لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا

 

أرسل إليّ تسجيل مرئياً أحد الأصدقاء، وشفعه بقوله:

تفضلاً شو رأيك؟

فكتبتُ في جوابه:

لا أعرف المتحدث في التسجيل.

ورأيي أنه ضِيقُ أفقٍ منه، وتحجير واسع، وحَرْفية مقيتة حبس هذا الشيخ نفسه فيها، فما رعاها حق رعايتها.

ذكّرني بقوله تعالى: (وَرَهۡبَانِیَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَـٰهَا عَلَیۡهِمۡ إِلَّا ٱبۡتِغَاۤءَ رِضۡوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوۡهَا حَقَّ رِعَایَتِهَاۖ ..) [سورة الحديد 27]

وإلا فما باله يقول ويكرر: إذا رأيت النعمة عليك فقل: ما شاء. فقل: ما شاء الله..

ولم يجاوزها إلى قول: لا قوة إلا بالله. وهي تمام الذكر المأمور به في آية الكهف التي استشهد هو نفسه بها: (وَلَوۡلَاۤ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَاۤءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ) [سورة الكهف 39]

وهذا نقص في الذكر المأثور، حقيق بالإنكار والنهي، من منطلق الحرفية التي ينطلق منها هذا المتحدث.

ثم ما دليله على نهيه المستفز الغليظ عن قول: ما شاء الله، إذا رأى نعمة على غيره؟

وأين المنافرة في المعنى بين ذكر التبريك وذكر المشيئة؟.

وكيف يسوِّغ لنفسه أن ينهى عباد الله عن ذكر الله بصيغة مشروعة من حيث الأصل، غير ممنوعة في الموطن الذي نهى عنها فيه، ولا في غيره من المواطن؟!

فإن صيغة: "ما شاء الله" تصلح عند رؤية كل نعمة أو مصيبة، أو حركة متحرك أو سكون ساكن، لأن معناها: هذا الذي شاءه الله.. أو: الذي شاءه الله كائن. فهي ثناء على الله سبحانه بطلاقة إرادته، وخضوع كل شيء لمشيئته سبحانه.

فكيف طاوع هذا الشيخَ لسانُه أن يقول: لا تقل ما شاء الله عندما ترى النعمة على غيرك؟!!

وكأن النعمة على غيرك ليست من مشيئة الله سبحانه.!

نعم يُشرع أن يبرِّك المسلم إذا رأى نعمة على غيره، والدليل على ذلك واضح كما ذكره المتحدث، وليس هذا موضع نزاع أصلا.

وإنما موضع النزاع الذي لا ينتهي منه العجب، أنه لا دليل على هذا النهي الفظ الجريء في قول المتحدث: وإذا كانت النعمة على غيرك .. فلا تقل: ما شاء الله!!

ومن المعلوم أن الإنسان إذا جاء بالذكر المشروع، ثم زاد عليه ما ليس بممنوع، فإنه لا بأس في ذلك ولا مأثم ولا نهي.

لأنه صح عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبي التلبية المعهودة، وأن عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما، كانا يزيدان على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ لَبَّيْكَ، وَالرَّغْبَاءُ إِلَيْكَ وَالْعَمَلُ.

وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهما ولا على غيرهما هذه الزيادة.

ففي رواية أبى داود لهذا الحديث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ التَّلْبِيَةَ مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ: «ذَا الْمَعَارِجِ» وَنَحْوَهُ مِنَ الْكَلاَمِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ، فَلاَ يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا.

وقد استعرض الحافظ ابن حجر في فتح الباري خلاف العلماء في هذه الزيادة، فكانت بين استحبابها أو كراهتها، ثم انتهى الحافظ إلى أن هذه الزيادة لا بأس بها، مع أن الأفضل الاقتصار على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه عبارة الحافظ في ذلك:

(وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الِاقْتِصَار عَلَى التَّلْبِيَة الْمَرْفُوعَة أَفْضَل، لِمُدَاوَمَتِهِ هُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا، وَأَنَّهُ لَا بَأْس بِالزِّيَادَةِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُور) اهـ فتح الباري لابن حجر - دار المعرفة [3 /410]

فالحكم عند ابن حجر، الذي نقله عن الجمهور، يتردد بين فاضل وأفضل، وليس بين خطأ وصواب، أو بين جواز ومنع كما زعم المتحدث في التسجيل.

واللافت أن تعليل المتحدث نهيه عن قول: ما شاء الله. لا يخدُم هذا النهي، فإنه علل نهيه بأن صاحب النعمة يقول: وأنا إيش استفدت؟ بل ادع لي بأن الله يبارك لي...

ونقول له: يا أخي الدعاء بالبركة لا يتنافى مع ذكر المشيئة، فما المانع من الجمع بينهما، فتقول: ما شاء الله تبارك الله، إن كان في نعمة تراها عليك، أو نعمة تراها على غيرك؟!

ثم كيف إذا علمنا أنه قد وردت الآثار بذكر التبريك عند النعمة التي يراها المرء على نفسه خاصة، وذكر المشيئة عند رؤية الإنسان ما يعجبه عامة، في نفسه أو غيره.

وهو على خلاف التفصيل الذي أراد المتحدث أن يحمل الناس عليه.

فقد عقد النووي رحمه الله، في كتاب الأذكار بابا قال فيه: (بابُ ما يقولُه إذا رَأى مِن نفسِه أو ولده أو مالِه أو غير ذلكَ، شيئاً فأعجبَهُ وخاف أن يصيبه بعينه وأنْ يتضرّرَ بذلك)

ثم نقل فيه أحاديث عن ابن السني في كتابه "عمل اليوم والليلة" فقال: وروينا فيه، عن أنس رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "مَنْ رأى شَيْئاً فَأعْجَبَهُ فَقالَ: ما شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، لَمْ يَضُرَّهُ "

وواضح في هذا الحديث الإطلاق، الذي يشمل ما إذا كانت النعمة عليك أو على غيرك.

ثم قال النووي: وروينا فيه، عن سهل بن حنيف رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "إذَا رأى أحَدُكُمْ ما يُعْجِبُهُ في نَفْسِهِ أوْ مَالِهِ فَلْيُبَرّكْ عَلَيْهِ، فإنَّ العَيْنَ حَقُّ "

وروينا فيه عن عامر بن ربيعة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "إِذَا رأى أحدُكم من نفسِه ومالِه وأعْجَبَهُ ما يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ بالبَرَكَةِ." اهـ

فهذان حديثان فيهما الحث على الدعاء بالبركة على ما يراه العبد من نعمة الله عليه خاصة. على خلاف ما زعم المتحدث في التسجيل أنه لا يقال في مثله إلا ذكر المشيئة.

وللعلم، فإن حديث عامر بن ربيعة الأخير الذي نقله النووي في الأذكار عن ابن السني، قد رواه الحاكم في المستدرك بلفظ: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَخِيهِ مَا يُحِبُّ فلْيُبَرِّكْ فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ» ثم قال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ " ووافقه الذهبي في التلخيص على تصحيحه.

فقد زاد الحاكم في روايته: "أَوْ أَخِيهِ" مما يعني أن التبريك يقال عند رؤية النعمة عليك وعلى غيرك، من غير اعتبار للتفريق المزعوم الذي أراد هذا المتحدث حمل الناس عليه.

وفي رياض الصالحين، أورد الإمام النووي رحمه حديث الصحيحين: «إيّاكُمْ والجُلُوس فِي الطُّرُقَاتِ..» ثم ذكر فوائد الحديث فقال: [في هذا الحديث استحباب ترك الجلوس في الطريق، وأن من جلس فعليه القيام بما ذكر من غض البصر عما لا يحل نظره، وكف الأذى بفعل أو قول، "وإذا رأى ما يعجبه فليقل: ما شاء الله.."] اهـ

ولا يشك منصف أن مقصود النووي في هذا السياق: وإذا رأى ما يعجبه "من نعمة الله على غيره" فليقل: ما شاء الله. لأنه يتحدث عن جالس في الطريق يرى من أرزاق الناس وأحوالهم..

وعندما يقول النووي: فليقل ما شاء الله. فلا قيمة لكلام المتحدث في التسجيل الذي يقول عن نفس الحالة: لا تقل ما شاء الله.

ثم قد وجدت في موقع (الإسلام سؤال وجواب) فتوى للشيخ ابن عثيمين رحمه الله، تجمع بين ذكر التبريك وذكر المشيئة، الذي منع منه المتحدث في التسجيل، وتقوِّض كل هذا النكير والوهم الذي حاول هذا المتحدث تفصيله وتأصيله.

وهذا نصها:

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إذا رأى الإنسان ما يعجبه وخاف من حسد العين فإنه يقول: ما شاء الله تبارك الله، حتى لا يصاب المشهود بالعين، وكذلك إذا رأى الإنسان ما يعجبه في ماله فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله؛ لِئَلاَّ يعجب بنفسه وتزهو به نفسه في هذا المال الذي أعجبه، فإذا قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فقد وكل الأمر إلى أهله تبارك وتعالى " فتاوى نور على الدرب". انظر موقع الإسلام سؤال وجواب [1 /525]

وأنت ترى أن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، قد أجاز ذات العبارة التي منع منها المتحدث في التسجيل، وشدد عليها النكير.

حقا لقد حجرت واسعا أيها الرجل.

والله أعلم.

 

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين