دائرة الاهتمام.. ودائرة التأثير

(دائرة الاهتمام) و (دائرة التأثير) اصطلاحان موفّقان[1] لتقسيمِ ما يواجهُه الإنسانُ من: أعمالٍ، وآمالٍ، واهتمامات... وما إليها من مناشطِ الحياة ومَكارِهِها. فهناك أمورٌ خارجَ نطاق اهتمام المرء، وأمورٌ داخلَ نطاق اهتمامه، والأمور الواقعة في نطاق اهتمامه نوعان: أولُهما لا سيطرة له عليه، والآخر له عليه نوعٌ من السيطرة والتأثير. ولتوضيح ذلك نأخذ (زيدًا) مثالًا:

زيدٌ رجل في الثلاثين، لا يهتمّ أبدًا بكرة القدم، ولا يُبالي أيّ فريق خسر في المباريات العالمية وأي فريق حاز البطولة، ولا يبالي أيضًا بأمور السياسة والاقتصاد؛ فسواءٌ عنده: ارتفع اليّن أمِ انخفض، وسواءٌ نجح في الانتخابات الرئاسية مرشّح هذا الحزبِ أم ذاك الحزب!! فهذه كلّها خارجةٌ عن نطاق اهتمامه.

لكنّ زيدًا يهتمّ بأمور كثيرة، منها ما لا يملك التأثيرَ فيه ولا يقع في نطاق سيطرته، ومنها ما يستطيع أن يؤثر فيه تأثير كليًّا أو جزئيًّا.

فمن الأمور التي تُهمُّه، مثلًا: حرارة الطقس في المنطقة التي نُقل إلى العمل فيها، وأخلاقُ سائقي السيارات وتهورُهم في أثناء القيادة، وضِيق شوارع المدينة، والديون التي ترزح تحت وطأتها بلاده، ومشكلةُ الفقر في العالم التي يذهب ضحيتَها ملايينُ الأطفال في كل عام، وما شابه ذلك.

وواضح أنّ زيدًا لا يستطيع أن يصنع شيئًا حيال هذه الأمور، وأن غضبَه عليها، وتذمّره منها لن يغيّرا الواقع بل سيزيدا من حَنَق زيدٍ وإحباطِه، ويؤثرا سلبًا على صحته الجسمية والنفسية.

وهناك نوع آخر من الأمور التي تُهمٌّ زيدًا مثل: تحسينِ وضعه المادي، وحصوله على درجة وظيفية أعلى، ورفعِ مستواه في اللغة الأجنبية التي يعرف مبادئها، وإنقاصِ وزنه الزائد، وممارسةِ الرياضة البدنية، وقضاءِ وقتٍ أكبرَ مع زوجته وأولاده... هذه الأمر كلها داخلةٌ في (دائرة التأثير) بِنِسَبٍ مُتفاوتة، ويستطيع زيدٌ أن يقوم بشيء ما حيالها.

فإذا كان زيد رجلًا ناجحًا، فعّالًا، حكيمًا، مبادرًا فهو يوظّف جهده وطاقتَه، ووقتَه، وماله في الأمور الواقعة في (دائرة تأثيره)، ويكفُّ عن الشكوى مما هو في (دائرة اهتمامه) ولا سلطان له عليه. أما إذا كان غير ذلك، فهو لن يكفّ عن اختلاف الأعذار تسويغًا لتقاعسه، وسيظل يشكو ويتوجّع من الظروف الصعبة، والحظّ الذي لا يواتيه، وقد يحمّل (الأقدار) مسؤوليةَ ما جناه على نفسه؛ وصَدَق من قال: المخفِقون ماهرون في اختراع الأعذار..

والناجحون ما هرون في اختراع الحلول..

إن الأفرادَ الناجحين، والجماعاتِ والجمعياتِ الناجحةَ، بل حتى الشعوب الناجحة، هي التي توظّف وقتَها، وجهدَها، واهتمامها في (دائرة تأثيرها)، ولا تضيع وقتها، وجهدَها، في (دائرة اهتمامها).

إنّ الناجحين فَهِموا (قانون السَّبَبِيَّة)، وأنّ مَنْ جَدَّ وجد، ومَنْ زرَعَ حصد، وبذلوا ما في وسعهم، فإذا تخلّفت - بعد ذلك - النتيجةُ عن المقدّمة، ولم تؤتِ الشجرةُ ثمارهَا؛ فتلك إرادة الله، ولا لومَ عليهم.

وهذه المعاني جاءت بها الأديان السماوية، وكررها الحكماء على اختلاف العصور، ومع ذلك فمن الحكمة أن يُعبَّر عنها بأساليبَ مختلفةٍ تناسب اختلاف الزمان والمكان والإنسان، وتناسب أفهام المخاطَبِين بها، وأعمارَهم، وثقافتَهم (ومن أجل هذا المـَقْصِدِ كُتب هذا المقال).

ففي القرآن الكريم يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، والوسع، والطاقة هما (دائرة التأثير)؛ لأنّ التكليف يقتضي من المكلَّف القيامَ بأعمالٍ معينة في مقدوره القيامُ بها، والامتناعَ عن أعمال في مقدوره الامتناعُ عنها.

وفي القرآن الكريم أيضًا أَمْرٌ من الله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، أن يدعوَ الناسَ إلى ربّهم، وواجبُه ينتهي عند الدعوة والبيان، ولا سيطرةَ له عليهم بعد ذلك: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 21، 22]؛ فالدعوة واقعةٌ في (دائرة التأثير)، واستجابةُ المدعوين في (دائرة الاهتمام).

وفي الحديث الشريف: "المؤمن القوي خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احِرِصْ على ما ينفعُك، واستعنْ بالله، ولا تعجِزْ، ولا تقل: لو أني فعلت كذا؛ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر اللهُ وما شاء فعل، فإنّ (لو) تفتح عمل الشيطان"؛ رواه مسلم.

والحديث صريحٌ في:

1- الحثّ على القوة.

2- والحرص على المنفعة الدينية والدنيوية.

3- وعلى الاستعانة بالله تعالى وعدم العجز.

4- وعلى عدم التحسّر على ما فات لأنه خرج من (دائرة التأثير)، ولم يعد للمرء سلطان عليه.

ومن أقوال الحكماء في المعنى نفسِه: "طَلَبُ ما لا يُدْركُ عَجْزٌ"؛ لأنه - أيضًا - خارج عن (دائرة التأثير)!

إن الأسى على أخطاءِ الماضي ومآسيه، وإضاعةَ الوقتِ في الرّثاء لها يشبه - كما يقول ستيفن كوفي - رجلًا لدغه ثعبان، فبدلًا من أن يبادر بأَخْذِ الترياق الذي يُبطل مفعولَ السّم، بدأ يجري خلفَ الثعبان لينتقمَ منه، وبذلك عجَّل المسكين في سَرَيان السّم في جسمه! فماذا كانت النتيجة؟ لم يقتل ِالثعبانَ، لكنّه قتل نفسه!!!!

وشبيه بالحكمة الآنفة الذكر قول الشاعر:

إذا لم تستطعْ شيئًا فَدَعْهُ=وجاوِزْه إلى ما تستطيعُ

والمقام لا يتّسع لإيراد شواهدَ أكثر على هذا المعنى.

إن الناجحين يبدؤون بالتعامل مع (ما هو كائن)، ولا ينتظرون حتى يتحقّق (ما ينبغي أن يكون)، والحكيمُ يتعامل مع (الواقع)، ويسعى إلى (التغيير من خلال الـمُتاح)، مُدْرِكًا أنّ الحكمة تقتضي المبادرة في (التعامل مع الممكن) قبل أن تضيعَ فيصبحَ الممكنُ مستحيلًا!!

وإذا كان الواحد منا لا سيطرة له على (فعلٍ) يقع خارج (دائرة تأثيره)، فإنه - بعون الله - يستطيع أن يسيطر على رَدّةِ فعله تُجاهَ هذا (الفعل)، وذلك بترويض نفسه، وتدريبها.

رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنما العلم بالتعلم، والحِلْم بالتحلّم»، وعن الحسن رضي الله عنه: "إذا لم تكن حليمًا فتحلّم، وإذا لم تكن عالمًا فتعلّم، فقلّما تشبّه رجل بقوم إلا كان منهم".

وقال الإمام الغزالي (المتوفى عام 505هـ) رحمه الله في كتابه "إحياء علوم الدين": "... مَنْ أحبّ شيئًا أكثر من ذِكْره، ومن أكثر ذكرَ شيءٍ وإن كان تكلُّفًا أحبّه، ولا يصدرُ الأُنس إلا من المداومة على المكابدة والتكلُّفِ مدةً طويلةً حتى يصيرَ التكلّفُ طبعًا. وقد يتكلّفُ الإنسانُ تناولَ طعامٍ يَسْتبشِعُهُ أولًا، ويكابدُ أَكْلَه، ويواظبُ عليه؛ فيصير موافقًا لطبعه حتى لا يصبرَ عنه؛ فالنفسُ معتادةٌ متحمِّلةٌ لما تتكلف...".

وكلام الإمام الغزالي توكيدٌ لما قاله قَبْلَهُ الطبيبُ الفيلسوف ابن سينا (المتوفى عام 428هـ) رحمه الله في رسالته "علم الأخلاق":

"والأخلاق كلُّها: الجميلُ منها والقبيح، هي مكتَسبةٌ، ويمكن للإنسان متى لم يكن له خُلُقٌ حاصلٌ أن يُحصِّلَهُ لنفسه... وأن ينتقلَ بإرادته إلى ضدِّ ذلك الخلُق".

وفي الختام ليس لنا إلا أن نسألَ اللهَ سبحانه وتعالى العونَ، وأن نبذلَ قصارى جهدِنا، ونثابرَ، ونصابرَ، ولا نيأسَ من المحاولة والتكرار، فعاقبةُ المحاولة الصّادقةِ النجاحُ وتحقيقُ الأمل بإذن الله: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69] .

 

[1] وردا في كتاب: ستيفن كوفي The Seven Habits of Highly Effective People

 

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين