فقه الأولويات

الشيخ: يوسف القرضاوي     اختيار واختصار : مجد مكي

 

 فقه الأولويَّات هو وضع كل شيء في مرتبته، فلا يؤخَّر ما حقه التقديم، أو يقدَّم ما حقُّه التأخير، ولا يصغَّر الأمر الكبير، ولا يُكبَّر الأمر الصغير.
هذا ما تقضي به قوانين الكون، وما تأمر به أحكام الشرع. أعني : أن خلق الله تعالى وأمره [أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {الأعراف:54}. كليهما يوجبان رعاية هذا الترتيب.
وجوب مراعاة النسب بين التكاليف الشرعية:
ومن فقه الأولويات: مراعاة النسب بين الأعمال والتكاليف الشرعية.
 فالإخلال بالنسب التي وضعها الإسلام للتكاليف الشرعية يحدث ضرراً بليغاً بالدين والحياة.
إن العقيدة في الإسلام مقدَّمة على العمل، لأنها الأساس، والأعمال هي البناء، ولا بناء بغير أساس.
وبعد العقيدة تأتي الأعمال، وهي متفاوتة تفاوتاً بعيداً، وقد جاء في الحديث الصحيح: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق).
والقرآن يبيِّن لنا أن الأعمال تتفاضل عند الله، وليست في درجة واحدة.
يقول تعالى [أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ(19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ(20) ]. {التوبة}..
فالجهاد أفضل ما يتطوع به من أعمال البدن.
روى الترمذي عن أبي هريرة قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشِعب فيه عيينة من ماء عذبة، فأعجبته، فقال: لو اعتزلتُ الناسَ فأقمتُ في هذا الشعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: (لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله تعالى أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً).
وفي فضل الرباط جاء حديث سلمان مرفوعاً: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأُجري عليه رزقه، وأمِن من الفتَّان) رواه مسلم.
وهذا ما جعل إماماً مثل عبد الله بن المبارك، وهو في أرض الرباط يكتب إلى صديقه الفضيل بن عياض الزاهد العابد، وهو ينتقل بين الحرمين مكة والمدينة متعبداً:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا         لعلمت أنك بالعبادة تلعب.
من كان يخضب خده بدموعه     فنحورنا بدمائنا تتخضب
وهذه الأبيات ثابتة عن ابن المبارك ساقها السبكي في " طبقاته " بالسند إليه .
ومن المقرر فقهاً: أن النافلة لا يجوز تقديمها على الفريضة، وأن فرض العين تقدَّم على فرض الكفاية، وأن الواجب الموقت المحدد، مقدَّم على الواجب الموسَّع في وقته...
غياب فقه الأولويات عن كثير من المسلمين:
إن آفة كثير من المسلمين غياب فقه الأولويات عنها، فكثيراً ما نهتم بالفروع قبل الأصول، وبالجزئيات قبل الكليات، وبالمختلف عليه قبل المتفق عليه، ونسأل عن دم البعوض ودم الحسين مهراق، ونثير معركة من أجل ناقة وقد ضيَّع الناس الفرائض.
وهذا هو الحال عند عموم المسلمين: الملايين يعتمرون تطوعاً كل عام في رمضان، وغيره، ومنهم من يحج للمرة العاشرة أو العشرين، ولو جمع ما ينفقه هؤلاء في النوافل لبلغ آلاف الملايين، ولو قلت لهؤلاء المتطوعين بالعمرة أو الحج: (ادفعوا ما تنفقونه في رحلتكم التطوعية لمقاومة التنصير أو الشيوعية في آسيا وإفريقيا، أو المجاعات هنا  وهناك ما استجابوا لك).
وإن من فقه الأولويات: أن تعرف أي القضايا أولى بالاهتمام فتعطي من الجهد والوقت أكثر مما يعطي غيرها.
من أهم ثمرات العلم والفقه في الدين:
معرفة قيم الأعمال ومراتبها الشرعية، والاحتفاظ لكلٍّ منها بموضعه في سلَّم المأمورات أو المنهيات، دون خلط أو إخلال بالنسب.
لقد وضع الإسلام لكل عمل قيمة خاصة، كما وضع للأمور المحظورة درجات ونسباً حسب ضررها وآثارها.
مراتب المأمورات:
ومن هنا كانت الأمور المطلوبة في الإسلام مراتب ودرجات:
منها: المستحبّ الذي رغب ا لشارع فيه ولا حرج في تركه.
ومنها: المسنون سنية مؤكدة، ومنها:الواجب، ومنها: الفرض، وهو ما ثبت وجوبه بطريق قطعي، ورتب الشارع على فعل الثواب، وعلى تركه العقاب، ويلزم من تركه الفسق، ومن جحده الكفر.
ومن المعلوم أن الفرض نوعان: فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وفرض عين على كل من يلزمه.
وفرض العين درجات، فهناك فرائض اعتبرها الإسلام أساسية وهي خمس: (شهادة أن لا إله إلا الله... وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً ).
وهناك فرائض أخرى، دون هذه في الأهمية والمنزلة، وإن كانت مطلوبة في دين الله طلباً جازماً.
والإسلام يقدم فرض العين على فرض الكفاية، ولهذا يقدم بر الوالدين وطاعتهما على الجهاد، وما دام فرض كفاية ولا يسمح للولد بالجهاد حينئذ بغير إذن الوالدين.
ويقدم فرض العين المتعلق بحق المجموع على الفرض المتعلق بحق فرد أو أفراد، كالجهاد وبر الوالدين، فالجهاد إذا أصبح فرض عين على قوم ـ كما في حالة هجوم عدو كافر على أهل بلد ـ مقدَّم على حق الوالدين في البر والطاعة.
ويقدم الفرض على الواجب، والواجب على السنة، والسنة المؤكدة على المستحب.
والإسلام يقدم القربات الاجتماعية على القربات الفردية، ويفضل ما يتعدى نفعه إلى الغير على ما يقتصر نفعه على فاعله.
ولهذا يقدم الجهاد على العبادة الفردية، ويفضل الفقه والعلم على العبادة، وإصلاح ذات البين على التطوع بالصلاة والصيام والصدقة.
ويفضل عمل الإمام العادل في رعيته على تطوعه بالنوافل: (ليوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة).
كما أن الإسلام يؤثر أعمال القلوب على أعمال الجوارح، ويقدم العقيدة على العمل ويعتبرها هي المحور والأساس.
ومما وقع فيه المسلمون:
1 ـ أهملوا فروض الكفاية المتعلقة بمجموع الأمة كالتفوق العلمي والصناعي والحربي... ونشر الدعوة ومقاومة الظلم الاجتماعي.
2 ـ أهملوا بعض الفرائض العينية، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3 ـ واهتموا ببعض الأركان أكثر من بعض، فاهتموا بالصوم أكثر من الصلاة، فلهذا لم يكن يوجد مسلم مفطر في نهار رمضان، ولكن وجد من المسلمين والمسلمات من يتكاسل عن الصلاة، ووجد من ينقضي عمره دون أن ينحني لله راكعاً ساجداً.
كما أن كثيراً من المسلمين اهتموا بالصلاة أكثر مما اهتموا بالزكاة، مع أن الله تعالى قرن بينهما في كتابه في (28) موضعاً حتى قال  بعض الصحابة: من لم يزك فلا صلاة له.
444 ـ واهتموا ببعض النوافل أكثر من اهتمامهم بالفرائض والواجبات.
5 ـ واهتموا بالعبادات الفردية، كالصلاة والذكر أكثر من اهتمامهم بالعبادات الاجتماعية، التي يتعدى نفعها: كالجهاد، والفقه، والإصلاح بين الناس،والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالبر والرحمة.
6 ـ وأخيراً اهتم كثير من الناس بفروع الأعمال، وأغفلوا أساس البناء كله، وهو العقيدة، والإيمان والتوحيد وإخلاص الدين لله.
مراتب المنهيات:
الأمور التي ينهي عنها الإسلام مراتب ودرجات.
منها: المكروهً تنزيهاً، وهو ما كان إلى الحلال أقرب.
ومنها: المكروه تحريماً، وهو ما كان إلى الحرام أقرب.
ومنها: المشتبهات، (التي لا يعلمهن كثير من الناس، فمن وقع فيها وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يقع فيه).
ومنها: الحرام الصريح، الذي فصَّله الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم:[ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ] {الأنعام:119}.
والحرام نوعان: صغائر وكبائر، والصغائر تكفرها الصلاة والصيام والصدقة:[ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] {هود:114}.
وفي الحديث: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).
أما الكبائر فلا يمحوها إلا توبة نصوح، صادرة من قلب كواه الندم، وطهره الدموع السخين.
والكبائر تتفاوت، فمنها ما عده النبي صلى الله عليه وسلم: أكبر الكبائر، وعلى رأسها الإشراك بالله، ويليه ذنوب أخرى مثل: عقوق الوالدين، وشهادة الزور، والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات.
ومما وقع فيه الخلل والاضطراب:
1 ـ اشتغال كثير من الناس بمحاربة المكروهات والشبهات أكثر من محارمه المحرمات المنتشرة والواجبات المضيعة.
2 ـ انصراف الكثير إلى مقاومة الصغائر مع إغفال الكبائر الموبقات.
الصدقة:
1 ـ في حالة الصحة والشح أفضل من الصدقة في حال المرض والدنو من القبر.
2 ـ الصدقة من الفقير الذي لا يجد إلا جهده، أفضل من صدقة الغني الذي يملك القناطير.
3 ـ الصدقة في السر أفضل منها في العلانية لأنها أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء.
4 ـ الصدقة على المستور المتعفف أفضل من الصدقة على السائل والطواف.
5 ـ الصدقة على الأقارب والمحتاجين أفضل منها على غيرهم لما لمهم من حق ذوي القربى.
6 ـ ويزداد أجرها إذا كان بين الأقارب شيء من الخصومة والشحناء.
7 ـ الصدقة في الأيام الفاضلة أفضل منها في غيرها من الأيام.
الزنا:
1 ـ الزنا في ربيع الشباب المتوقد غير الزنا في خريف الشيخوخة الهادئة. (ثلاثة لا يكلمهم الله...: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر).
2 ـ الزنا بامرأة الجار أشد إنما من الزنا بامرأة بعيدة الدار، ذلك أن للجوار حرمة يجب أن تحفظ،وحقوقاً مؤكدة يجب أن ترعى، والمفترض في الجار أن يكون حارساً لحرمات جاره، مؤتمناً على غرضه وماله، لا أن ينقلب لصاً يسرق المال أو العرض.
روى البخاري في الأدب: (ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال: لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر من أن يزني بامرأة جاره.
ومثل ذلك الزنى بالمرأة التي غاب عنها زوجها، خصوصاً إذا كان غيابه في الجهاد: (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم).
ـ ويزداد إثم الزنى مع الإصرار والمداومة، وفي حديث ابن مسعود جعل أعظم الذنوب بعد الشرك ووأد الأولاد: (أن تزاني حليلة جارك) تزاني يدل على التكرار.
ـ ثم يزداد الإثم مع المجاهرة والتبجح بمعصية الله: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين).
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين