يقبل الطاعات ويرد المعاصي، وهو عليم بكل ما في الصدور، وهو شهيد على حركات الجوارح والأعضاء والقلوب، لا يخفي عليه شيء في الأرض، وفي النص الكريم إشارات بيانية، يحسن التنبيه إليها:
 
الأولى - تأكيد خوف الله بذكر (إن) المؤكِّدة للقول.
الثانية - ذكر الله تعالى جل جلاله بلفظ الجلالة، للإشعار بأنه هو وحده، صاحب السلطان على نفسه، ولا سلطان سواه فلا يدفعه غضب أو حب انتقام إلى مخالفة أمره.
الثالثة - وصف الله جلَّ جلاله بأنه رب العالمين، أي منشىْ الكون ومن فيه، وهو يتعهدهم بالنماء والتغذية والتربية، فقتل النفس التي حرَّم الله تعالى قتلها هدم لما بناه الله تعالى، وتخريب في الأرض، ونشر للفساد.
[إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ] {المائدة:29}
 
8 ـ (تبوء) هنا معناها: ترجع، ويلازمك الإثم ملازمة من يقيم في مكان ويبوء إليه، وهنا نتكلم عن معنى ( إثمي وإثمك ) روي عن ابن عباس أن المعنى إثمي أي: إثم قتلى، فهي تشبه إضافة الفعل إلى المفعول، أي: الإثم الذي ترتكبه في شأني بقتلك إياي، وإثمك الأصلي الذي عوق صدقتك عن أن تُقبل، فترتكب إثمين، وتضيف إلى ذنبك الأصلي ذنباً آخر، فلا تكون قد خلعت نفسك من المعاصي، بل أركست نفسك فيها، وزدتها.
 
وهذا الذي نختاره وهو معنى مستقيم، وروي عن الحسن أن المعنى أن يحمل يوم القيامة ما عسى أن يكون التقى قد ارتكبه من إثم، فوق آثامه الأصلية.
 
والزمخشرى يقول في تفسير هذه الآية: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك): أن تحتمل إثم قتلى لك لو قتلتك وإثم قتلك لي، ثم يقول :(المراد بمثل إثمي) وروي ذلك عن مجاهد، وإني أرى في هذا تكلفا، والواضح هو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه.
 
وهنا قد يسأل سائل أكان من التقوى أن يريد أن يتحمل غيره الأوزار، ونقول: إن ذلك بيان للنتيجة لامتناعه عن مقاومة أخيه، فهو إذ أراد الامتناع عن بسط يد الأذى لأخيه فكأنه أراد النتيجة المحتومة لذلك، وهى أن يبوء بإثم نفسه وإثمه، فإنَّ إرادة السبب كأنها إرادة للمسبب.
 
وقد ختم كلامه السمح بتبصير أخيه بالنتيجة النهائية، وهى أن يكون من أصحاب النار الملازمين لها الذين لا يخرجون منها يوم القيامة، ثم يبصره بأنَّ ذلك جزاء الظالمين، وأنه في فعلته التي يهم بفعلها، يكون ظالما داخلا في زمرة الظالمين.
 اللهم جَنِّبنا الظُّلم وأهله، وإنك نعم المولى ونعم النصير.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم



([1]) لواء الإسلام، السنة العشرون، العدد الثالث، ذو القعدة 1385هـ ،   الموافق فبراير 1966م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين