هدي المُرسلين في التَّعامل مع المُخالِفين

عناصر المادة

1- الصَّبر على أقوالهم، والهجر الجميل لأفعالهم2- المنهج النَّبويُّ في التَّعامل مع المخالف

مقدمة:

إنّ الخطأ أمرٌ جبليٌّ، فَطَر الله سبحانه الإنسان عليه، وجعل مِن أصل خلقَتِه الخطأ والنّسيان، فكلّنا تصدُر منه الأخطاء، وتأتي منه الهفوات والتّجاوزات، ولن يسلم مِن الخطأ أحدٌ ولو حاول، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ). [ 1 ]

ولقد جعل الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم قدوةً للنّاس، وأسوةً حسنةً في تعامله وأخلاقه، ووصفه بأنّه صاحب الخلُق العظيم، والسّراج المنير؛ الّذي جاء بالوحي والرّسالة ليُخرج النّاس مِن ظلمات الشّرك إلى نور التّوحيد، وإنّ المتأمّل في سيرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم العَطِرة لَيَستخلص منها كثيرًا مِن الدّروس والعبَر، وإنّ مِن بين تلك الدّروس الّتي يستفيد منها المسلم، ويهتدي بهديها كيفيّة تعامله مع أعدائه ومخالفيه، فقد كذّبوه وآذَوه في أهله، وتآمروا على قتله، ومع ذلك تعامل معهم باللّطف والرّفق، والدّعاء لهم، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رضي الله عنه: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ). [ 2 ]

ولقد كانت له صلى الله عليه وسلم أساليب جميلةٌ وطرقٌ راقيةٌ، يتعامل بها مع المخطئ، يستعمل منها في كلّ وقتٍ ما يناسبه، فمرّةً بالعتاب والتّأنيب؛ عتاب تربيةٍ وتأديبٍ، لا عتاب قطيعةٍ وشتيمةٍ، ومرّةً بالعفو والصّفح، ولذلك أذهل جميع النّاس بجمال تعامله، أذهل العدوّ منهم قبل الصّديق.

لقد مرّت الدّعوة الإسلاميّة في الجيلِ القدوةِ بحالاتٍ مماثلةٍ، كالّتي تمرّ بالمسلمين اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، وتعاملَ صحابة رسول الله رضي الله عنهم مع المخالفين مِن الكفّار والمنافقين، والعصاة والمجرمين، بفقهٍ وعلمٍ مِن السّنّة العمليّة بالحوارات معهم، رجاء هداية الضّالّين، وتخفيف شرّ الكائدين، ودرء فتنة المجرمين، وإيقاظ ضمير الشّاردين، ليعودوا إلى الطّريق المستقيم، فيا تُرى أين نحن مِن هذه الأساليب؟ وكيف نتعامل مع مَن يخطئ معنا أو يخالفنا؟

1- الصَّبر على أقوالهم، والهجر الجميل لأفعالهم

لقد أمر الله سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلم بالصّبر على أذى المشركين، وذلك بالإعراض عنهم والهجر الجميل لهم، الهجر الّذي لا أذى فيه، ولقد أوجز الله عز وجل للإنسان المسلم أرفع نماذج السّلوك الّتي تحقّق الانسجام مع المجتمع الّذي يعيش فيه، دون أن يتلوّث بمفسدات هذا المجتمع، فلا تُلابسْ مَن حولك فيما يغضب الله جل جلاله، أو التّنازل عن شيءٍ مِن قضايا دعوتك الّتي تحملها، مع الحفاظ على الرّابطة الإنسانيّة الّتي تشدّ النّاس جميعًا بعضهم إلى بعضٍ، مسلمهم وكافرهم على حدٍّ سواءٍ، لأيّ غايةٍ؟ هل لغاية المداراة والمجاملة والمصانعة؟ لا، فإنّ سلوك المسلم أبعد ما يكون عن هذه الرّجرجة الموقوتة، ولكن لإبقاء النّافذة الوحيدة الّتي يمكن أن تنفذ منها إلى قلوب النّاس وعقولهم ومشاعرهم، والّتي يمكن أن تكون في مجتمعك بواسطتها عنصرًا فعّالًا ومؤثّرًا، تُقدّم الإصلاح لمشاكل المجتمع بالقلب المغمور بالرّغبة في إيصال الخير إلى النّاس، مِن دون مساسٍ بجوهر رسالتك وأسس عقيدتك.

أرأيتم كيف كان سلوكه صلى الله عليه وسلم؟ جَهَر بالدّعوة علنًا دون مداراةٍ ودون خوفٍ، وأبقى على كلّ العلاقات الّتي أمكن لها أن تبقى، فكان يغشى مجالس النّاس ويزورهم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي اللع عنه، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ؟ قَالَ: حَضَرْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ...إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَقْبَلَ يَمْشِي، حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ مَا يَقُولُ، قَالَ: فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ، غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى، ثُمَّ مَرَّ بِهِمُ الثَّالِثَةَ، فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ). [ 3 ]

فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ، حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، انْصَرِفْ رَاشِدًا، فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ جَهُولًا، ذلك أقصى ما قاله النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ)، فكانت غريبةً هذه اللّفظة القويّة، من إنسانٍ عُرف بأنّه على غاية ما يمكن أن يكون عليه الإنسان من السّماحة والرّحمة والطّيب.

2- المنهج النَّبويُّ في التَّعامل مع المخالف

ما أجمل أن نتعلّم فنّ التّأثير والتّوجيه والتّربية، ممّن سما على الخَلق بكمال خُلُقه وحُسْن توجيهه، ممَّن كسب النّفوس بإحسانه ورِفْقه، ممَّن أقبلت إليه القلوب النّافرة بتعامله ولطفه، ممَّن وصفه الله جل جلاله في تعامله مع النّاس فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159].

مِن القدوة الحسنة الّذي نصح ووجّه، وربّى بنظرةٍ عميقةٍ، ومراعاةٍ لطبيعة النّفوس، حتّى خرّج للبشريّة جيلًا فريدًا لا يتكرّر أبدًا، فلنقفْ مع مشهدٍ رائعٍ أخّاذٍ، يحكي لنا أسلوب تعامله صلى الله عليه وسلم مع فئةٍ لا يخلو منها عصرٌ، وهم مَن غلبت عليهم شهوة نفوسهم، فوقعوا في الكبائر الّتي يبغضها الله سبحانه ويمقتها، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ رضي الله عنه، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ النَّبِيُّ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). [ 4 ]

فلقد شرب هذا الشّاب الخمرة -مرّاتٍ- الّتي هي مِن كبائر الذّنوب، ومع ذلك فلم تكن هذه الكبيرة سببًا لمجافاة هذا الشّاب وإبعاده، حيث كان مِن الصّحابة مَن ظلم نفسه، ومنهم مقتصدٌ، ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن الله.

إنّ المقصّرين والمخطئين بحاجةٍ -دائمًا- لاحتوائهم والقرب منهم، وتذكيرهم وتوجيههم، لا أن تكون هذه الكبائر سببًا في إبعادهم، فالقُربُ مِن المقصّر والمخطئ فيه محاصرةٌ للأخطاء وتقليلٌ لها، فربّما رأى مِن إقبال مَن حوله على الخير ما يحرّك جوانب الخيريّة فيه، ويجعله يندم على أخطاء الماضي، وجميلٌ أن نذكر الجانب الخيريّ في المخطئ، لرفع معنويّات المقصّر فيرتفع إيمانه، ويسمو عن اقتراف الكبائر، وإنّ هذا الأسلوب النّبويّ -الإشادة بالجوانب الإيجابيّة لدى المقصّرين- قد تكرّر في حوادث عدّةٍ: فقد ذكر لحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه -يوم أن أفشى سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتُّهِم حينها بالنّفاق- منقبة شهود بدرٍ، وحين طعن بعض الصّحابة في مالك بن الدُّخشن بالنّفاق، قال لمن اتّهمه بالنّفاق: (لاَ تَقُلْ ذَلِكَ، أَلاَ تَرَاهُ قَدْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ) قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى المُنَافِقِينَ، قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ). [ 5 ]

فهذه الإشارة فيها تحريكٌ للخير الّذي في كوامنهم، وتحفيزٌ للثّبات عليه، فلا ينبغي أن نجعل مِن الأخطاء والتّجاوزات زنازين ضيّقة نحبسهم فيها، فلا يُعرفون ولا يُذكرون إلّا بها.

خاتِمةٌ:

قد يجتمع في العبد إيمانٌ وفسقٌ، وسنّةٌ وبدعةٌ، وإسلامٌ وشركٌ أصغر، لا يُخرج صاحبه من الملّة، فَنُحبّه بما عنده من الإيمان والخير، ونُبغضه بما عنده مِن المعصية والفسق، ويا ليتنا وَعينا خطأ فِعلِنا، عندما يستطيل بعضنا أعراض رجالٍ أفاضل وعلماء، ونَقدحهم قدحًا لاذعًا يكاد أن يُخرجهم من دائرة الإسلام، لا في تجاوزاتٍ متفّقٍ عليها، بل في مسائل هي محلّ نظرٍ واجتهادٍ، ويسعها اختلاف الرّأي، حقًّا إنّ كلّ مَن استطال عرضهم في مسائل غير قطعيّةٍ، كان بعيدًا كلّ البعد عن السّنّة النّبويّة، الّتي نحن بأمسّ الحاجة إلى فهمها وتطبيقها، قبل أن ننادي بها وندعو إليها.

ما أجمل أن نتمثّل هذا الأدب النّبويّ الرّفيع، الّذي ينهانا فيه صلى الله عليه وسلم أن نكون عونًا للشّيطان على أخينا، وأن نتعلّم الأخلاق الفاضلة -في التّعامل مع الآخرين- ممّن بعثه الله عز وجل ليتمّم مكارم الأخلاق، فإذا وعينا هذا الأدب رَحم بعضُنا بعضًا، واتّسعت دائرة السّتر بيننا، وقويت دعائم الخير عندنا، وعُوفينا مِنْ كثيرٍ مِنْ أمراض القطيعة والخصام.

 

1 - سنن التّرمذيّ: 2499

2 - صحيح البخاريّ: 3477

3 - مسند أحمد: 7036

4 - صحيح البخاريّ: 6780

5 - صحيح البخاريّ: 425

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين