المصادر الأصليَّة للمعرفةِ في الإسلام

لمعرفة الحقائق في الإسلام مصدران أو أداتان، ولكن يختص كل واحد منهما بنوع من الحقائق، وفيما يلي بيان ذلك بالاستناد إلى نصوص الإسلام نفسه:

1 - العقل (استعملت مشتقاته في الإسلام "يعقلون" كما استعمل "تفكر" ومشتقاتها. ولم يستعمل العقل والفكر المصدرين") واختصاصه النظر في ملكوت الله تعالى: في السموات والأرض، أي: في الكون وحوادثه، ودليل ذلك أوائل وأواخر كثير من الآيات المتعلقة بالكون وحوادثه، وحديث تأبير النخل الصحيح مؤيد لذلك.

ويعين العقل الحواس من السمع والبصر والتجربة، ودليل ذلك ما في القرآن من آيات الكون من ألفاظ السمع والبصر والرؤية والنظر ومشتقاتها: (يسمعون)، (يبصرون)، (أو لم يروا)، (انظروا)، (أفلا ينظرون)... الخ.

وأما التجربة فحديث النخل دليل وخاصَّة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن كان يصلح فافعلوا» بعد إخفاق التجربة الأولى.

2 - العقل دليل مرشد للمصدر الثاني وللتحقق من صحته وسلامته، والمصدر الثاني هو الوحي إلى الأنبياء الذين اختارهم الله سبحانه.

فالعقل هو الطريق لإثبات نبوة النبي الصادق، وردِّ نبوة المتنبئ الكاذب، ودليل ذلك استعمال الأدلة القرآنية في القرآن لإثبات نبوة الأنبياء جميعاً، وخاصَّة خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم.

ولكن العقل ليس له وضع ما يجيء به النبي موضع الشك والتحقيق في صحته لخروج ذلك عن اختصاصه. ولأنَّ الوحي هو مصدر مباشر للحقائق من مصدرها وهو الله سبحانه، فدرجة اليقين فيه أعلى من اليقين الحاصل عن طريق العقل.

3 - الوحي إلى الأنبياء: وهو التعليم أو الإخبار الإلهي المباشر لهم بطريق لا مجال كذلك للعقل ليعرف كنهها ولكنه يستطيع معرفة قرائنها وآثارها.

وباعتبار أنَّ من شروط النبوة: الصدق وسلامة العقل، فإخباره عن الخبر الإلهي لا مجال للشك فيه، والأصل في اختصاص الوحي - كما اقتضت حكمة الله - الإخبار عن حقائق عالم الغيب مما يريد الله تعالى تبليغه إلى البشر وإخبارهم به كالحياة الآخرة وأحوالها وصفات الله تعالى، التي لا تدرك بالعقل مباشرة، وكالإخبار عن بداية الخلق والمصير.

ومن اختصاصه كذلك معرفة القيم المطلقة في الخير والشر سواء أكان ذلك مما يستطيع إدراكه بالعقل أم لا، والغالب أن يكون إدراك العقل له حين يدركه خاصاً غير عام. وقد يحتاج إلى عصور طويلة وتجارب كثيرة.

وهذه عين القضية التي عبَّر عنها السلف من المتكلمين باسم قضية: (الحُسن والقُبْح) وكونهما عقليين، أم شرعيين، أو عقليين والشرع كاشف، أو غير ذلك من الأقوال؟ ويدخل في هذا الباب جميع ما أتى في الشرع من الأحكام الثابتة القاطعة في الحلال والحرام في باب الأخلاق والمعاملات (النظم).

كحرمة لحم الخنزير، والخمر، والقمار، والزنا، والربا، والحكم بحلِّ الزواج، ووجوب الزكاة، والوفاء بالعقود وأمثال ذلك مما ورد في الكتاب إطلاقاً، والسنة في أحوال منها، وهي التي أريد لها التشريع الدائم؛ لأنَّ السنَّة قد تكون من قبيل السياسة الشرعية الزمنيَّة. أو كالعقوبة المحددة في السُّنَّة حينما تكون من قبيل التعزيز لا الحدّ.

فهذه كلها لا مجال فيها - بعد إيمان المرء بالنبوة - لوضعها في موضوع الشك. وكل ما يستطيع العقل أن يفعل: هو استخراج الحكمة، على أن يكون مجرَّد اجتهاد ورأي قابل للخطأ والصواب، وبالتالي للنقض والتغيير.

ويدخل في اختصاص الوحي تحديد العبادات التي أمر الله عباده بها، فهي كما يقول علماؤنا، توقيفيَّة، وتعبديَّة، لا مجال فيها إلا لتنفيذِ الأمر بالكيفيَّة التي وردَ الشرع بها عن طريق الوحي أو عن طريق من أمره الله تعالى بتبليغ الوحي وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ولكن المشاكل في الدلالة القاطعة عن المعنى الظاهر. فكثير من الآيات تورد من المعاني ما هو قائم في نفوس المخاطبين لمجرد الاستدلال أو الاعتبار أو الاستشهاد. لا على ما هو في حقيقة الأمر لعدم الحاجة إليه (يرجع إلى باب الكتاب في الموافقات للشاطبي فقد شرح هذه الفكرة شرحاً وافياً).

4- هناك مواطن يشترك فيها الوحي والعقل معاً. فالوحيُ يضعُ معالمَها الأساسيَّة وخطوطها الكبرى وقواعدها العامَّة، ويترك للعقلِ تفصيلها، أو يذكر حكماً ويترك للعقل القياس عليه. وهذا بابٌ في غاية الأهلية وجهله أو تجاهله يوقع صاحبه في خطأ كبير ويبعده كثيراً عن فقه الدين. ومن يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين ومثال ذلك: (الشورى) الواردة أساساً للحكم في القرآن، والعقود كذلك، و(الحقيقة فيما سوى الزكاة) الوارد في الحديث. ففي جميع هذه المواطن ترك الوحي للعقل تفصيلها بدلالة السنة القولية، والفعلية إن وجدت.

وهذه قاعدة تقتضي الاستقصاء لجميع أحواله أو ضوابطها لئلا يطغى فيها العقل على الوحي وهو طريق اليقين، وحتى لا ينسب إلى الوحي ما أريد له في السنة أحوال خاصَّة بعصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره وليّ الأمر أو القاضي.

وفي كل هذه الأحوال السابقة، الوحي هو الأساس، والعقل هو أداة التنفيذ والتكييف والتطبيق.

هذا ما بدا لي في موضوع مصدري المعرفة الأصليين، دون المصادر الفرعية المتفرعة عنهما، وفي العلاقة بينهما كذلك، وفي تخصُّص كلٍّ منها بنوعٍ من الحقائق، أو اشتراكهما اشتراكاً مُنسقاً كذلك. وفقنا الله تعالى لفقه كتابه وسنَّة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ووفَّقنا لحسن العمل بهما، وجعل العمل في ذلك خالصاً لوجهه، وجزى العاملين بفضله ومنه أفضل الجزاء. والحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

المصدر: مجلة المسلم المعاصر، العدد 13 - 1 مارس 1978م.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين