رَحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفالِ ومظاهرها (1)

صُوَرٌ مشرقة من الرحمةِ والرفق، والشفقة والبِرِّ، وَسُمُو العلاقة ورعَايةِ الحُقُوقِ، والدعوَة إلى الإحسَانِ

رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأطفال منجم من البحث بكر، يتّسع القول فيه كما تتّسع مرحلة الطفولة باحتياجاتها النفسيّة والجسميّة والعقليّة لكلّ مناحي الحياة.. ويتداخل الحديث عن الطفولة في نصوص الوحيين الشريفين مع الحديث عن حياة الإنسان كلّها، فمن ثمّ لم يستدعِ الأمرُ عند سلفنا إفرادَ الحديث عن الطفولة في مصنّفات مستقلّة لهذا الاعتبار، ولاعتبار آخر: وهو أنّ النظرة الشموليّة العامّة هي التي كانت تحكم البحث والتصنيف لدى علمائنا على وجه العموم، مع الأخذ بالاعتبار الحديث عن الأحكام الخاصّة في مكانها المناسب..

لكنّ الأمر المؤكّد أنّ هذا التداخل والاشتراك في البحث لم ينقص الاهتمام بالطفولة بأدقّ أحكامها وتفصيلاتها أدنى حظّ لها، منذ أن تكون في المرحلة الجنينيّة إلى أن تبزغ عليها شمسُ الوجود، وإلى أن تمرّ بأطوار الطفولة المختلفة، ثمّ تودّعها على أعتاب البلوغ، ليدخل الإنسان بعد ذلك مرحلة التكليف والمسئوليّة..

وأحبّ أن أؤكّد في مقدّمة هذا المبحث أنّ الأحكام والآداب، والمبادئ الأخلاقيّة والتربويّة التي جاء بها الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرناً ممّا يخصّ الطفولة، ويكفل لها حقوقها، ويحقّق لها النشأة السويّة.. هذه الأحكام والمبادئ لم تعرفها أيّة حضارة من حضارات الأرض يوم بزغت شمس الإسلام على الناس، كما لم تعرف كثيراً منها البشريّة في عصرنا الحاضر إلاّ متأخّراً، وبصورة لا تداني في شيء دقّة الإسلام وشموله..

ويوم كانت أمّة الإسلام تعطي الطفولة حقّها من التربية والرعاية، وفق هدي النبوّة ومنهاجها خرّجت أمّة الإسلام للدنيا عباقرة العلم والحضارة، الذين تجلّى في حياتهم النبوغ المبكّر، وقامت على أكتافهم حضارة الإسلام في كلّ ميدان من ميادين الحياة..

هذا، وإنّ رحمة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالأطفال لم تقف عند حدّ، وعنايته بكلّ شئونهم نوع من الرحمة العامّة التي بعث بها، فكانت خيراً على الإنسانيّة كلّها.. وسأقدّم في هذا المبحث نماذج من رحمة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالأطفال ومظاهرها، تحت عناوين فرعيّة معبّرة، ولن أعلّق كثيراً على تلك المواقف والمبادئ والأحداث، وهو بحث جدير أن يفرد بمؤلّف جامع واسع، يتمّ فيه البحث الدقيق، والمسح الشامل لما جاء في جوامع السنّة ودواوينها.

* حبّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم للأطفال، وحبّهم له، وفرحهم به:

لقد طار كلّ شيء فرحاً لمقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وتلألأ وزغرد.. وسرى نسيم الحبّ بكلّ من فيها، وما فيهَا.. حتّى الجواري عبّرن عن محبّتهنّ بغناء الطفولة العذب، والضرب بالدفّ.. فرَحاً وابتهاجاً لحلول النبيّ صلى الله عليه وسلم في ديارهم.. فبادلهنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حبّاً بحبّ، ودعاءً لا يردّ بما هنّ عليه من صفاء القلوب، وفرحة الأرواح: (الله يعلم إنّي لأحبّكنّ.. اللهمّ بارك فيهِنّ).

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ ببعض المدينة بجوارٍ من الأنصار، وهنّ يضربن بدفّهنّ، ويغنين ويقلن:

نحن جوار  من بني النجار ** يا حبذا مُحَمّدٌ مِن جارِ

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله يَعلَمُ إنّي لأحِبُّكُنّ) [رواه ابن ماجة 1/ 612 برقم /1899/ وهو في تاريخ بغداد 13/57: برقم /7030/].

وفي رواية عنهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَقْبَلَهُ ذَاتَ يَوْمٍ صِبْيَانُ الأَنْصَارِ وَالإِمَاءُ، فَقَالَ: (وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّكُمْ).

وجاء في رواية أبي يعلى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهنّ: (اللهُمّ بَارِك فيهنّ) [رواه أحمد في المسند برقم /13532/].

فمن أحبّ الأطفال أحبّوه، ومن رفق بهم ملك قلوبهم..

مظاهر رحمة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالأطفال:

إنّ الرحمة في حقيقتها لا تأخذ صورة واحدة من عاطفة الرقّة والشفقة، وتقديم العون والإحسان، بل تتّسع مظاهرها لتشمل معاني وحقائق قد يظنّ كثير من الناس أنّها لا علاقة لها بالرحمة، وهي من لحمة الرحمة وسداها، ولبّها وفحواها: فالتربية والتعليم من الرحمة، والتوجيه من الرحمة، والوعظ والتذكير من الرحمة، وحسن الرعاية، وكلّ مظاهر الحبّ والمودّة، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، والدعاء، والملاطفة والممازحة، والدعوة إلى دين الله، والحرص على هداية الخلق.. كلّ ذلك من الرحمة، بل إنّ الزجر والتعنيف، وإيقاع العقوبة المناسبة، وبالقدر المناسب، عندما يتعيّن ذلك من الرحمة، ويخطئ من يظنّ أنّ الرحمة ذات مسارٍ واحد لا تتعدّاه..

ولقد تجلّت رحمة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالأطفال في مظاهر عديدة:

* فمن مظاهر رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأطفال حسن استقبال المولود بالتحنيك والدعاء له بالبركة: وقد كان مجتمع المدينة على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم مجتمع الأسرة الواحدة.. والنبيّ صلى الله عليه وسلم كان بمثابة الوالد لكلّ أفراد الأمّة.. فهوَ الذي يسمّي الطفل المولودَ ويحنّكه، ويدعو له بالخير والبركة.. فماذا ينتظر منْ مجتمع بهذا التحابّ والتآلف.؟

عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: وُلِدَ لِي غُلامٌ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ، فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَدَعَا لَهُ بِالبَرَكَةِ، وَدَفَعَهُ إِلَيَّ، وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِي مُوسَى) [رواه البخاريّ في كتاب العقيقة برقم /5045/].

والتحنيك: أن تُمْضغَ تمرة، ثمّ توضعَ في فمِ الوليد، وتدار في أطرافه.

وعن عائشة أمّ المؤمنينَ رضي الله عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دَعا لمولودٍ فقال: (اللهُمّ اجعَلْهُ بَارّاً تَقيّاً رَشِيداً، وَأنبِتهُ في الإسلامِ نباتاً حَسَناً) [رواه الديلميّ في مسند الفِردوسِ برقم /2064/ ج1/504/، طبع دار الكتب العلميّة، وتحقيق سعيد بن بسيوني زغلول وهو حديْث حسن].

وهذه الدعوة من جوامع كلمهِ صلى الله عليه وسلم، فقد جمعت في كلّ كلمة منهَا مقصداً كبيراً من مَقاصد هذا الدين، فالبرّ والتقوى والرشد، والنبات في الإسلام نباتاً حسناً معانٍ كلّيّة جامعة، تشمل حقائق عظيمة، تكاد تستوعب الدين كلّه.

وروى الإمام ابن القيّم رحمه الله، عن الحسَن البصريّ رحمه الله تَعالى أنّه علّم بعض جلسائه التهنئة بالمولود أن يقول: (بُورِكَ لَكَ في المَوهُوبِ، وَشَكَرتَ الوَاهِبَ، وَرُزِقتَ بِرَّهُ، وَبَلَغَ أشُدَّهُ) [" تحفة المودود في أحكام المولود " ص/29/].

* ومن مظاهر رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأطفال غرس العقيدة الحقّة، وأصول الإيمان في نفس الطفل منذ الصغر: وإنّ غرس المبادئ منذ الصغر، وتعليم الطفل حقائق الإيمان ينبغي أن يكون دأب المربِّي الحريص على حسن النشأة، ورسوخ الحَقّ، وثبات العقيدة، وحسن الإعداد للمستقبل.. وما أحسن أن تسير المبادئ جنباً إلى جنبٍ مع السلوك العمليّ، والمواقف اليوميّة.. 

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهَ صلى الله عليه وسلم يَوْماً فَقَالَ: (يَا غُلامُ! إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ) [رواه الترمذيّ في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع برقم /2440/ وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].

وفي رواية الإمام أحمد: يَا غُلامُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ، ولا يخفى ما في صيغة التصغير من تلطّف وتحبّب

ومعنى: " رُفِعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ ": أي أنّ ما قُدّر فهو كائن لا محالة.

ورواه الإمام أحمد في المسند [برقم /2666/]، وفيه زيادة: (تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْراً كَثِيراً، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً).

* ومن مظاهر رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأطفال: غرس الاحترام والتقدير في نفس الطفل من خلال التعامل الراقِي مَعه، وتَأديبِه بأخلاق الإسلامِ وآدابِه، وقد تجلّى ذلك في مظاهر كثيرة، وصور عديدة من الآداب النبويّة، منها:

1 ـ سلام النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصِبْيَانِ: فالسلام مظهر الاهتمام والعناية، والترابط الاجتماعيّ بين أفراد الأمّة، وفي سلام النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على الأطفال خاصّة: لفت لأنظار الكبار ليولوا هذه الفئة ما تستحقّ من العناية، وألاّ ينظروا إليها نظرة استخفاف واستهانة..

عَنْ سَيَّارٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ ثَابِتٍ البُنَانِيِّ، فَمَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ ثَابِتٌ: كُنْتُ مَعَ أَنَسٍ رضي الله عنه فَمَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ) [رواه الترمذيّ في كتاب الاستئذان والآداب برقم/2620/ وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ]. [وثابت البنانيّ تابعيّ من أئمّة الهدى، زاهد عابد، صحب أنس بن مالك رضي الله عنه ولازمه، وقال فيه أنس رضي الله عنه: " إنّ للخير مفاتيح، وإنّ ثابتاً البُنانيّ من مفاتيح الخير "، وقال فيه بكر بن عبد الله: " من أرادَ أن ينظرَ إلى أعبد أهل زمانه فلينظُر إلى ثابت البنانيّ "]

2 ـ ومن صور غرس الاحترام والتقدير في نفس الطفل: تأديب الطفل بآداب الإسلام، وينبغي أن يبدأ ذلك منذ الطفولة المبكّرة، فما يغرس في هذه المرحلة يصبح جزءاً من شخصيّة الإنسان وكيانه، ويحدّد منحى حياته، ولا يمكن أن يمحى بإذن الله مدى الدهر.. وليس للوالد والمربّي أن يستهينا بتوجيه الطفل وتأديبه في هذه المرحلة المهمّة، ولكن ذلك ينبغي أن يكون برفق وتدرّج، وتلطّف وتحبّب.. 

عن وَهْبَ بْنَ كَيْسَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: كُنْتُ غُلاماً فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يَا غُلامُ ! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ) [رواه البخاري في كتاب الأطعمة برقم /4957/].

وما أروع هذا الأثر الإيجابيّ الذي يسجّله عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه في ختام الحديث: ".. فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ "، وهو يعبّر عن قوّة إرادة الطفل على الاستجابة والتغيير.

3 ـ ومن صور غرس الاحترام والتقدير في نفس الطفل: أن يجالسَ الطفل الكبار، وأن يستأذنَ في التنازل عَن حقّه، وألاّ يصادر حقّه بدعوى صغر سنّه.. وإذا أردنا لصغارنا أن يكونوا كباراً بحقّ فلنخلطهم بالكبار القُدوات، ولنقدّم لهم ما يليق بهم من التقدير والاحترام..

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلامِ: (أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلاءِ ؟ فَقَالَ الْغُلامُ: لا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَداً، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَدِهِ) [الإيثار هو تفضيل الآخرين على النفس في المحابّ، تلّه: أي وضعه في يده ودفعه إليه بقوّة.]، رواه البخاريّ في كتاب المساقاة وفي كتاب المظالم والغصب برقم /2271/ ورواه مسلم وغيرهما.

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِلَبَنٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنْ يَسَارِهِ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ رضي الله عنه، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لابْنِ عَبَّاسٍ: (أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَسْقِيَ خَالِداً ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُوثِرَ بِسُؤْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفْسِي أَحَداً، فَأَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَشَرِبَ، وَشَرِبَ خَالِدٌ). والسؤر هو البقيّة من الطعام أو الشراب أو أيّ شيء. رواه أحمد في المسند برقم /3417/.

وَسُئل عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حَبِيبَةَ رضي الله عنه: مَا أَدْرَكْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ: أَتَانَا فِي مَسْجِدِنَا هَذَا، فَجِئْتُ فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَأُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَنِي، وَأَنَا عَنْ يَمِينِهِ، قَالَ: وَرَأَيْتُهُ يَوْمَئِذٍ صَلَّى فِي نَعْلَيْهِ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلامٌ) [رواه أحمد في المسند برقم /17265/].

4 ـ ومن صور غرس الاحترام والتقدير في نفس الطفل: الدعاء للأطفال، ورفع هممهم، ليكونوا أهلاً لحمل المسئوليّة:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الكِتَابِ) [رواه ابن ماجة برقم /162/].

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِي أَوْ عَلَى مَنْكِبِي ـ شَكَّ سَعِيدٌ ـ ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) [رواه أحمد في المسند برقم /2274/، وقد تكرّر هذا الدعاء له في عدّة مناسبات].

فإظهار العطف على الطفل، والدعاء له خيرُ ما يسمو بهمّته، ويَشحذُ عزيمته.

والدعاء للطفل بخيري الدنيا والآخرة يغرس في نفسه أنّ ذاته محترمة من الآخرين، ومقبولة ومقدّرة، عدا عمّا في الدعاء من مظاهر التعلّق بالله تعالى ورجائه، والرغبة الصادقة أن يهيّئ الله تعالى له الخير، ويحسن نباته، ويصرف عنه الشرّ، ويجعله لوالديه قرّة عين:

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا، وَمَا هُوَ إِلاّ أَنَا وَأُمِّي وَأُمُّ حَرَامٍ خَالَتِي فَقَالَ: قُومُوا فَلأُصَلِّيَ بِكُمْ، فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاةٍ، فَصَلَّى بِنَا فَقَالَ رَجُلٌ لِثَابِتٍ: أَيْنَ جَعَلَ أَنَساً مِنْهُ ؟ قَالَ: جَعَلَهُ عَلَى يَمِينِهِ، ثُمَّ دَعَا لَنَا أَهْلَ البَيْتِ بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَقَالَتْ أُمِّي: يَا رَسُولَ اللهِ ! خُوَيْدِمُكَ ادْعُ اللهَ لَهُ ؟ قَالَ: فَدَعَا لِي بِكُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ مَا دَعَا لِي بِهِ أَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ) [رواه مسلم في كتاب برقم /1055/].

قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه جَاءَتْ بِي أُمِّي أُمُّ أَنَسٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَزَّرَتْنِي بِنِصْفِ خِمَارِهَا وَرَدَّتْنِي بِنِصْفِهِ [أي جعلت خمارَها نصفه إزاراً لي ونصفه الآخر رداءً]، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا أُنَيْسٌ ابْنِي أَتَيْتُكَ بِهِ يَخْدُمُكَ فَادْعُ اللهَ لَهُ فَقَالَ:

(اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: فَوَاللهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ، وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ المِائَةِ اليَوْمَ) [رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة برقم /4531/].

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى أُمَّ حَرَامٍ، فَأَتَيْنَاهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ فَقَالَ: (رُدُّوا هَذَا فِي وِعَائِهِ، وَهَذَا فِي سِقَائِهِ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعاً، فَأَقَامَ أُمَّ حَرَامٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ خَلْفَنَا، وَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ فِيمَا يَحْسَبُ ثَابِتٌ، قَالَ: فَصَلَّى بِنَا تَطَوُّعاً عَلَى بِسَاطٍ فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: إِنَّ لِي خُوَيْصَّةً، خُوَيْدِمُكَ أَنَسٌ ادْعُ اللهَ لَهُ، فَمَا تَرَكَ يَوْمَئِذٍ خَيْراً مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَلا الآخِرَةِ إِلاّ دَعَا لِي بِهِ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ، قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: فَأَخْبَرَتْنِي ابْنَتِي أَنِّي قَدْ دَفَنْتُ مِنْ صُلْبِي بِضْعاً وَتِسْعِينَ، وَمَا أَصْبَحَ فِي الأَنْصَارِ رَجُلٌ أَكْثَرَ مِنِّي مَالاً، ثُمَّ قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: يَا ثَابِتُ مَا أَمْلِكُ صَفْرَاءَ وَلا بَيْضَاءَ إِلاّ خَاتَمِي) [رواه الإمام أحمد في المسند /13104/].

5 ـ ومن صور غرس الاحترام والتقدير في نفس الطفل: نهيُه صلى الله عليه وسلم عن الدعاء على الأولاد خشية أن توافق ساعة إجابة، فينزل الضرّ والبَلاء بالنفس أو الولد..

عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَطْنِ بُوَاطٍ وَهُوَ يَطْلُبُ المَجْدِيَّ بْنَ عَمْرٍو الجُهَنِيَّ، وَكَانَ النَّاضِحُ يَعْقُبُهُ مِنَّا الخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ وَالسَّبْعَةُ فَدَارَتْ عُقْبَةُ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى نَاضِحٍ لَهُ فَأَنَاخَهُ فَرَكِبَهُ ثُمَّ بَعَثَهُ فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ فَقَالَ لَهُ: شَأْ ! لَعَنَكَ اللهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ هَذَا اللاّعِنُ بَعِيرَهُ.؟ قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: انْزِلْ عَنْهُ فَلا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ، لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ) [جزء من حديث طويل رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق برقم /5328/].

6 ـ ومن صور غرس الاحترام والتقدير في نفس الطفل: تربية الطفل على العبادة بكلّ أنواعها منذ سنّ التمييز، وتحبيبه بها، وتدريبه عليها، لينشأ مستقيماً على طاعة الله تعالى وعبَادته، بعيداً عن الزيغ والانحراف.

عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي المَضَاجِعِ) [رواه أبو داود في كتاب الصلاة برقم /418/].

7 ـ ومن صور غرس الاحترام والتقدير في نفس الطفل: تعليم الأطفال للقرآن، وَبذلك يكون إعدادهُمْ للمسئوليّات الكبيرة في مستقبل الأيّام:

عَنْ عَمْرو بْنِ سَلَمَةَ الجَرْميّ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه: أَنَّهُمْ وَفَدُوا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَنْصَرِفُوا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ يَؤُمُّنَا؟ قَالَ: (أَكْثَرُكُمْ جَمْعاً لِلْقُرْآنِ، أَوْ أَخْذاً لِلْقُرْآنِ) قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ القَوْمِ جَمَعَ مَا جَمَعْتُهُ، قَالَ: فَقَدَّمُونِي وَأَنَا غُلامٌ، وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ لِي [الشملةُ كِساء من صوف أو شعر يتغطّى به ويتلفّف به]، فَمَا شَهِدْتُ مَجْمَعاً مِنْ جَرْمٍ إِلاّ كُنْتُ إِمَامَهُمْ، وَكُنْتُ أُصَلِّي عَلَى جَنَائِزِهِمْ إِلَى يَوْمِي هَذَا) [رَوَاهُ البخاريّ في كتاب المغازي برقم/3963/ وأَبُو دَاوُد في كتاب الصلاة برقم/496/].

وأطفال القرآن حرزٌ للمجتمع من العذاب العاجل، قَالَ ثَابِتُ بْنُ عَجْلانَ الأَنْصَارِيُّ: كَانَ يُقَالُ: (إِنَّ اللهَ لَيُرِيدُ العَذَابَ بِأَهْلِ الأَرْضِ فَإِذَا سَمِعَ تَعْلِيمَ الصِّبْيَانِ الحِكْمَةَ صَرَفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ)، قَالَ مَرْوَانُ: يَعْنِي بِالحِكْمَةِ: القُرْآنَ) [رواه الدارميّ برقم /3211/].

* ومن مظاهر رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأطفال: تلطّف النبيّ صلى الله عليه وسلم مع الصبيان، ورقّته في معاملتهم: فأعلى ما عرفت الإنسانيّة من صور التربية المثلى: التربية باللحظ والإشارة، وهي تقوم على العلاقة الحميمة بين المربّي والطفل، والتماس العذر لأخطاء الطفل بقدر الله السابق.. وإذ كان النبيّ صلى الله عليه وسلم رحمةً مهداة للعالمين، فإنّ من خصوصيّته التي تلائم هذه الطبيعة، ولا يقدر عليها أحد من البَشر أنّه لم يعنّف غلاماً، ولم يضرب قطَّ امرأة ولا خادماً..

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا أَمَرَنِي بِأَمْرٍ فَتَوَانَيْتُ عَنْهُ، أَوْ ضَيَّعْتُهُ فَلامَنِي، فَإِنْ لامَنِي أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ إِلاّ قَالَ: دَعُوهُ فَلَوْ قُدِّرَ أَوْ قَالَ: لَوْ قُضِيَ أَنْ يَكُونَ كَانَ) [رواه أحمد في المسند برقم /12938/].

وفي حديث آخر عَنْه رضي الله عنه أنَّه قَالَ: (خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، وَاللهِ مَا قَالَ لِي: أُفّاً قَطُّ، وَلا قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا ؟ وَهَلاّ فَعَلْتَ كَذَا ؟) [رواه مسلم في كتاب الفضائل برقم /4269/].

وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: (مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً قَطُّ بِيَدِهِ، وَلا امْرَأَةً وَلا خَادِماً، إِلاّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلاّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ) [رواه مسلم في كتاب الفضائل برقم /4296/وأبو داود في الأدب برقم /4154/ وابن ماجة في النكاح].

* ومن مظاهر رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأطفال رحمة الوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا، وحماية الأمّ والدفاع عن حقّها، وأحكام الإسلام كلّها تقوم على الرحمة ورعاية الحقوق، وتحثّ على تقوى الله في العمل، وتربط بين عمل الدنيا، وجزاء الآخرة.. وحقّ الوالدة برعاية ولدها مصون مقدّس..

عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأنصاريّ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [رواه الترمذيّ في كتاب البيوع برقم /1204/ وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، ورواه ابن ماجة في التجارات برقم /2241/ والدارميّ في السير برقم /2368/].

ورواه الدارميّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلِيِّ: أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ رضي الله عنه كَانَ فِي جَيْشٍ، فَفُرِّقَ بَيْنَ الصِّبْيَانِ وَبَيْنَ أُمَّهَاتِهِمْ، فَرَآهُمْ يَبْكُونَ، فَجَعَلَ يَرُدُّ الصَّبِيَّ إِلَى أُمِّهِ وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَحِبَّاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

* ومن مظاهر رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأطفال: رفق النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأطفال، وتقديره لرغباتهم ومشاعرهم الرقيقة، وقد تجلّى ذلك في كلّ موقف، حتّى في الصلاة، فكيف ينبغي أن يكون المؤمن خارجَ الصلاة.؟

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه  قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم  فِي إِحْدَى صَلاتَيِ العِشَاءِ، وَهُوَ حَامِلٌ حَسَناً أَوْ حُسَيْناً، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاةِ، فَصَلَّى، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا، قَالَ أَبِي: فَرَفَعْتُ رَأْسِي، وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَاجِدٌ، فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلاةَ، قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ ! إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلاتِكَ سَجْدَةً، أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ، قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ، حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ) [رواه النسائيّ في باب التطبيق في الصلاة برقم /1129/ و أحمد في المسند].

* وكان صلى الله عليه وسلم يخفّف الصلاة رحمةً بالأطفال والأمّهات:

عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ) [رواه البخاري في كتاب الأذان برقم /668/].

فما أرقّ مشاعرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وما ألطفها.؟! وما أدقّها وهو يراعي مشاعر الأمّ ولهفتها على طفلها، إذ يبكي وهي تصلّي، فيتجوّز في صلاته رحمة بهما..

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَوَّزَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي صَلاةِ الفَجْرِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ تَجَوَّزْتَ؟ قَالَ: (سَمِعْتُ بُكَاءَ صَبِيٍّ، فَظَنَنْتُ أَنَّ أُمَّهُ مَعَنَا تُصَلِّي، فَأَرَدْتُ أَنْ أُفْرِغَ لَهُ أُمَّهُ) [رواه أحمد في المسند برقم /13205/].

* ومن مظاهر رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأطفال: الترغيب بالحنوّ على الطفل، وبيان أنّ ذلك من صفات المرأة الخيرة الكريمة: عَن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (نِسَاءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ، أَحْنَاهُ [أي: أعطفه وأرحمه] عَلَى طِفْلٍ في صغره، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ)، يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ: وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ عليها السلام بَعِيراً قَطُّ " رواه مسلم في كتاب الفضائل برقم /4281/.

* وتقبيل الأطفال والحنان عليهم وممازحتهم:

ونماذج ذلك من السيرة العطرة كثيرة، فمن ذلك ما جاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ.؟ فَقَالُوا: نَعَمْ فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللهِ مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ.!؟). وفي روايةٍ: مِنْ قَلْبِكَ أو قلوبِكم الرَّحْمَةَ) رواه البخاري 10/360، ومسلم برقم /2319/.

وعَن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِساً، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَداً، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: مَنْ لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ) البخاري في كتاب الأدب برقم /5538/. فالرحمة بالأطفال هبة الرحمن لخيَار عباده، وعنوان المؤمن الحقّ في جميع علاقاته.. ومن لا يرحم لا يرحم..

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ عَلَيْنَا، وَلِي أَخٌ صَغِيرٌ يُكْنَى أَبَا عُمَيْرٍ، وَكَانَ لَهُ نُغَرٌ يَلْعَبُ بِهِ، فَمَاتَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَرَآهُ حَزِيناً فَقَالَ: مَا شَأْنُهُ ؟ قَالُوا: مَاتَ نُغَرُهُ، فَقَالَ: (يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ). رواه البخاري ومسلم وأبو داود في كتاب الأدب برقم /4318/، والنُّغَير: تصغير النُّغَر، وهو طائر صغير يشبه العصفور أحمر المنقار، أو هو فرخ العصفور والبلبل، كما في المعجم الوسيط.

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ: كَانَ فَطِيمًا قَالَ: فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَآهُ قَالَ: أَبَا عُمَيْرٍ ! مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ؟ قَالَ: فَكَانَ يَلْعَبُ بِهِ) رواه مسلم في كتاب الآداب برقم /4003/.

وفي حديث آخر عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقاً، وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيْرٍ، قَالَ: أَحْسِبُهُ فَطِيماً، وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ، فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاةَ، وَهُوَ فِي بَيْتِنَا، فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ، فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ، ثُمَّ يَقُومُ، وَنَقُومُ خَلْفَهُ، فَيُصَلِّي بِنَا) رواه البخاريّ في كتاب الأدب برقم /5735/.

وعَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ رضي الله عنه قَالَ: (عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي، وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ) رواه البخاريّ في كتاب العلم برقم /75/.

والمجّ هو إلقاء الماء أو الشراب من الفم، والمُجاج هو ما يلقى من الفم.

* ومن مواقف ملاعبة النبيّ صلى الله عليه وسلم للحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ رضي الله عنه: ما رُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَامِلَ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: نِعْمَ المَرْكَبُ رَكِبْتَ يَا غُلامُ ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَنِعْمَ الرَّاكِبُ هُوَ) رواه الترمذيّ في كتاب المناقب برقم /3717/ وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إِلاّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وَزَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ قَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضُ أَهْلِ الحَدِيثِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ.

ولقد كان تواضع النبيّ صلى الله عليه وسلم ورفقه يتجلّى في كلّ موقفٍ وعلاقةٍ، رعاية للأطفَال ولطْفاً، وتعليماً للأمّة وتَربية.. فأين الذين تأنف نفوسهم من أن يداعبوا أطفالهُم أمام الآخرين، أو يحدّثوهم، ويظنّون أنّ ذلك دليل رفعتهم، وعلوّ مكانتهم.

ورحمةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بالأطفَال ومداعبته لهم، لا تمنع من تأديبهم وتوجيههم، كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي لَيْلَى رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَلَى صَدْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ الحَسَنُ أَوِ الحُسَيْنُ، قَالَ: فَرَأَيْتُ بَوْلَهُ أَسَارِيعَ، فَقُمْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: (دَعُوا ابْنِي، لا تُفْزِعُوهُ (أي لا تخيفوه، وأساريع: جمع أسروع وهي الطرائق) حَتَّى يَقْضِيَ بَوْلَهُ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ المَاءَ، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ بَيْتَ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، وَدَخَلَ مَعَهُ الغُلامُ، فَأَخَذَ تَمْرَةً، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَاسْتَخْرَجَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَحِلُّ لَنَا) رواه أحمد فِي مسند الكوفيّين برقم /18280/ والدارمي مختصراً برقم /1586/.

فما أسمى الأخلاق النبويّة وما أكرمها.! وما أوسع صدر النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أرحمه.! ومَن مِن الناس يتقبّل أن يبول عليه صبيّ أمام الناس، ولا يغضب ولا ينفعِل.؟! بل يطلب ممّن حوله أن يترك الصبيّ ليكمل بوله.؟! ألا إنّها الرحمة النبويّة التي وسعت العالمين.

وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلأَبِي العَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا، وَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا) [رواه مسلم المساجد ومواضع الصلاة /844/].

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين