عِصمَةُ الأنبياءِ واقتِضاؤُها السَّلامَةَ مِن كُلِّ قَادِح: السَّهوُ وَالنِّسيان

قال شيخنا العلامة المحقق الشيخ محمد عوامة ـ حفظه الله ورعاه ـ في رسالته القيمة المحررة النافعة ‏«حجية أفعال رسول صلى الله عليه وآله وسلم أصوليا وحديثيا وفيه عصمته صلى الله عليه وآله وسلم من الخطأِ والخطيئة‏»:

أما الجواب عن: الاقتضاء الثاني، وهو: خوارم السداد في الأمور كلها كـ: السهو، والنسيان، فأقول:

اختُلِف في معنى كلِّ من السهو والنسيان، وذَكَر الزَّبيدي في «شرح القاموس»، 38: ٣٣٩، أقوالاً عدّة، وأشار الحافظ في «الفتح»، ٣ : ٩٢، أول كتاب السهو إلى الاختلاف وردَّه فقال: «وفرَّق بعضهم بين السهو والنسيان، وليس بشيء»، ثم قال 3: 101، (1229)، في مناسبة أخرى: «وهذا قول من فرَّق بينهما، وقد تقدم ردُّه»، أما العيني في «العمدة»، 3: 390، فقد مشى على التفرقة بينهما، وكلامه جيد بناءً على ما أعتقِدُه أن العرب أجلّ من أن يُسَوُّوا بين كلمتين كلَّ التسوية دون أيّ فارق بينهما، أما الحافظ فمشى على عدم التفرقة من حيثُ الاستعمالُ والواقع العملي، والله أعلم.

يدل على ذلك دلالةً قوية: روايات حديث ذي اليدين في كتب السنة كلها، مع تبويبهم عليها بـ: كتاب السهو، وتبويب الفقهاء أيضًا: بـ: سجود السهو، واستدلالهم بهذه القصة، مع أن سؤال ذي اليدين كان بقوله: «أَقُصِرت الصلاة أم نسيت؟»، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لم تقصر ولم أنسَ».

وأمشي هنا مع قول الحافظ بعدم التفرقة بينهما لتعذر التزامها في النصوص النبوية بسبب دخول الرواية بالمعنى، أو في نصوص الصحابة والعلماء، وكأن الحافظ رحمه الله مشى على عدم التفرقة بينهما للمعنى الذي ذكرته.

ومن أجل ما قدمته من أقوال الأصوليين عن عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإني أذكر ثلاثة أمثلة مما نُسب فيها الذنب إلى نبيّ من الأنبياء، ثم أُجيب عنها بعون الله تعالى؛ ليكون ذلك نِبْراسًا في دراسة ما يُنقل في هذا الصدد، فأقول:

هـ ـ قال الله تعالى في قصة سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام، في سورة طه، الآية: 121:﴿وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ١٢١ ثُمَّ ٱجۡتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيۡهِ وَهَدَىٰ﴾ ، وقال في الآية: ١٥، من سورة القصص، في قصة سيدنا موسى مع القِبْطي: ﴿فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيۡهِۖ قَالَ هَٰذَا مِنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّهُۥ عَدُوّٞ مُّضِلّٞ مُّبِينٞ﴾.

وقال عز وجل في سورة الأنعام: الآية: ٧٦، ٧٧، فيما حكاه عن أسلوب إبراهيم عليه الصلاة والسلام في إقامته الحجة على قومه، إذْ قال عن الكوكب، وعن القمر، وعن الشمس: ﴿هَٰذَا رَبِّيۖ﴾ ، وكذلك قال تعالى في سورة الصافات: الآية: ٨٩، حكاية عنه إذ قال لقومه:﴿فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ ، ثم قوله لهم كما في سورة الأنبياء: الآية: ٦٣: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾.

وفي السنة الصحيحة: ما رواه البخاري، (2217)، ومسلم ٤: ١٨٤، (١٥٤)، من حديث أبي هريرة مرفوعًا وفيه: «لم يكذِب إبراهيم عليه السلام قطُّ إلا ثلاثَ كَذَبات»، ثم قال: «قدِم ـ إبراهيمُ ـ أرضَ جبّارٍ، ومعه سارَة، وكانت أحسنَ الناس، فقال لها ـ إبراهيم ـ: إنَّ هذا الجبار إنْ يعلمْ أنك امرأتي يغلبْني عليك، فإن سألكِ فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلمًا غيري وغيرَك». هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: «أرسل ـ الجبار ـ إليه: أنْ يا إبراهيمُ مَن هذه التي معك؟ قال: أختي، ثم رجع إليها فقال: لا تُكَذِّبي حديثي، فإني أخبرتهم أنكِ أختي». وينظر: «صحيح البخاري»، (٤٧١٢)، و «صحيح مسلم»، 1: ١٨٤، ١٨٥، (٣٢٨،٣٢٧).

و ـ والجواب عما في قصة سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام: هو أن الله تعالى قال أول القصة: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: 115]، فإذا كان الله عز وجل هو يعتذر عن آدم بأنه {فَنَسِيَ} ، ويشهد بأنه لم يكن منه عزم على المعصية، إنما كان منه الحرص على البقاء والخلد في الجنة، وقد أقسم له ولزوجه حواءَ إبليسُ ـ كما في الآية: ٢١، من سورة الأعراف ـ على أنهما إنْ أكلا من الشجرة تمّ لهما ما يريدانه من ذلك، وأنه ناصح لهما، ولم يكونا يعلمان أحدًا يحلف بالله كاذبًا، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، فما أرادا المعصية قصدًا لها، وهذا هو معنى ما في قوله تعالى من الآية ٣٦ من سورة البقرة: ﴿فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا﴾ ، أي: أوقعهما الشيطان في الزلَّة، وقد عرفوا الزَّلة بأنها: «استرسال الرجل من غير قصد، يقال: زلَّت رِجْلٌ تَزِلّ، وقيل: للذَّنْب من غير قصد: زلَّة، تشبيهًا بزلَّة الرِّجْل». قاله الراغب في «مفرداته»، ص: 381، وعلى هذا فلا إشكال ولا توقف، ولا ذنب ولا معصية، وتقدم نحوه في كلام العلامة المطيعي ـ كما سبق ـ.

كما تقدم في كلام العلامة البابرتي أن الله تعالى قصَّ علينا هذا الطرف من القصة لا لذكر عصيان آدم عليه السلام «بل لإظهار الاجتباء بعد ذلك»، فكان منا خلاف ذلك: أننا نذكرها للاستدلال على عصيانه، عليه الصلاة والسلام!!

ومما ينبغي ذكره هنا: أن الله تعالى وصف مخالفة آدم عليه السلام وصفين، وصفها بالزلَّة في قوله: ﴿فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا﴾، ووصفها بالمعصية في قوله: ﴿وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ﴾، ولا تناقض، فهي زلَّة في حقيقتها؛ لأنه لم يقصد المعصية، وهي معصية في صورتها؛ لأنه خالف أمر ربه.

وأما قصة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام: ففيها أن قِبطيًا أراد استخدام إسرائيلي بالإجبار والإكراه، والإسرائيليُّ يتأبّى عليه، فمرّ بهما موسى عليه السلام، فاستغاث به الإسرائيلي، فوكز موسى القبطيَّ، والوَكْزُ: الضرب بجُمْع الكفّ، فكان فيه موت القبطيّ من غيرِ قصدٍ موسى من لذلك، فهو كزلَّة آدم أيضًا، وما كان كذلك فلا يعدّ معصية، لا كبيرة ولا صغيرة.

وليكن الأخ القارئ الكريم على ذُكْر ـ ولا بدّ ـ من كلام العلامة الشيخ بخيت رحمه الله الذي تقدم نقله بطوله قريبًا ـ كما سبق معنا ـ(1).

وأما ما يتعلق بسيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: فمجموع ما في الآيات الكريمة وحديثِ أبي هريرة الذي في الصحيحين ستُّ مؤاخذات في أربع كلمات: قوله ثلاثَ مراتٍ عن الكوكب، وعن القمر، وعن الشمس: ﴿هَٰذَا رَبِّي﴾، ، وقوله لقومه: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ وقوله لهم أيضًا: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ ، والرابعة قوله للجبار عن زوجته سارة: «إنها أختي». مع أنها زوجته، وهي ليست في الحقيقة مؤاخذات، وحاشا خليلَ الرحمن صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد قال الحافظ في «الفتح»، 6: ٣٩١، (٣٣٥٧)، جوابًا عن الكلمة الأولى﴿هَٰذَا رَبِّي﴾: «قالها على طريق الاحتجاج على قوله، تنبيهًا على أن الذي يتغيَّر لا يصلح للربوبية، وهذا قول الأكثر أنه قاله توبيخًا لقومه أو تَهكُّمًا بهم، وهو المعتمد». وقال عن الكلمات الثلاث الأخرى: «وأما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة: فلكونه قال قولًا يعتقده السامع كذبًا، لكنه إذا حُقِّق لم يكن كذبًا؛ لأنه من باب المعاريض المحتمِلة للأمرين، فليس بكذب مَحْض، فقوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، يَحتمل أن يكون أراد إني سقيم، أي: سأسقم، واسم الفاعل يستعمل بمعنى المستقبل كثيرًا(2)، ويَحتمل أنه أراد إني سقيم بما قدِّر عليّ من الموت، أو سقيم الحجة على الخروج معكم.

«وقوله: ﴿بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا﴾ قال القرطبي ـ في «المفهم»، ١: ٤٣٢ ـ: هذا قاله تمهيدًا للاستدلال على أن الأصنام ليست بآلهة، وقطعًا لقولهم في قولهم: إنها تضرّ وتنفع، وهذا الاستدلال يتحرَّر من الشرط المتصل، ولهذا أردف قولَه: ﴿بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا﴾، بقوله: ﴿إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ﴾. قال ابن قتيبة: معناه إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا، فالحاصل أنه مشتَرَط بقوله: ﴿إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ﴾، أو أنه أسند إليه ذلك لكونه السبب، وعن الكسائي: أنه كان يقف عند قوله: ﴿بَلۡ فَعَلَهُۥ﴾، أي: فعله مَن فعله، كائنًا مَن كان، ثم يبتدئ: ﴿كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا﴾ ، وهذا خبر مستقل، ثم يقول:﴿فَسۡ‍َٔلُوهُمۡ﴾ إلى آخره، ولا يخفى: تكلُّفه».

«وقوله: «هذه أختي» يُعتذر عنه: بأن مراده أنها أخته في الإسلام، قال ابن عقيل: إنما أَطلق عليه ذلك لكونه بصورة الكذب عند السامع، وعلى تقديره: فلم يَصدر ذلك من إبراهيم عليه السلام إلا في حال شدة الخوف، لعلوّ مقامه، وإلا فالكذب المحض في مثل تلك المقامات يجوز، وقد يجب؛ لتحمّل أخفِّ الضررين، دفعًا لأعظمهما، وأما تسميته إياها كذبات: فلا يريد أنها تُذَمّ، فإن الكذب وإن كان قبيحًا مُخِلًّا، لكنه قد يحسن في مواضع، وهذا منها». انتهى كلام الحافظ.

قلت: وقال النووي رحمه الله في «شرح صحيح مسلم»، ١٥: ١٢٤، بعدما نقل كلام المازري في «المُعْلِم»، ٣: ١٣١، وكلام عياض في «شرحه»، ٧: ٣٤٥، قال: «لو كان كذبًا لا تورية فيه لكان جائزًا في دفع الظالمين، وقد اتفق العلماء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنسانًا مختفيًا ليقتله، أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصبًا، وسأل عن ذلك: وجب على مَن علم ذلك إخفاؤه وإنكار العلم به، وهذا كذب جائز، بل واجب، لكونه في دفع الظالم، فنبَّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن هذه الكَذِبَات ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم».

واشتهر بين العلماء: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد أسند هذا القول الخطيب في «تاريخه»، ٥: ٤٥٦ ـ ومن طريقه ابن عساكر، ٥: ١٣٧ ـ إلى الشيخ القدوة أبي سعيد أحمد بن عيسى الخراز، (ت ٢٨٦)، بلفظ: «ذنوب المقرَّبين حسنات الأبرار». وعزاها القرطبي في «تفسيره»، 1: 309، 11: 255، إلى الإمام الجنيد (ت ٢٩٧) باللفظ المشهور، والله أعلم.

على أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قد قال في الرواية التي صدَّرتُ ذكرها: «لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قطُّ إلا ثلاث كَذِبَات: ثنتين في ذات الله: قوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، وقوله:﴿بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا﴾ ، وواحدة في شأن سارة...».

فهذا اعتذار من نبينا عن أبيه إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام، يقول: «ثنتين في ذات الله»، وهذه الواحدة التي هي في شأن سارة إنما هي أيضًا مدافعة منه عن حكم الله تعالى الذي هو حرمة سارة على الجبار، كما قال القرطبي في «المفهم»، ٦: 185، فمآل ذلك أن الثلاثة حقّ، ودفاع عن حقّ.

وقال عياض والنووي في كلامهما السابق: وقد جاء ذلك مفسَّرًا في غير [صحيح] مسلم فقال نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: «ما فيها كِذبة إلا يُماحِل بها عن الإسلام».

قلت: هذا الحديث رواه الترمذي، (٣١٤٨)، وقال: «حسن». أي: لغيره، وأبو يعلى، (١٠٤٠)، من طريق علي بن زيد بن جُدْعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، في حديث الشفاعة الطويل، بلفظ: «ما منها كِذْبة إلا مَاحَلَ بها عن دين الله». ورواه الطيالسي، (٢٨٣٤)، وأحمد، 1: 281، 295، من طريق حماد بن سلمة، عن ابن جُدعان، عن أبي نَضْرة، عن ابن عباس، بلفظ: «والله إنْ حاول بهن إلا عن دين الله». وتحرَّف لفظ «حاول» في الفتح، 6: ٣٩٢، إلى: «جادل». ثم رواه أحمد، 1: ٢٩٥، من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت البُنَاني، أنس بن مالك، وأحال لفظه على لفظ ابن عباس، وعكس محمد بن نصر المروزي في «تعظيم قدر الصلاة»، فرواه أولًا، (٢٦٥)، من طريق حماد، عن ثابت، عن أنس، وساق لفظه بتمامه، ثم رواه، (٢٦٦)، من طريق حماد، عن ابن جدعان، به، وكلٌّ منهما يشير إلى إعلال رواية الحديث من طريق أنس، والله أعلم.

وقد نقل الإمام القرطبي في «تفسيره»، 1: 309، 11: 255، كلمة جامعة في عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، عن بعضهم، أنقلها بطولها مع ما فيها من تأكيد لما تقدم:

«إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونَسَبها إليهم وعاتبهم عليها، وأَخبروا بذلك عن نفوسهم وتنصَّلوا منها، واستغفروا منها وتابوا، وكلُّ ذلك ورد في مواضع لا يَقْبل التأويلَ جملتُها، وإنْ قَبِل ذلك آحادُها، وكلُّ ذلك مما لا يُزري بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور، وعلى جهة الخطأ والنسيان(3)، أو تأويلٍ دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات، وفي حقهم سيئات بالنسبة لمناصبهم، وعلوّ أقدارهم، إذْ قد يؤاخَذ الوزير بما يُثاب عليه السائسُ ـ مُرَوِّض الدواب ـ، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة، وهذا هو الحقُّ، ولقد أحسن الجنيد حيث قال: «حسنات الأبرار سيئات المقربين». فهم صلوات الله وسلامه عليهم، وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يُخِلَّ ذلك بمناصبهم، ولا قدح في رُتَبهم، بل قد تلافاهم، واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكاهم، واختارهم واصطفاهم، صلوات الله عليهم وسلامه».

ثم زاد الطِّيب طِيبًا بنقل كلام الإمام القاضي أبي بكر ابن العربي ـ رحمهم الله جميعًا ـ، في «أحكام القرآن، ٣: ٢٥٩، عند قوله ﴿ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى﴾ [طه: 122]: «لا يجوز لأحدٍ منا اليوم أن يخبر بذلك عن آدم إلا إذا ذكره في أثناء قوله تعالى عنه، أو قول نبيّه، فأما أن يَبتدئ ذلك من قِبَل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدْنَيْن إلينا، المماثلين لنا، فكيف في أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبي المقدَّم، الذي عَذَره الله سبحانه وتعالى وتاب عليه وغفر له!!».

ثم قال القرطبي آخر الصفحة التالية تأكيدًا لهذا: «قيل: إن آدم عليه السلام أبٌ، وليس تعييرُه من بِرّه أنْ لو كان مما يُعيِّر به غيره، فإن الله تبارك وتعالى يقول في الأبوين الكافرين: ﴿وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗاۖ﴾ ، ولهذا: إن إبراهيم عليه السلام لما قال له أبوه وهو كافر:﴿يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ لَأَرۡجُمَنَّكَۖ وَٱهۡجُرۡنِي مَلِيّٗا٤٦ قَالَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكَۖ﴾ ، فكيف بأبٍ هو نبيٌّ قد اجتباه ربُّه وتاب عليه وهدى».

وقبل أن أختم الحديث عن خوارم العصمة بكبائر الذنوب وصغائرها، لا بدّ من الكلام عن قول الله تعالى في أول سورة الفتح: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا١ لِّيَغۡفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنۢبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكَ وَيَهۡدِيَكَ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا٢ وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصۡرًا عَزِيزًا٣﴾ ، ذلك أن الآية صريحة اللفظ بنسبة الذنوب المتقدمة والمتأخرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا سيما أن المفسرين نقلوا نقولًا عديدة، فيها إثبات هذا المعنى من قريب أو بعيد، عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء الخراساني، ومقاتل بن سليمان، والثوري، ومنها ما هو من أقوال المفسرين كالزمخشري.

وقد تكفَّل بجمعها الإمام السبكي رحمه الله فأوصلها إلى اثني عشر قولًا ونَقَدها، وكأن ذلك في تفسيره «الدر النظيم في تفسير القرآن العظيم» الذي توفي قبل إكماله، ونقل كلامه ـ أو كثيرًا منه ـ السيوطي رحمه الله في جزئه «المحرَّر في قوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ »، ومن مخطوطته أنقل، وهي في خمس صفحات، وقد ضمَّنها العلامة الشيخ يوسف النبهاني رحمه الله في كتابه «جواهر البحار»، ٤: ٢٣٤ـ238، وأُصحح منه ما فيها من تحريفات.

ومما نقله السيوطي عن السبكي قوله في «تفسيره»: «قد تأملت هذا الكلام ـ يعني قوله: ﴿مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ ـ بذهني مع ما قبله و ما بعده فوجدته لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، وهو: تشريف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يكون هناك ذنب، ولكنه أُريد أن يستوعب في الآية جميع أنواع النعم من الله تعالى على عبده الأخروية والدنيوية، وهي شيئان: سلبيَّةٌ، وهي: غفران الذنوب، وثبوتية، وهي: لا تتناهى، أشار إليها بقوله: ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ ، وجميعُ النعم الدنيوية شيئان: دينية، أشار إليها بقوله: ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ ، ودنيوية ـ وإن كانت المقصود بها الدين ـ وهي قوله:﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ [الفتح: 3] ، وقدَّم الأخروية على الدنيوية، وقدَّم في الدنيوية الدينيةَ على غيرها: تقديمًا للأهم فالأهم، فانتظم بذلك قدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإتمام أنواع نِعَم الله المفرَّقة في غيره، ولهذا جَعَل ذلك غاية للفتح المبين، الذي عظَّمه وفخَّمه بإسناده إليه بنونِ العظمة، وجَعَله خاصاً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: {لك} ».

«قال ـ أي السبكي ـ: وبعد أن وقعتُ على هذا المعنى وجدت ابن عطية قد وقع عليه، فقال ـ في «تفسيره»، ٧: ٦٦٧ـ: «وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب البتة»، وقد وُفِّق فيما قال. انتهی». كلام السبكي رحمه الله.

ثم قال السيوطي رحمه الله: «وقال بعض المحققين: المغفرة هنا كناية العصمة، فمعنى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ ليعصمك الله فيما تقدم من عمرك وفيما تأخر منه، وهذا القول في غاية الحسن، وقد عدّ البلغاء من أساليب البلاغة في القرآن أن يكنَّى عن التخفيفات بلفظ المغفرة والعفو والتوبة، كقوله تعالى عند نسخ قيام الليل: ﴿عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ﴾ [المزمل: 20]، وعند نسخ تقديم الصدقة بين يدي النجوى: ﴿فَإِذۡ لَمۡ تَفۡعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ﴾ ، وعند نسخ تحريم الجماع ليلة الصيام:﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾».

وبيان ذلك من كلام شيخنا العلامة الشيخ عبد الله الصديق رحمه الله في «دلالة القرآن المبين على أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أفضل العالمين»، قال ص: 92: «تفيد ما أنعم الله به على نبيه من الفتح الظاهر، والعصمة من الذنوب، إذ المغفرة كناية عن العصمة، وإتمام النعمة، والهداية إلى الصراط المستقيم، والنصر الذي لا ذُلَّ معه»، ثم علَّق ببيان وجه كون المغفرة من العصمة فقال: «وجه ذلك: أن العصمة تحول بين الشخص وبين وقوع الذنب منه، والمغفرة تحول بين الشخص وبين وقوع العقاب عليه، فكنَّى عن الأولى ـ العصمة ـ بالثانية ـ المغفرة ـ، بجامع الحيلولة، لأن من لا يقع منه ذنب، لا يقع عليه عقاب، واختيرت هذه الكناية، أعني الاستعارة، لأن المقام مقام امتنان، ثم المراد بعد هذا، ليظهر أثر عصمتك، فلا يُبطرك الفتح والنصر».

يريد رحمه الله بقوله «المقام مقام امتنان»: أن الامتنان يناسبه المغفرة، ولا يناسبه العصمة التي عدم خلق الذنب فيه.

ومن طرائف الإمام الحافظ أبي نعيم الأصبهاني حول هذه الآية الكريمة قوله في «دلائل النبوة»، ١: ٤٩: «ومن فضائله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: أن كل نبي ذكر الله تعالى حاله، وأنه غفر له ما كان منه، نصَّ عليه، فقال في قصة موسى:﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا﴾ [القصص: 33]، وقال:﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ﴾ [القصص: 16] ، فنصَّ على ذنبه وسأل ربه المغفرة، وأخبر عن داود تسوَّر عليه الملكان فقال: ﴿إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ [ص: 23] فذكر الظلم والبغي فقال: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ فقال: ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ [ص: 24] ، ونصَّ على زَلَلهم وخطاياهم، وأخبر عن غفرانه لنبيِّه عليه السلام، ولم ينصَّ على شيء من زَلَله إكرامًا له وتشريفًا فقال:﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح: 2] ، فهذا غاية الفضل والشرف».

أما الزمخشري فأساء الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ كعادته(4)ـ إذ قال في «الكشاف»، ٣: ٤٦٢: «يريد: جميع ما فَرَط منك»، وقد ردّ عليه السبكيُّ وأطال ـ بالنظر إلى موضع كلامه ـ، ومما قاله ـ ونقله السيوطي في جزئه المشار إليه ـ: «أجمعت الأمة على عصمتهم ـ في أربعة أمور ـ: فيما يقع بالتبليغ، وفي غير ذلك من الكبائر، ومن الصغائر الرذيلة التي تحطُّ مرتبتهم، ومن المداومة على الصغائر، هذه الأربعة مجمع عليها، واختلفوا في الصغائر التي لا تحط من مرتبتهم، فذهبت المعتزلة وكثير من غيرهم إلى جوازها، والمختار المنع؛ لأنا مأمورون بالاقتداء بهم في كل ما يصدر عنهم من قول وفعل، فكيف يقع منهم ما لا ينبغي ونؤمر بالاقتداء فيه؟! والحَشَوية تجاسروا على الأنبياء، فنُسِب إليهم تجويزها عليهم مطلقًا، فإن صح ذلك عنهم فهم محجوجون بما ذكرنا من الإجماع، والذين جوّزوا الصغائر لم يجوّزوها بنصّ ولا دليل، وإنما أخذوا ذلك هذه الآية وأمثالها، وقد ظهر جوابها، والذين جوَّزوا الصغائر التي ليست برذيلة: قال ابن عطيَّة ـ ٧: ٦٦٧ ـ: «اختلفوا هل وقع ذلك من نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو لم يقع؟» قال السبكي: لا أشك ولا أرتاب أنه لم يقع، وكيف يُتخيَّل خلاف ذلك ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ٤﴾»

«وأما الفعل: فإجماعُ الصحابة المعلومُ منهم قطعًا على اتباعه والتأسي به في كل ما يفعله من قليل أو كثير، أو صغير أو كبير، لم يكن عندهم في ذلك توقف ولا بحث، حتى أعماله في السرّ والخلوة يحرصون على العلم بها وعلى اتباعها، علم ذلك أو لم يعلم، ومن تأمل أحوال الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما عرفوه وما شاهدوه منه في جميع أحواله من أوله إلى آخره استحيا من الله تعالى أن يتكلم بمثل هذا الكلام ـ يريد كلام الزمخشري ـ أو يخطر بباله، ولولا أن هذا قول قد قيل، لما حكيناه، ونحن بَراءٌ إلى الله منه ولو قال به من قال».

وأعود بعد هذا إلى سرد الأمثلة التي ظاهرها خارم للسداد في الأمور كلها: من نسيان وسهو، أو خطأ في الاجتهاد، فأقول:

ز ـ وقع في الكلام الذي نقلته عن بعض الأصوليين نسبة السهو والنسيان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما وقع في كلام كثير منهم نسبة الاجتهاد إليه عليه الصلاة والسلام في بعض الأمور، وأنه أخطأ في اجتهاده، صلوات الله وسلاماته عليه، وأستعرض أشهر ما في كلامهم من الأمثلة، ثم أجيب عنها في فقرة لاحقة.

أولًا: أما أمثلة السهو والنسيان: فهي قليلة جدًا بالنظر إلى طول المدة الزمنية، ومع ذلك فإني أذكرها وأقول: «منها»، من باب الاحتياط، فقد يكون فاتني بعضها. منها:

1 ـ في الصلاة، لم يقعد صلى الله عليه وآله وسلم القعود الأول، فقال له ذو اليدين: «أَقُصِرت الصلاة أم نسيت»، وبما أن الحادثة كانت في صلاة جماعة، فمن الطبيعي أن يتعدد رواتها من الصحابة، وقد روي سهوه صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة من حديث عبد الله بن مالك بن القِشْب الأزدي، المعروف بعبد الله ابن بُحَينة، نسبة لأمه، وروايته هذه عند البخاري، (١٢٢٤)، ومسلم، ١: ٣٩٩، (٨٥ ـ ٨٧)، ومن حديث ابن مسعود، وهو عند البخاري، (٤٠١)، ومسلم، ١: ٤٠٠، (٨٩ وما بعده)، ورواه البخاري أيضًا، (١٢٢٩)، ومسلم، ١: ٤٠٣، (٩٧)، من حديث أبي هريرة، وانفرد مسلم بروايته، ١: ٤٠٤، (١٠١)، من حديث عمران بن حصين ، ويرى الحافظ في «الفتح»، 3: 100، (1229)، اتحاد رواية أبي هريرة وعمران بن حصين. والله أعلم.

وفي حديث ابن مسعود عند الشيخين: «إنما أنا بشر مثلُكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكّروني».

ومن بلاغات الإمام مالك في «موطئه»، 1: 100، (2): «إني لأَنْسى، أو أُنَسَّى لأَسُنَّ»، هذه رواية يحيى الليثي، ورواية أبي مصعب الزهري، (٤٨٩): «إني أُنَسَّى لأَسُنّ»، ومثلها رواية الإمام محمد بن الحسن الشيباني، (969)، من شرحه «التعليق الممجَّد».

قال الحافظ في «الفتح»، ٣: ١٠١ عن هذا الحديث: «لا أصل له؛ فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث الشديد». قال الزرقاني في «شرح الموطأ»، ١: ٢٠٥، تعقيبًا عليه: «معناه: لا أصل له يحتج به؛ لأن البلاغ من أقسام الضعيف، وليس معناه أنه موضوع، معاذ الله».

قلت: هذا تكلُّف في الجواب، وكلام الحافظ واضح في أنه يريد: لا سند له ولا مستند، وكلام غيره متجه نحو هذا المعنى أيضًا، لكني أقول: إنه حكم بمقتضى ما بين يدي الإمام الباحث، وهذا حقّ عليه، لكن لا بد من مراعاة المقام الذي كان عليه الإمام مالك رضي الله عنه ـ باتفاق الأئمة ـ من شدّة التحري فيما ينسبه إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بدّ من ملاحظة الكلمة التي نقلها الزرقاني هنا في هذا المقام عن الإمام سفيان بن عيينة ـ وهو قرينُ مالكٍ وقِرنْه ـ: إذا قال مالك: «بلغني». فهو إسناد صحيح.

٢ ـ ومنها: ما رواه البخاري، (٥٠٣٨، ٥٠٣٧)، ومسلم، ١: ٥٤٣، (٢٢٤، 225)، من حديث عائشة رضي الله عنها: أنه صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلًا يقرأ من الليل فقال: «يرحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا، آيةٌ كنت أَسقطتُها، من سورة كذا وكذا». هكذا جاءت الرواية الأولى عندهما: «كنت أسقطتُها»، ثم أعقبا ذلك بلفظ: «كنت أُنسيتها من سورة كذا وكذا».

وإنما فعلا ذلك رحمهما الله تعالى: مراعاة للحديث الذي روياه عقب هذا الحديث، وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «بئسما لأحدهم يقول: نَسِيت آية كيت وكيت، بل هو نُسِّي»، وكأنهما يريان أن رواية: «كنت أسقطتها». من قبيل الرواية بالمعنى.

وقد بوَّب البخاري لهذين الحديثين بقوله في كتاب فضائل القرآن: «باب: نسيان القرآن، وهل يقول: نسيت آية كذا وكذا، وقول الله تعالى: ﴿سَنُقۡرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ٦ إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ﴾ ، فهذه الآية، والآيات التي أُنسيها صلى الله عليه وآله وسلم داخلة تحت هذا الاستثناء، فقوله: «كنت أُنسيتها». أي: شاء الله تعالى إنسائي لها.

3، 4 ـ وروى أبو داود في «سننه» تحت باب الفتح على الإمام في الصلاة حديثين فيهما كلام برقم، (٩٠٣، ٩٠٤).

أولهما: عن يحيى بن كثير الكاهلي، عن المُسَوَّر بن يزيد المالكي: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في الصلاة، فترك شيئًا لم يقرأه، فقيل له: «يا رسول الله آيةَ كذا وكذا»، فقال: «هلاّ أذكرتَنيها». ويحيى: قال فيه أبو حاتم، ٩ (٧٦١): «شيخ». وذكره ابن حبان في «الثقات»، ٥: ٥٢٧، وضعفه النسائي، وحكى الذهبي الخلاف فيه في بعض كتبه، واقتصر على تضعيفه في «المغني»، (٧٠٣٥)، و«ديوان الضعفاء»، (٤٦٧٦)، و«الكاشف»، (٦٢٣٣)، وقال الحافظ في «التقريب»، (٧٦٣٠): «لين الحديث».

ثانيهما: حديث ابن عمر: أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلُبِس عليه، فلما انصرف قال لأُبيّ: «أصليتَ معنا؟»، قال: «نعم»، قال: «فما منعك؟». وهو حديث ذكره ابن أبي حاتم في «العلل»، (207)، ونقل عن أبيه إعلاله.

ح ـ وهذا المنسيُّ إما نسيانه مؤبَّد، يدخل تحت قوله تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: 106]، وإما مؤقت، كما في الحديثين الصحيحين الأول والثاني، لحكمة تشريعية يريدها الله تعالى.

قال شيخنا العلامة الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله في «أوجز المسالك»، ٢: ٣٥١، في شرح حديث: «إني أُنَسَّى لأَسُنَّ»: «فيه إشارة إلى أن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم تبليغية لأمته، فأمثال هذه الأمور تصدر منه صلى الله عليه وآله وسلم بضرورة التعليم، وهذا أصل وجيه». يريد شيخنا: أنه صلى الله عليه وآله وسلم يعرض له ـ في الظاهر ـ النسيان ليَشْرَع لأمته كيف تعمل: إذا حصل لها ذلك. وهذا المراد متكرَّر على ألسنة أهل العلم حتى ليُظَنُّ أنه من تقريراتهم، ثم وقفت عليه من تنبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوجيهه لما يُحدِثه الله تعالى له من أمور تكون تشريعًا لأمته من بعده. وذلك كحديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم يوم الحديبية: «من يَكْلَؤُنا؟» فقال بلال: «أنا»، لكنهم ناموا حتى طلعت الشمس، فاجتمعوا وتحدَّثوا بينهم بصوت مرتفع، ليستيقظ صلى الله عليه وآله وسلم، فاستيقظ، فقال: «افعلوا كما كنتم تفعلون». أي: صلُّوها الآن قضاء، كما كنتم تصلونها أداء، ثم قال لهم: «كذلك لمن نام أو نسي». أي: هذا تشريع لكم ولمن يجيء بعدكم، إذا فاتته الصلاة بسبب نسيانها أو النوم عنها. والحديث رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه»، (٤٧٧١)، وهناك تجد تخريجه عن «المسند»، وغيره من بعض كتب أصحاب السنن.

كما حصل له صلى الله عليه وآله وسلم إنساءٌ في موقف آخر ذكروا له فائدة تشريعية.

وذلك في الحديث الذي رواه البخاري، (٢٠١٦)، ومسلم، ٢: ٨٢٦، (٢١6)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا: «إني أُريت ليلة القدر، ثم أُنسيتها، أو نَسِيتها...». هكذا بالشك، ولفظ مسلم برقم، (213): «أُنسيتها»، وبرقم (217): «فنُسِّيتها».

ورواه مسلم من حديث أبي هريرة، (٢١٢)، بلفظ: «فَنُسِّيتها»، ثم رواه برقم، (218)، من حديث عبد الله بن أُنيس بلفظ: «أُنسيتها». وقال الحافظ عن حديث أبي سعيد الأول، ٤: ٢٥٨، «أُنسيتها، أو نَسِيتها»:

«شكٌ من الراوي هل أنساه غيرُه إياها، أو نَسِيها هو من غير واسطة، ومنهم من ضبط «نَسِيتها»: بضم أوله والتشديد ـ أي: نُسِّيتها ـ، فهو بمعنى: أُنسيتها، والمراد: أنه أُنسي علمَ تعيينها في تلك السنة».

ومن حِكَم إنسائها: أن يَجتهد المسلم في ليالي العشر كلها، ولو حصل تعيينها لَمَا قام المسلمون ليلة غيرها، كما أشار إليه الحافظ في «الفتح»، ٤: 268، ثم نقل عن التقي السبكي قوله في «الحلبيات»، يستفاد: «من هذه القصة استحباب كتمان ليلة القدر لمن رآها، قال: ووجه الدلالة أن الله قدّر لنبيه أنه لم يُخبَر بها، والخيرُ كله فيما قدَّر له، فيستحب اتباعه في ذلك».

وهكذا كانت حكمة التشريع واضحة جدًا في الموقف الذي ذكرته وهو حصول سهوه صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة، مرة أو أكثر، إذ لا تخلو آحاد أمته من سهو في صلاته، فيستفيد تصحيح صلاته من هديه صلى الله عليه وآله وسلم فيما عرض له.

على أنه لا بدّ في هذا المقام من التفرقة بين نوعين من النسيان.

قال ابن عطية رحمه الله تعالى في تفسير آية: النسخ، ١: ٣١٦: «الصحيح في هذا: أن نسيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لِمَا أراد الله أن ينساه، ولم يُرِد أن يَثْبت قرآنًا: جائزٌ ـ أي: واقع ـ، فأما النسيان الذي هو آفة في البشر: فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم معصوم منه قبل التبليغ وبعد التبليغ ما لم يحفظه أحد من الصحابة، وأما بعد أن يُحفظ: فجائز عليه ما يجوز على البشر؛ لأنه قد بلَّغ وأدى الأمانة»(5).

(1) وقد نشرنا كلامه كاملا بالمقالة السابقة.

(2) من ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر: 30]. أي: ستموت وسيموتون.

(3) تقدم ـ في المقالة السابقة ـ في كلام العلامة المطيعي رحمه الله أنه لا معصية حال الخطأ والسهو.

(4) ينظر «معيد النعم» للتاج السبكي، ص: ٦٦، تحت عنوان: المثال السادس والأربعون، و«التحبير في علم التفسير»، للجلال السيوطي، ص: 33.

ولعل بعض أهل العلم المتيقِّظين ينهض لتتبُّع هذه المواقف من الزمخشري في «تفسيره»، وتزييفها، وبيان مصادره من كتب المعتزلة السابقين، فإنهم هم المقصودون بكلمة الإمام السبكي الآتية بعد أسطر: «والحَشَوية تجاسروا على الأنبياء».

(5) انتهى كلام شيخنا حفظه الله ورعاه، بتصرف يسير، ص: 21ـ39، وسنكمل في المقالات القادمة ـ إن شاء الله ـ الكلامَ على أمثلة اجتهاده ﷺ ووقوع الخطأ فيما يجتهد.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين