تعريف بكتاب : نظرات في علم أصول الفقه

تأليف : د.أحمد محمد كنعان


صدر حديثاً عام 2010 عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، بدولة الكويت ، كتاب ( نظرات في علم أصول الفقه ) من تأليف د.أحمد محمد كنعان ، يقع الكتاب في 230 صفحة من القطع المتوسط ، وهو يتناول عدداً من المسائل الحساسة التي تتعلق بهذا العلم الجليل ، ويرد المؤلف في هذا الكتاب على بعض الشبهات التي مازالت تثار بين الحين والآخر حول هذا العلم ، ويطرح المؤلف في كتابه رؤية جديدة يأمل منها جعل هذا العلم أكثر استجابة للنوازل المستجدة ، منطلقاً في هذه الرؤية من إيمانه العميق بخلود الشريعة الإسلامية الخاتمة ، هذا الخلود الذي تستمده الشريعة من قابليتها للتجديد ، وقدرتها الباهرة على مواكبة التطور البشري وما يستجد فيه من أحوال ، منذ نزولها وإلى يوم القيامة .. وفيما يلي مقدمة الكتاب التي تبين خطوطه العريضة :
المقدمة
الحمدُ للهِ الذي مَنَّ على خَلْقِهِ بِشَريعَتِهِ الخاتمةِ لِيُخْرِجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على النبَّيِّ الخاتمِ الذي بَعَثَهُ ربُّهُ رَحْمَةً للعَالمَينَ ، لِيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِم .
أما بعد : فإن من يتأمل تاريخ أمتنا الإسلامية الطويل الحافل بالإنجازات العظيمة ، ثم يرى ما آلت إليه اليوم ، لَيصاب بالألم والحسرة من العطالة التي أصابتها فأوقفتها عن الفعل والتأثير والعطاء ، وأجبرتها أن تتنحى عن دورها الريادي في الشهادة على العالمين الذي نصَّ عليه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النَّاسِ ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً)  ، غير أن الأمة ـ بالرغم من التحديات والمحن الكثيرة التي أوصلتها إلى هذه الحالة ـ لم تستسلم ، ولم تَعْدَم الأمل بالله عزَّ وجلَّ ، بل ظلت تتطلع باستمرار لاستعادة مكانتها الرائدة بين الأمم ، تدفعها تلك الروح العظيمة التي بثها الإسلام في كيانها .
وقد تعاظم تأثير هذه الروح ، في العصور الحديثة ، حين راحت الأمة تقارن حالها بحال الأمم الأخرى التي نهضت من سباتها ، ونفضت عن نفسها غبار الزمن ، وراحت تبني حضاراتها وتقدم للبشرية إنجازاتها الباهرة ، وبخاصة منها تلك ( النهضة )  التي انتقلت بأوروبا من العصور الوسطى .. عصور الجهل والتخلف والظلام إلى العصر الحديث .. عصر الأنوار (Enlightenment) .. عصر العلم والتقدم والحداثة الذي جعل أوروبا ومن سار على دربها يتسلمون قيادة العالم .. ومازالوا !
وقد أسفر هذا التحدي الحضاري الكبير ـ الذي وجدت الأمة نفسها في مواجهته ـ عن ظهور ( حركات إحياء ) عديدة في العالم العربي بخاصة ، والعالم الإسلامي بعامة ، استهدفت اللحاق بالرَّكْب ، والمشاركة في صناعة الأحداث ، واستعادة الأمجاد الغابرة ، وقد طرحت هذه الحركات نظريات عديدة ، وبرامج عمل مختلفة ، حول مفهوم النهضة ووسائل تحقيقها ، وأسفرت جهودها آخر المطاف عن تحقيق ( صحوة )  واسعة أعادت للأمة ثقتها بنفسها وتاريخها وهويتها ، وأحيت فيها الأمل بالانطلاق مرة أخرى في دورة حضارية جديدة .
وقد توسَّلت تلك الحركات لتحقيق هذه الصحوة بدعوة الأمة للعودة إلى تراثها .. تراث أجدادها .. تراث السلف الصالح .. الذي أقام حضارة الإسلام الأولى .. وتركزت جهود تلك الحركات في الترويج لهذا " التراث " والدفاع عنه ، والتمسُّك به ، على أساس أن التراث الذي جمع شمل الأمة بعد تفرُّقها ، ومَكَّنها في الأرض ، وأقام حضارتها الأولى ، وجعلها شاهدة على العالمين لقرون طويلة ، قادر على أن يعيد للأمة دورها الريادي من جديد .
إلا أن هناك مسألة قلما أعارتها تلك الحركات ما تستحقه من البحث والدراسة والاهتمام ، وهي أن التراث الذي حقق نهضة الأمة في الماضي لا يمكن أن يعيد الكرَّة من جديد ما لم يتجدَّد ويستعيد قدرته على التفاعل الخلاق مع معطيات العصر الراهن ، هذا العصر الذي اختلف اختلافات جذرية واسعة عن عصر السلف بما شهده من تحولات اجتماعية واسعة ، وإنجازات علمية مذهلة ، تعادل ـ بل تفوق ـ كل ما شهدته البشرية من تحولات وإنجازات عبر تاريخها الماضي كله  ، وقد أحدثت هذه التحولات المتسارعة تغيرات واسعة وحاسمة في الاقتصاد ، ونظم الإدارات العامة ، ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة ، وقد جعلت هذه التحولات الهائلة كثيراً من الباحثين المعاصرين يعتقدون أن عصرنا الراهن بات يشكِّل قطيعة تامة مع تراث العصور الماضية (!)
ومع عدم تسليمنا بحصول مثل هذه القطيعة في تراثنا العربي الإسلامي ـ الذي يظل جزء كبير منه قادراً على التفاعل الخلاق مع معطيات العصر الراهن ـ فلا مندوحة لنا من الاعتراف بأن الاعتماد اليوم على تراث السلف كما وصل إلينا دونما تجديد وإعادة صياغة إنما ينطوي على مغالطة منهجية واضحة ، لأن هذا التراث قد تشكل من خلال تفاعل السلف مع معطيات عصورهم ، فالتراث من هذه الزاوية أشبه ببعض آلات تلك العصور التي لم تعد قادرة اليوم على تأدية مهمات العصر الراهن بالكفاءة نفسها التي كانت تؤدي بها مهمات العصور الخوالي ، وكذلك هو التراث ، فقد أصبح اليوم ـ تحت وطأة التحولات السريعة الجذرية التي أشرنا إليها ـ مطالباً بأداء مهمات جديدة غير التي كان يؤديها في الماضي ، ونعتقد أن تراثنا العربي الإسلامي لن يستطيع إنجاز هذه الخطوة ما لم يتجدد ويكتسب القدرة اللازمة لأداء المهمات الجديدة التي باتت تتطلب منه استيعاب طبيعة العصر الراهن ، ومسايرة إيقاعه السريع ، والتحدث بلغته الجديدة التي بات الكومبيوتر ، والمركبات الفضائية ، ووسائل الاتصال الحديثة ، والطاقة النووية ، والليزر ، والنانو تكنولوجي ، والعولمة ، والتجارة الحرة ، والهيئات العالمية ، والمنظمات الدولية .. من أبجدياتها .
وتنبع أهمية حديثنا هنا عن تجديد التراث ـ في سياق الحديث عن هموم النهضة والإقلاع الحضاري ـ من حقيقة جوهرية مفادها أن التراث يشكل الأساس الأول في نهضة الأمم وبناء الحضارة .. أية حضارة .. وقد أثبتت وقائع التاريخ مراراً وتكراراً أن الأمم التي أفلحت في الماضي بتحقيق نهضة حضارية متميِّزة هي تلك الأمم التي تمتعت بروح مُبْدِعَة مكَّنَتْها من تأسيس تراث خلاق قادر على التحاور الإيجابي مع العصر الذي تعيش فيه  .
والتراث بتعريف موجز هو : كل ما أنتجته الأمة ـ أية أمة ـ من علوم ومعارف وأدبيات وفنون ، وأصبح يشكل المرجعية الفكرية والروحية للأمة .
وعلى هذا يمكن تعريف التراث الإسلامي بأنه : ( كل ما أنتجه العقل المسلم عبر تاريخه ، من علوم ومعارف وأدبيات وفنون ، في ضوء رسالة الإسلام الخاتمة ، وأصبح يشكل المرجعية الفكرية والروحية للأمة الإسلامية ) ، وبهذا التعريف للتراث الإسلامي نُخرج كل ما هو وحي سماوي من التعريف ، فالتنزيل الحكيم ليس تراثاً بالمعنى الذي قدمناه ، وإنما هو عطاء رباني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو ينطوي على حقائق مطلقة غير خاضعة لتقلبات الزمان والمكان والأحوال ، أما التراث فهو إنتاج بشري ، فيه حق وباطل ، وخطأ وصواب ، وهو يخضع لتقلبات الزمان والمكان والأحوال ، كما نبين في الفصول التالية .
وقد أثبت وقائع التاريخ في مناسبات عديدة أنَّ التراث يعطي أفضل ثمراته عندما يكون قائماً على أسس روحية تتصل بوحي السَّماء ، وهذا ما يؤكده كثير من الباحثين في القديم والحديث ، كما أثبتت وقائع التاريخ ، في مناسبات أخرى ، أن التفاعل بين تراث الأمة وواقعها إذا ما اختلَّ فعندئذ تحدث الأزمة ، وتدخل الأمة مرحلة الجمود والتخلُّف والانحطاط ، ولا تلبث أن تغيب عن الساحة ، وهذا الغياب قد يكون غياباً مادياً ، كما حصل لكثير من الأمم التي بادت واندثرت ولم تحفظ سجلات التاريخ سوى بعض رسومها ، وقد يكون الغياب معنوياً ، فيظل الإنسان اللحم والشحم والدم ، فيما يغيب الإنسان الفكرة والفعل والعطاء ، كما هي حال أمتنا الإسلامية اليوم ، التي بالرغم من أنها تشكل ربع البشرية فإنها تعيش على هامش الأحداث ، وكأنها وقعت بالفعل في ما حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : ( يُوشِكُ أنْ تَداعَى عليكُمُ الأمَمُ مِنْ كُلِّ أفقٍ ، كما تَدَاعَى الأكَلَةُ على قَصْعَتِها . قلنا : يا رسولَ اللهِ ، أمِنْ قِلَّةٍ بنا يومئذٍ ؟ قال : أنتم يومئذٍ كثيرٌ ، ولكنْ تكونونَ غثاءً كغثاءِ السَّيْلِ ، يَنْتَزِعُ المَهَابةَ من قلوبِ عَدُوِّكُم ، ويجعلُ في قلوبِكُمُ الوَهَن . قلنا : وما الوَهَنُ ؟ قالَ : حُبُّ الحياةِ وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ )  ، وإن أخشى ما نخشاه أن تطول بنا الأزمة ، فننقطع عن العصر ونغيب عن الساحة ، نحن المكلفين بالشهادة على العالمين بنصِّ التنزيل الحكيم ( وَكَذلِكَ جَعَلناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيدَاً )  ، ومن المؤكد أننا لن نكون شهداء على الناس ما لم نشارك فعلياً في صنع الحاضر ، فعندئذ .. وعندئذ فقط .. يمكن أن يكون لنا المستقبل ، أو على الأقل يكون لنا مكان لائق فيه ، فإن ( من لا يصنع واقعه ، أو لا يحضر في زمنه ، الحضور الفعال والمزدهر ، لا يحسن الإفادة من ماضيه ، كما لا يحسن استقبال آتيه )  .
وقد ساهمت نخبة من الباحثين في العصر الحديث بمحاولات جادة لتشخيص العوامل التي أوصلت الأمة إلى لحظة الأزمة  ، وانقسم هؤلاء الباحثون إلى فريقين رئيسين في تشخيصهم لهذه الأزمة :
• فريق أصولي ، يدعو للتمسك بالتراث ، ويُرجع الأزمة إلى انصراف الأمة عن تراثها وتأثرها بثقافات الأمم الأخرى التي يرى هذا الفريق أنها ثقافات مناقضة لتراث الأمة ، ومن ثم يذهب هذا الفريق إلى أن الخروج من الأزمة يتطلب العودة إلى الماضي ، إلى سيرة السلف الصالح ، والتمسُّك بتراث الأجداد الذين حققوا للأمة مجدها الإسلامي التليد  .
• وفريق تحرُّري ، انتهى إلى رؤية معاكسة تماماً ، يدعو إلى القطيعة مع التراث ، ويُرجع الأزمة إلى تمسُّك الأمة بتراثها ، وجمودها عليه ، ورفضها الانفتاح على ثقافات الأمم الأخرى والتفاعل معها ، ومن ثم يذهب هذا الفريق إلى أن الخروج من الأزمة يتطلب التحرر من سلطة التراث الذي بات يعوق الأمة عن الانطلاق والتفاعل مع روح العصر  .
ونلاحظ هنا ، أن الفريقين يربطان الأزمة بالتراث ، لكنهما ينتهيان إلى نظرتين متباينتين تماماً بشأنه ، وقد أفرز هذا التباين بين الفريقين تيارات فكرية مختلفة ، ونظريات كثيرة ، واقتراحات وتوصيات وحلول لا حصر لها ، لكن هذه الجهود على اختلافها أخفقت حتى اليوم بتقديم الوصفة العملية الكفيلة بإخراج الأمة من أزمتها ، لأنها حصرت الأزمة في خيارين يتجاهلان طبيعة التراث :
• فالتمسك بالتراث بمعزل عن معطيات العصر الراهن والثقافات السائدة فيه ـ كما يرى الفريق الأول ـ هو حكم مبرم بالانسحاب من الحاضر ، والنكوص إلى الماضي ، والانكفاء على الأمجاد التليدة ، والبكاء على الأطلال ، ومن ثم .. وَضْع الأمة على طريق الغياب .
• أما التخلي عن التراث ـ كما يرى الفريق الثاني ـ فهو يعني تخلي الأمة عن المكوِّن الأول ، بل الأساسي ، من مكونات وجودها وهويتها .
وواضح أن هذين الموقفين بالرغم من تعارضهما التام فإنهما ينتهيان إلى نفس النتيجة ، وهي نتيجة ليست قطعاً في صالح الأمة ، ولهذا نرى أن الجهود ينبغي أن تتوجه لا إلى التمسُّك بالتراث أو التخلِّي عنه ، بل إلى تجديد التراث وتفعيله ليعود حاضراً بكفاءة في صناعة الأحداث ، وتستعيد الأمة حضورها بجدارة على خارطة العصر .
وتنبع دعوتنا إلى تجديد التراث من حقيقة جوهرية مفادها أن ما بين التراث وبين الأمة تفاعل متبادل مستمر ، هو الذي يقرِّر حال الأمة وحال تراثها ، فالأمة الحيَّة لا تفتأ تبثُّ عوامل الحياة في أوصال تراثها ، وتجدِّد الدم في عروقه ، وتغذِّيه بأفضل ما في العصر من زاد علمي وفكري وثقافي لكي يظل حياً فاعلاً ومؤثراً في حياتها ، والتراث الحيُّ ـ بالمقابل ـ هو الذي يدفع الأمة إلى الفعل والإبداع والعطاء ، ويضمن لها مكانتها اللائقة بين الأمم .
ولا يجادل مُنْصِف بأن تراثنا الإسلامي تراث غني جداً ، بل هو تراث فريد في غناه ، فهو يحمل في ثناياه بذور قدرة هائلة كفيلة بأن تدفع الأمة مرة أخرى للانخراط بدورة حضارية جديدة ، كما فعل أول مرة ، غير أن هذا التراث لم يعد اليوم كما كان بالأمس ، فقد سَرَت في أوصاله برودة الزمن ، من جراء ما تعرَّض له خلال عصور التقليد والتكرار والجمود ، ولم يعد بوضعه الحالي قادراً على التفاعل الخلاق مع معطيات العصر الراهن .
وهذه ليست دعوة للقطيعة مع التراث ، كما قد يتبادر للوهلة الأولى ، لأننا نؤمن إيماناً راسخاً أن الأمة التي تنقطع عن تراثها تمسي كالشجرة التي انقطعت عن جذورها ، ما لها من قرار ، وإنما الذي نعنيه ، وندعو إليه ، ونؤكد عليه ، وننبه له ، أن التراث مهما كان عزيزاً علينا ، ومهما اعتقدنا فيه العصمة والكمال ، فلا مندوحة لنا من إعادة النظر فيه بين الحين والآخر من أجل تجديده ، وتفعيله ، ليكون معيناً لنا في الحاضر ، وزاداً لنا إلى المستقبل .
وليس في إعادة النظر بتراثنا ما يقلل من شأنه ، ولا شأن المؤسسين له ، لأن التراث .. أي تراث .. ما هو في حقيقته إلا مُنْتَجٌ بَشَريٌّ كما ذكرنا ، ومن ثم فهو مُعَرَّض لأن يعتريه ما يعتري أي منتَج بشري آخر من خطأ أو قصور أو علل ، وهذا ما أشار إليه الإمام مالك رحمه الله تعالى حين قال : ( كُلُّ إنسانٍ يُؤخَذُ مِنْ كلامِهِ وَيُرَدُّ ، إلا صاحِبَ هذا القَبْرِ صلى الله عليه وسلم )  .
ومن ثم ، فإننا نرى أن الحاجة تظل قائمة لإعادة النظر في التراث ، مرة بعد مرة ، وعصراً بعد عصر ، لكي نعيد ترتيبه وصياغته في ضوء المتغيرات المستجدة ، وننسج معه علاقات جديدة تجعله أقدر على التفاعل مع هذه المتغيرات ، ليس في عصرنا الراهن فحسب ، بل وفي العصور القادمة إن أمكن ، لأن تسارع الأحداث والتغيرات اليوم هَدَم ذلك الحاجز التاريخي الذي كان بين الحاضر والمستقبل حتى أصبحا اليوم كأنهما زمن واحد !
وتبدو الحاجة ملحة لمثل هذه المراجعة للتراث إذا تذكرنا أن الوقائع المستجدة أو النوازل  باصطلاح الأصوليون  لا تتوقف على عصر دون عصر ، بل هي وقائع مستمرة في شتى العصور ، وهذا ما يوجب علينا إعادة النظر في تراثنا ، ما بين الحين والآخر ، لكي نجعله قادراً على التعامل بجدارة مع الواقع ، ويظل حاضراً وفاعلاً ومؤثراً بقوة في كل حين ، ونعتقد أن هذا ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنَّ الله يَبْعَثُ لهذهِ الأمَّةِ على رَأْسِ كلِّ مائةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا )  ، وغني عن البيان أن تجديد الدين لا يعني استبداله بدين آخر ، بل يعني إعادة النظر في ( التراث الديني ) من أجل إعادة ( الدين ) إلى نقائه الأول ، وحيويته الدافعة للأمة على طريق النهوض .
ولابد من التنويه هنا بأن دعوتنا لإعادة النظر في تراثنا الإسلامي لا تقتصر على المنتَج التراثي وحده ( الفقه ، التفسير ، التاريخ .. ) بل تشمل كذلك ـ وربما بدرجة أولى ـ الأدوات المعرفية التي أنتجت ذلك التراث ، لأن هذه الأدوات تشكِّل جزءاً لا يتجزأ من التراث نفسه ، وهي في حقيقتها مثل التراث ، منتج بشري تحتاج ما بين الحين والآخر أن نعيد النظر فيها من أجل تجديدها وتطويرها حتى تتماشى مع تطور المجتمع ، وتطور العلم ، الذي لا يعرف الحدود ، ولا الجمود .
والخلاصة ، أننا نتفق مع الذين أرجعوا الأزمة إلى ( التراث ) ولكن بالمعنى الذي بيَّناه آنفاً ، والذي يتلخص بضرورة تجديده ، لا القطيعة معه ، وهذا هو هدفنا من هذا البحث الذي لن نتعرض فيه بطبيعة الحال لمراجعة التراث الإسلامي كله ، بل نركز فيه على ( علم أصول الفقه ) باعتباره المؤسس الأول للتراث الإسلامي بشتى حقوله وأشكاله ، ناهيك عن أن الفقه هو المرجعية الفكرية والروحية للمسلم ، فالفقه هو الميزان الذي يزن به المسلم أفعاله ، حلال هي أم حرام ؟ صحيحة هي أم فاسدة ؟ والفقه هو الذي شكَّل ثقافة الأمة الإسلامية ، وصاغ عقليتها ، ومن هنا جاء اهتمام علماء الأمة الإسلامية على مدار تاريخها بأصول الفقه ، ومن هنا يأتي تركيزنا في هذا البحث على علم أصول الفقه ، لاعتقادنا الجازم بأن تجديد الدين ـ الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم ـ يبدأ من تجديد هذا العلم .. أولاً .. وقبل أي شيء آخر .
منهج البحث :
1. لابد من التنويه ابتداءً بأن هذا البحث بحث نظري تأسيسي ، يتطلع إلى فتح آفاق جديدة للاجتهاد ، بهدف جعل علم الأصول أكثر كفاءة وأكثر قابلية للاستجابة لتغيرات الزمان والأحوال ، وذلك تحقيقاً لمضمون القاعدة الأصولية القائلة ( لا يُنْكَرُ تَغَيُّرُ الأحْكَامِ بِتَغَيُّرِ الزَّمانِ والأحْوالِ )  ، وليس من أهداف هذا البحث إصدار فتاوى أو أحكام فقهية ، وإنما هو مجموعة من الأفكار التي نعرضها للبحث والمدارسة بهدف تطوير علم الأصول ، من خلال إعادة النظر ببعض قواعده التي تواضع عليها علماء الأصول حتى اليوم ، وإضافة بعض القواعد الجديدة إلى هذا العلم الجليل .
2. يتألف البحث من سبعة فصول ، وخلاصة وتوصيات ، وخاتمة .
3. وقد أفردت الفصل الأول للتعريف بعلم الأصول ، مع نبذة تاريخية عن نشأة هذا العلم الجليل ، وأبرز العلماء الأعلام الذين ساهموا بتأسيسه .
4. في الفصل الثاني ناقشت العلاقة ما بين علم الأصول وبين تجديد الدين ، وبينت أن تجديد الدين ينبغي أن يبدأ من تجديد هذا العلم ، لأن أحكام الدين التي تحكم أفعال المكلفين تستنبط استناداً لقواعده ، وقد طرحت الأسباب التي تدعونا اليوم لتجديده ، واستعرضت أهم محاولات التجديد التي شهدها تاريخ هذا العلم في القديم والحديث ، وتوقفت عند بعض الإشكاليات التي تعترض محاولات التجديد في عصرنا الراهن .
5. في الفصل الثالث توقفت طويلاً عند مسألة أصولية مهمة جداً ، ألا وهي علاقة علم الأصول بدلالات النص ، لما لهذا المسألة من علاقة وثيقة بهذا العلم ، فدلالات النصوص كما هو معلوم تشكل العمود الفقري لعملية الاجتهاد ، وقد عرضت في هذا الفصل عدة ملاحظات تتعلق بتأويل النصوص وكيفية التعامل معها ، على أمل أن تساهم هذه الملاحظات باستثمار النصوص في عملية الاجتهاد إلى أبعد حد ممكن ، وأن تفتح أبواباً جديدة لحل بعض الإشكاليات الفقهية التي قد يتعذر حلها بالاعتماد على قواعد التأويل التي جرى العمل بها حتى اليوم .
6. في الفصل الرابع دعوت لإعادة ترتيب العلاقة بين القرآن الكريم والسنة النبوية ، فقد لاحظت من خلال تتبع هذه العلاقة عبر تاريخنا الفقهي أن السنة النبوية ـ التي يرتبط كثير من نصوصها بظروف الزمان والمكان والأحوال ـ كثيراً ما كانت تقدَّم على القرآن الكريم الذي الأصل فيه طلاقته عن هذه الظروف ، ما أدى إلى سلب القرآن الكريم الكثير من طلاقته التشريعية ، على الرغم من إجماع علماء الأصول على أنه هو المصدر الأول للتشريع ، وأن السنة تبع له ، وليس هو تبعاً لها ، ومن ثم فإن ترتيب العلاقة بين هذين المصدرين الأساسيين للتشريع تعدُّ نقطة الانطلاق الأولى لوضع الأمور في نصابها .
7. في الفصل الخامس دعوت لإعادة ترتيب العلاقة ما بين القرآن الكريم وبين مصادر التشريع الأخرى ، من إجماع وقياس ومصالح مرسلة وغيرها ، وذلك من أجل تحرير النص القرآني من قيود الزمان والمكان والأحوال التي لحقت به من جراء ربطه بهذه المصادر التي لا تنفك عادة عن ظروف الزمان والمكان والأحوال .
8. في الفصل السادس ، ومن خلال استقصاء منهج القرآن الكريم في تدرجه بالتشريع لاحظت أنه انتهى بمعالجة بعض المسائل إلى أحكام نهائية ( تحريم الخمر ، تحريم الربا .. ونحوه ) بينما قطع خطوات في معالجة بعض المسائل الأخرى ولم يقطع فيها بأحكام نهائية ( أحكام الرق مثلاً ) بل تركها مفتوحة على المستقبل لكي يواصل المجتهدون التعامل معها على ضوء ما يستجد من أحوال الناس ، وقد رأيت في هذا المنهج الإلهي إشارة واضحة بأن التدرج بالتشريع لم يتوقف بانقطاع الوحي وانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كما هو شائع في مناهج الأصوليين والفقهاء ، وإنما هو منهج مستمر إلى يوم القيامة ، شرط المضي فيه على نفس الخط الذي خطَّه التنزيل الحكيم ، وقد رأيت أن مواصلة التدرج بالتشريع يحقق خلود الشريعة عملياً ، وليس نظرياً كما هي الحال في المناهج الأصولية المعمول بها حتى اليوم ، وقد رأيت أن الأخذ بهذا المنهج لمواصلة التدرج بالتشريع سوف يثري عملية الاجتهاد ، لأنه يتيح لنا التحرك بالنص خطوات إلى الأمام ، ويجعله مفتوحاً على المستقبل ، وبهذا نستطيع حل الكثير من المعضلات الفقهية التي يتعذر حلها بالمنهج التقليدي الذي يعتقد بتوقف التدرج بالتشريع بعد انقطاع الوحي وانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى .
9. في الفصل السابع الختامي دعوت إلى تأسيس منهج تجريبي للفقه ، أسوة بالمنهج التجريبي المعمول به في العلوم الأخرى ، وذلك باستخدام طرائق الدراسات الإنسانية المعاصرة في رصد الظواهر الاجتماعية ، واعتماد نتائج هذه الدراسات في عملية الاجتهاد وإصدار الفتاوى ، وأيضاً في تقييم الفتاوى بعد فترة من صدورها من أجل تعديلها أو استبدالها بفتاوى أخرى تكون أكثر تحقيقاً لمصالح العباد والبلاد ، وبهذا المنهج التجريبي يمكن أن نطور أسلوب الاجتهاد التقليدي الذي جرى عليه العرف حتى اليوم ، إذ تظل الفتوى سارية المفعول من تاريخ صدورها إلى ما شاء الله غير عابئة بتغير الزمان والأحوال كما تقضي به القاعدة الأصولية المعروفة .
10. حاولت تقديم أمثلة تطبيقية حيث اقتضى السياق ذلك ، لبيان كيفية استثمار الحلول التي طرحتها في الفصول المختلفة ، لتكون هذه الأمثلة مرشداً في التعامل مع الحالات المماثلة .
11. ترجمت بالتفصيل للشخصيات التي وجدت ضرورة لترجمتها ، أما الشخصيات المعروفة مثل شخصيات الصحابة الكبار فلم أترجم لها ، واكتفيت أحياناً بذكر تاريخ الشخصية حيث اقتضى السياق ذلك .
12. عزوت الآيات إلى مواضعها من القرآن الكريم ، وخرجت الأحاديث النبوية ، والمصادر والمراجع في الهوامش .
13. أوردت في ختام البحث قائمة بأهم المصادر والمراجع التي رجعت لها ، أو اعتمدت عليها في هذا البحث ، وكان مرجعي الأساسي كتاب الله الكريم ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ومصادر الأصول المعتبرة ، إلى جانب العديد من المصادر الأخرى العربية والأجنبية التي رأيت أنها تثري البحث ، فإن الحكمة ضالة المؤمن ، أنى وجدها فهو أحرى الناس بها .
14. حاولت جهدي الالتزام بقواعد البحث العلمي المتفق عليها ، وأن لا أخرج عن المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية التي تظل هي الحافظ الفعلي لأصول هذه الشريعة الغراء .
وغني عن البيان أن ما قدمته في هذا البحث لا يعدو أن يكون اجتهاداً بشرياً ، فما أصبت فيه فمن الله تعالى وحده ، وما أخطأت فيه فمن نفسي ، وأسأل المولى عزَّ وجلّ السَّداد والرَّشاد ، والحمد لله رب العالمين .
د.أحمد محمد كنعان
[email protected]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين