من نصوص العلماء في التأدب مع الجناب النبوي

الحمد لله ..

فهذه بعض نصوص العلماء في التنفير عن التعرض للجناب النبوي بشيء يسير مما ظاهره التنقص من مقامه السامي، لعل الله أن ينفع بها فقد غفل بعض المتفقهين عن هذا المقصد العظيم والأدب الكريم، فمن ذلك:

ما ذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في «تاريخه» عن نوفل بن الفرات عامل عمر بن عبد العزيز، وكان رجلاً من كُتّاب الشام مأموناً عندهم، فاستعملَ رجلاً على كُورة من كُور الشام كان أبوه يزن بالمنّانية، فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز فقال: ما حملك على أن تستعمل رجلاً على كورة من كور المسلمين كان أبوه يزنُ بالمنّانية؟ فقال له: أصلح الله أمير المؤمنين وما عليَّ ما كان أبوه؟ كان أبو النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشركاً!

فقال عمر: آه، ثم نَكَتَ، ثم رفع رأسه، فقال: أأقطع لسانَه؟ أأقطع يدَه ورجلَه؟ أأضرب عنقَه؟ ثم قال: أقد جعلتَ هذا عدلاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ لا تلي لي شيئاً ما بقيتُ.

وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» من وجه آخر عن أحمد بن عبد الله بن يونس قال: سمعت بعض شيوخنا يذكر أن عمر بن عبد العزيز أُتيَ بكاتب يخطُّ بين يديه وكان مسلماً، وكان أبوه كافراً، نصرانياً أو غيره، فقال عمرُ للذي جاء به: لو كنتَ جئتَ به من أبناء المهاجرين؟ فقال الكاتبُ: ما ضرَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم كفرُ أبيه! فقال عمر: وقد جعلتَه مثلاً؟ لا تخطّ بين يدي بقلم أبداً.

وأخرجه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي من طريق آخر عن ضمرة، حدثنا علي بن أبي حملة قال: قال عمر بن عبد العزيز لسليمان بن سعد: بلغني أن أبا عاملنا بمكان كذا وكذا زنديق، قال: وما يضره ذلك يا أمير المؤمنين؟ قد كان أبو النبي صلى الله عليه وآله وسلم كافراً فما ضرّه؟ فغضبَ عمرُ غضباً شديداً وقال: ما وجدتَ له مثلاً غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: فعزله عن الدواوين.

ومن عجبٍ أن هذا القول بعينه هو ما يقوله بعض الأحداث من الناشئة الذين يتقفرون العلم، فتراهم يجترؤون على ذلك كما قاله هذا العامل، فما كان عمرُ رضي الله عنه ليفعل بهم لو كان حياً؟!

وقال الأستاذ رفاعة الطهطاوي رحمه الله في «نهاية الإيجاز»: «وعلى كل حال فالحذرُ كلُّ الحذر من ذكر أبوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فيه نقصٌ، فإن ذلك قد يؤذي النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم لأن العرفَ جارٍ بأنه إذا ذُكر أبو الشخص بما ينقصه تأذى ولدُه بذلك عند المخاطبة، كيف وقد روى ابن منده وغيره عن أبي هريرة قال: جاءت سبيعة بنت أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إن الناس يقولون أنت بنت حطب النار، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مُغضَب فقال: ما بال أقوام يؤذونني في قرابتي، ومن آذاني فقد أذى الله. وقد قال عليه الصلاة والسلام: لا تؤذوا الأحياءَ بسبّ الأموات، ولا ريب أن إيذاءَه كفرٌ يقتل فاعلُه إن لم يتب».

والحديث الذي ذكره إسناده واهٍ كما قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» ونقل عن أبي نعيم الحافظ الأصبهاني أن الصواب في اسمها «درة بنت أبي لهب» وتعقبه باحتمال أن يكون لها اسمان، أو أن أحدهما لقب والآخر اسمها، قال: ويحتمل أن القصة تعددت، فقد أخرج ابن أبي عاصم والطبراني وابن منده نحوه عن درة بنت أبي لهب بسند ضعيف.

وقد سئل القاضي أبو بكر بن العربي وهو ممن يرى إكفار والديه صلى الله عليه وآله وسلم عمّن قال إن أبا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النار، فأجاب بأن قائلَ ذلك ملعونٌ لأنه آذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ [الأحزاب: 57].

وإذا كان قد نهى أصحابه عن إيذاء عكرمة بن أبي جهل بلعن أبيه فكيف إيذاؤه هو عليه السلام المنهي عنه مطلقاً بنص هذه الآية، فإنه أولى؟!

وقد جزم القاضي أبو الوليد الباجي وتبعه القاضي المـُحدِّث أبو محمد صالح بن عبد الملك الأوسي في تعقيبه على فتيا ابن العربي كما في «المعيار» بأن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم محرّم مطلقاً، حتى لو كان بفعل مباح، ولذا جعل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم نكاحَ عليٍّ عليه السلام من ابنة أبي جهل مما يؤذيه، لأنه يؤذي فاطمةَ عليها السلام، مع كونه مباحاً.

وذكر بعض العلماء أنّ أبا طالب لا يسوغ ذكره بسوء مع صحة الخبر أنه في النار، تحرّجاً من أذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه ناصره وذبَّ عنه، ولذا يقول العلامة المجتهد أبو عبد الله بن الـمُناصف في نظمه الموسوم بـ «الدُّرَّة السَّنية»:

ثمَّ أبو طالبٍ المحمودُ ... بحبّه النبيَّ لا أزيدُ

وقال في موضع منها:

ماتَ أبو طالبٍ الـمُناضحُ ... عن النبيِّ أبداً والناصحُ

وقد ثبت أن حسان بن ثابت استأذن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في هجاء قريش فقال له: «كيف بنسبي فيهم؟!» فقال حسان: لأَسُلَّنَكَ منهم كما تُسلُّ الشعرةُ من العجين.

وذكروا أن الشافعي في كلامه على السرقة، ساقَ خبرَ المخزومية في شفاعة أسامة بن زيد في ترك قطع يدها فيما سرقت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتأدب ولم يصرح باسم فاطمة عليها السلام، بل قال: لو سرقت فلانة – لامرأة شريفة – لقطعتُ يدَها.

وساق أبو داود حديثاً عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة عليها السلام: «لو بلغت معهم الكُدَى ما رأيت الجنة حتى يراها جدُّ أبيك» فسلك أبو داود سبيلَ الأدب مع البيت النبوي واقتصَّ الحديثَ فحذف منه لفظ «حتى يراها جد أبيك» واقتصر على الشطر الأول، ثم قال: (فذكرت تشديداً في ذلك) فعبَّر عنه بالمعنى أدباً.

وقد ذكر القاضي عياض في «الشفا» أن الفقهاء أفتوا بالقتل أو بالتعزير بما يقتضيه الحال والمقال، فيمن صدَرَ منه ما يقتضي التَنقصَ من قدْر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، كما أفتى القاضي أبو عبد الله بن المرابط بقتل من قال إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هُزِمَ.

وعن مالك فيمن عيَّر رجلاً بالفقر فقال: تُعيُّرني بالفقر وقد رعى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الغنمَ، أنه يؤدب. قال: لأنه عَرَضَ بذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غير موضعه، ولا ينبغي لأهل الذنوب إذا عُوتبوا أن يقولوا: قد أخطأت الأنبياءُ.

ورُفع إلى أبي الحسن القابسي شابٌ معروفٌ بالخير قد عيّره رجلٌ بأنه أميٌّ فقال الشابُّ: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أميّاً؟! فشنَّع الناس عليه وكفّروه وأشفق الشابُ وأظهر الندمَ، فردّ القابسيُّ بأن إطلاقَ الكفر عليه خطأٌ، لأنه لم يقصد السخريةَ، لكنه جاهلٌ ينبغي أن يؤدّبَ إذا لم يتُب.

وأفتى القاضي أبو محمد بن منصور فيمن تنقصَ رجلاً فردَّ عليه بأن البشر يخطئون حتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بإطالة سجنه وتأديبه إذا لم يقصد السبَّ، وكان بعض فقهاء الأندلس أفتى بقتله.

وأنكر هارون الرشيد على أبي نواس قول:

فإن يكُ باقي سحر فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بكفِّ خصيبِ

فقال له: يا ابن اللخْنَاء أنت المستهزئُ بعصا موسى؟ وأمر بإخراجه من عسكره، والوقائع في هذا المعنى متكاثرة.

وقد قرأتُ بخط الحافظ أبي العباس الغماري الطنجي أن شيخاً بمصر يقال له المهدي عزبان، وكان متزلفاً للملك فاروق كحال بعض من ينتسب للعلم اليوم، وكان المهدي هذا قد ترقى به الحال حتى غدا إمام مسجد قصر الملك فاروق.

ولما عاد طه حسين من باريس حاملاً الدكتوراة في العربية! أعلن الملك عن حفل يقام بعد الصلاة بمسجد القصر لتكريم طه حسين، فحضر العلماء والأعيان ورجال الدولة.

فلما قُضيت الصلاة قدّموا طه حسين، فقام له الملك مستقبلاً وعانقه، فقال المهدي عباس: يا أهل مصر: هذا ملككم الذي ما عبَس بوجه الأعمى ولا تولّى.!

فقام العلامة محمد شاكر والد المحدث أحمد شاكر رحمهما الله، وكان يومها وكيلَ مشيخة الأزهر، وخاطب الملك والحاضرين قائلاً: إن المهدي عزبان كافر مرتد، لأن كلامه تضمن الاستخفاف بمقام النبوة، وتفضيل الملك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوافقه عامة شيوخ الأزهر.

قال الشيخ أحمد شاكر: فوالله لقد رأيتُ المهدي عزبان أعمى يتسوّل أمام بعض المساجد.

وهذا من تمام تعظيمهم وتوقيرهم للجناب النبوي وحرمته، وقد وقع نظيرُ هذا في عصرنا بمصر، فإن بعض المتفيهقين ممن كثر كلامُه وقلّ فقهُه وهو المشهَّر بعمرو خالد، وقع في غضون كلامه ما ظاهره النتقص بمقام النبوة، حيث نسبَ الفشلَ إليه دون قصد السخرية والاستهزاء، لجهله بالحكم والأدب في خطاب الأنبياء والأولياء، فثار عليه أهل عصره واستهجنوا لفظَه ولم يعبأْ هو بذلك ولا أظهرَ ندماً وتوبة، بل إن بعض المتعصبين له من الجهلة احتج له بقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [الأنفال 43] وهذا من تمام جهلهم بطرق الاستدلال ووجوه الموانع والمعارضة التي تتطرق إليه، فإن الله عز وجل لم يَجْبَه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالفشل، بل عمَّ الخطاب، فاحتجوا هم لجهلهم بالعام في موضع الخاص.

وأيضاً: فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم براءٌ من عهدة هذا الفشل، لأنه إنما لحقهم بسبب معصيتهم أمرَه، فتأمل كيف وقعوا في زلة أعظم، حيث نسبوا إليه عليه السلام ما لم يفعله وهو من الكذب عليه، ولو كان القضاءُ الشرعيُّ معمولاً به لوجب تعزيرُهم وتأديبُهم بالضرب والحبس حتى يظهروا الندمَ والتوبة.

والعجب أن هذا المغرور عمرو خالد زعم أن جنازة الهالك شنودة المصري أذْكَرَتْه بجنازة الإمام أحمد حاشاه، وهذا سوء أدب نشأَ عن فرط جهل أو نفاق نعوذ بالله، ونسأله السلامة من زمان تغلَّبَ فيه الرويبضة والصَّعافقة.

وقد استحسن الناس صنيع العلامة شعبان الآثاري الذي ضمَّن ألفيته النحوية فصلاً في التنبيه على الأدب مع الله تعالى في مواضع الإعراب قال:

خاتمةُ الفصول وهو إعرابُ الأدبْ .. مع الإله وهو بعضُ ما وجبْ

فالربُ مسئولٌ بأفعال الطلبْ ... كاغفرْ لنا والعبدُ بالأمر انتدبْ

وفي سألتُ اللهَ في التعليمِ ... تقولُ منصوبٌ على التعظيمِ

فقسْ على هذا ووقعْ بلعلْ ... منهُ وحققْ بعسى تُعطَ الأملْ

بالله طالبٌ ومطلوبٌ علمْ ... قد يعلم الله بمعنى قد علمْ

وامنعْ من التصغير ثم التثنيه ... والجمعُ والترخيمُ خير التسميه

وشاعَ في لفظ من للتعجـبِ ... ما أكرمَ اللهَ وفي معنىً أُبي

وحيثما قيل الكتابُ انهضْ إليه ... كتابُ ربيْ لا كتابُ سيبويه

لأنه بكل شئٍ شـــاهدُ ... ولا تقلْ ذا الحرفُ منه زائدُ

بل هو توكيدٌ لمعنىً أو صِله ... للّفـظِ في أبياتـهِ المفصّلَه

أو لمعانٍ حُققتْ عمّن روى ... كهلْ ونحو بلْ لمعنىً لا سوى

ومنْ يقلْ بأنَّ ما زادَ سقطْ ... أخطأَ في القول وذا عينُ الغلطْ

كمثل أن مفيدةِ الإمهـالِ ... وكـافـهِ نـافيةِ الأمثــالِ

ولا تكنْ مستشهداً بالأخطلِ ... فيـهِ ولا ســواه كالسموألِ

وغالبُ النحاة عن ذا البـابِ ... في غفـلة فـانجُ إلى الصوابِ

تكنْ كمنْ بلغـة العـدناني ... أعـربَ وهيَ لغـةُ القـرآنِ

وقد استحب بعض العلماء سيادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة وإن كان الحديث الوارد فيه ضعيفا، وكذا استحبوا ذكره بصيغة الجمع في التشهد والصلوات تأدبا معه، فيقول: (السلام عليكم) دون (السلام عليك أيها النبي) كما بيناه في رسالة (جواب أهل العلم والإيمان بحكم التشهد والسيادة في الصلاة والأذان).

والأصل في هذا كما ذكره العز ابن عبد السلام هو هل الامتثال أولى أم الأدب؟ فمن يرى الأدب أرجح من الامتثال والاتباع يستحب هذا، وبكل حال فينبغي على أهل الإسلام خاصتهم وعامتهم المبالغة في توقير النبي عليه الصلاة والسلام وتعظيمه والاحتراز من عدم الأدب معه في كل مقام ومقال وإن كان شيئا يسيرا حقيرا فإنه عند الله عظيم جليل لجلالة المقام النبوي ورفعته، وبالله التوفيق.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين