رجال ومواقف: البراء بن مالك يوم اليمامة

وقف الجيش المسلم يوم اليمامة ينتظر أمر قائده خالد بن الوليد بالهجوم.. كانت الدقائق تمرُّ بطيئة ثقيلة، ذلك أنَّ في المسلمين تحفزاً وتوثباً لاقتلاع جيش الرِّدّة من جذوره، واستئصاله من أعماقه حتى تصفو جزيرة العرب للرسالة الكريمة التي بُعث بها محمد صلى الله عليه وسلم ليموت ليل الجاهلية والفساد والظلام، ويبدأ فجر الحق والصلاح والنور.

وقف الجيش المسلم يملؤه إيمان عميق، ويحدوه إخلاص وثيق، يشغل كل واحد من أفراده أمران: إما النصر وإما الشهادة.

وفي مكانه من الجيش المجاهد وقف البراء بن مالك الصحابي الشجاع العظيم وعيناه الثاقبتان كعيني الصقر تتحركان في سرعة ونفاذ فوق ساحة المعركة، وقد بدا منهما تصميم عجيب، وإرادة هائلة، ونزوع إلى شهادة كريمة في ذلك اليوم المشهود..

كانت عيناه تجوبان الساحة كلها، كأنها تبحث عن أشد الأماكن خطورة وأعظمها بأساً، لتسارع إليه بحثاً عن ختام هانئ سعيد، وأي ختام أهنأ وأسعد من شهادة في سبيل الله عز وجل!؟

تلكم كانت أمنية البطل الشجاع.. أن يرمي بنفسه في أشد حلبات الساحة وأعنفها ليقوم بدوره في استئصال عفن الجاهلية والكفر والفساد، من أجل أن يقوم بذلك مجتمع الطهارة والنبل والصدق.. يرمي بنفسه على الموت، وسوف يسقط حصاد كثير من جيش الكفر والشرك والظلام بسيفه الشجاع العنيف قبل أن تسرع إليه ضربة سعيدة كريمة من يد شقي غير كريم، يسقط بعدها جسده على الأرض، في الوقت الذي تعلو فيه روحه وتسمو، ويكسب بذلك الفوز العظيم، والهناء الدائم، والخلود الذي لا يبلى.

كالسهم ينطلق من القوس، كالصقر يسرع في طيرانه، كالنمر ينقض على فريسته. وثب البراء بن مالك يخترق صفوف المرتدّين حين نادى خالد بن الوليد: "الله أكبر"؛ إيذاناً ببدء القتال.

انطلق البراء طالب الشهادة، وقد أحس أن رائحة الجنة في أنفه.. فاستثار ذلك فيه كل القوة والحركة، وكل السرعة والنشاط، وكل البطولة والحمية، فإذا بقوته تتضاعف، وإذا بنشاطه يزداد، وإذا به كالسيل الأتِيّ الدفاق، لا يقف في وجهه شيء.. وطفق البطل العظيم، يفتك سيفه المؤمن بالرقاب العفنة الفاسدة، مجتثاً ركام الأحقاد والسخائم والضغائن، سافحاً دماء قوم أصروا على محاربة العدل والخير، والشرف والمساواة، والنبل والرحمة.

ما كان جيش مسيلمة ضعيفاً ولا هيناً، وما كان جباناً ولا رعديداً، ولم يكن قليل العدد، ولا قليل السلاح، بل كان له من ذلك نصيبٌ أيُّ نصيب! كان متفوقاً على المسلمين في كل شيء إلا ذلك المَعين العظيم الهائل، "مَعين الإيمان"؛ حيث كان للمسلمين منه حظ غني وافر وافر كبير.

أما المرتدون فكانوا منه كالصحراء الخالية من الماء.. وذلك كان السر الكبير وراء العجائب الرائعة في انتصارات المسلمين. وأجاب جيش الردة على الجيش المسلم بهجوم مضاد عنيف كاد يأخذ فيه زمام المبادرة، واستطاع بالفعل أن يزلزل الجيش المسلم أكثر من مرة لولا أن القلوب المؤمنة كانت في كل مرة تتداعى إلى الثبات ومعاودة الهجوم.

وفي إحدى المرات حدث خلل في صفوف المسلمين، وسرى شيء من الارتباك، وطفق فرسان المسلمين وقادتهم وذوو الرأي منهم يجوبون الميدان يحثون على الصبر والجِلاد حتى النصر المرتقب.

وكان البراء بن مالك ذا صوت عالٍ جميل، فهتف به خالد بن الوليد: "تكلم يا براء!" وتكلم البراء، وعلا صوته الجياش العذب، فإذا به يهتف بكلمات قليلة لكنها قمة في البلاغة والإيجاز، لقد علا صوت البراء يقول: "يا أهل المدينة! لا مدينة لكم اليوم، إنما هو الله والجنة".. كلمات وضيئة مشرقة تُنبِئ عن روح صاحبها، وما يتردد في صدره من رغبات كبيرة سامية، وأمانٍ ضخمةٍ نبيلة.. إنه يهتف بأهل المدينة المنورة، أن ينسوا مدينتهم، وأن يجعلوا هدفهم رضوان الله عز وجل وجنته الطيبة الكريمة، ففي مثل هذا الموطن المشهود ينبغي ألّا يشغل المجاهدون أنفسهم بشيء سوى انتزاع النصر، عليهم أن ينسوا الديار التي خرجوا منها، والأهل الذين ودّعوهم، حتى المدينة المنورة عاصمة الإسلام، ومأرز الإيمان ينبغي ألا يتذكروها ففي الموقف ما يشغل.

وسَرَت كلمات البراء بن مالك كالتيار الآتي الدافق في أرواح المجاهدين ودمائهم.. وعادت الصفوف تزدحم من جديد، ومضت سيوف المؤمنين تحصد المرتدين وهم يتراجعون، وجند الله تفعل بهم الأفاعيل.

واحتمى المرتدون بحديقة كبيرة ولاذوا بها، وظنوا أنهم بمنجاة من سيوف المؤمنين.. وبدا إلى حين أن المعركة قد فترت لولا أن علا صوت البراء بن مالك يهتف: "يا معشر المسلمين، احملوني، وألقوني عليهم في الحديقة!".. كأنه أراد أن يقتحم الموت ليفتح للمسلمين باب الحديقة، فيهزم مسيلمة وجيشه، وتعلو كلمة الحق وترتفع، ويمضي هو شهيداً مبروراً.

تلكم كانت أمنيته السعيدة، أن يفتح باب الحديقة، وأن يكسب الشهادة، ولم ينتظر البطل فاعتلى الجدار، وألقى بنفسه داخل الحديقة حيث يجتمع جيش الردة.. وفتح الباب فدخلَته جنود الإسلام.. وكانت هزيمة المرتدين، وكان مقتل مسيلمة، وكان انتصار الحق.. لكن شيئاً واحداً لم يتحقق للبراء، إن البطل لم يستشهد على الرغم من هذه المغامرة الجريئة، وصدق أبو بكر رضي الله عنه إذ قال: "احرص على الموت توهب لك الحياة".

أيها البطل العظيم!.. لا تأسفن أنْ فاتتك الشهادة، فإنها قدِ ادُّخِرَت لك في يوم آخر.. كانت بطولتك رائعة معجبة، فقد تلقيت بضعاً وثمانين ضربة جعلتك تمضي بعد المعركة شهراً كاملاً، وأنت في العلاج يُشرف خالد بن الوليد نفسه على تمريضك.

أيها البطل العظيم!.. لقد وصفك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنك مستجاب الدعوة، فما عليك إلا أن تدعو أن يرزقك الله الشهادة، وسوف تفوز بها إذن، ولو بعد حين.

أيها البطل العظيم!.. سيظل ما فعلتَ يوم اليمامة نموذجاً لأروع صور البطولة إذ تستعلي، والإيمان إذ يسمو، والفداء إذ يستميت.

*****

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين