الإفتاء الأسدي

من يقرأ عن الشام "دمشق" وتاريخها لابدّ أن يتوقف كثيراً ليستمتع بالقراءة أكثر عن تدينها وأخلاقها ووسطيتها وثقافتها وعلمائها ومفاتيها، فإنّ الشام مشهورة بحبّها للعلم وطلابه، سواء من أهلها أو من غيرهم، وكذلك مشهورة بوفرة العلماء المجتهدين والأئمة بين ربوعها، ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر الإمام النووي وابن كثير وابن القيم والمزي وابن عساكر وابن تيمية وغيرهم كُثر رحمهم الله وأحسن إليهم.

إنّ عهد الفتوى والمفتي قديم جداً فهو يعود إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثمّ إلى الصحابة الكرام من بعده، ثم التابعين إلى نشأة المذاهب وانتشارها في البلاد، ومع توسّع الدولة الإسلاميّة صار لكلّ بلد أو ولاية مُفت يقوم بعمل القاضي والإفتاء معاً، ثمّ نشأتْ دور القضاء والعدل، فصار منصب القاضي مختلف عن منصب المفتي. ولقد مرّ على الشام وأقصد بها دمشق من القرن العاشر الهجري حتى نهاية القرن الثالث عشر (60) ستون مفتياً، أولهم الشيخ شمس الدين محمد بن رمضان الدمشقي المتوفى سنة 913 ه، وآخرهم الشيخ عبد الرزاق جوانيه الشهير بالحمصي المتوفى سنة 1388ه. رحم الله الجميع.

وحسب ما قرأنا وعرفنا عن هؤلاء العلماء الكرام رحمهم الله تعالى جميعاً فإنّهم كانوا جميعاً أهل علم وتقوى وورع ما عُهد عن أحدهم المحاباة والتملق، رحمهم الله وأحسن إليهم.

إلى أنّ جاء عهد من أخذ بالبلاد إلى مرحلة مُظلمة قرابة نصف قرن، ما مرّ على الأمّة الإسلاميّة شبيهاً لها من الفساد والظلم والطغيان، وهو عهد المجرم الهالك حافظ الأسد ومعه مفتيه الشيخ أحمد كفتارو، ثمّ ابنه السفاح بشار الأسد ومعه خليفة كفتارو وتلميذه الشيخ أحمد بدر الدين حسون، عليهما من الله من يستحقانه فيما فعلوا في البلاد والعباد. ولا أريد التعمق في كيفية نيلهما منصب مفتي الجمهورية فهذا أمر يطول بحثه لاسيما أنّ عهدهما قريب، والكثير يعلم عمالتهما للنظام الأسدي فبذلك فازا برضاه وقربه ورعايته.

وفي هذه الأيام قام رأس النظام السوري المجرم بشار بإصدار قرار يُلغي من خلاله منصب المفتي العام للجمهورية، ولاشكّ أنّ هكذا قرار يحمل في طياته جريمة عظيمة (كيف لا ومُصدِره مجرم سفاح!) في حقّ شعبنا المسلم، وثقافتنا الإسلامية العريقة، وتاريخنا وهويتنا العربي وإرثنا الحضاري.

لقد اجترأ على توقيع هذا القرار رئيسُ غير شرعي لدى غالبية الشعب السوري، (ولست مبالغاً) فمنهم ضعفاء شعبنا المظلومين هؤلاء الذين يرزحون تحت سطوته وظلمه وفساده في الداخل السوري، بل إنّ العديد من أبناء مِلتهِ لا يعترفون به ضمنياً ويكرهونه، ولكنهم أجبروا على الرضوخ والاستسلام خوفاً على أرواحهم، ومنهم من صرّح بذلك علانيّة. وبما أنّ الصادر عنه القرار غير معترف به أصلاً، فلا يعتبر رئيساً شرعياً، فإنّ أي قرار يصدر عنه هو غير شرعي من باب أولى، وما بُني على باطل باطل.

ومن جهة أخرى فإنّ القيام بإلغاء منصب مُتعلق بالدين، ويعرفه السوريون منذ عقود بل منذ قرون يُعتبر انتهاكاً صريحاً للمسلمين السنّة في سورية، ولعله يكون الخطوة التالية في عمليّة التغير الديموغرافي التي بدأ بها منذ بداية الثورة السورية، حيث قام بتهجير السوريين السنّة بشتّى الوسائل، ثمّ استقدم الشيعة المرتزقة، فوطّنهم وسمح لهم بالاستيلاء على بيوت وأراضي وعقارات المواطنين السورين السنّة، ثمّ مَنحهم الجنسية السورية، وبعد ذلك جاءت المرحلة الآن بمسح الصفة الدينية "المفتي العام" التي كان السوريون يَستظلون بها قبل عهد الخائن حافظ الأسد ومفتيه أحمد كفتارو، وبذلك أصبح قِياد البلاد الدينيّة تابعاً لمجلس فقهي يجمع كلّ المذاهب السنيّة (بعمائم داعمة للمجرم)، إضافة إلى طوائف أقليّة ليس لها علاقة بالإسلام إلا بالاسم فقط، يتخفون تحت تلك التسمية فيعتبرون أنفسهم مذهباً إسلامياً، وهي طوائف الأقليات الشيعة والنصيرية والدروز.

وما هذا القرار إلا لتسليط الشيعة الطائفيين المجرمين القادمين من إيران والعراق واليمن ولبنان على رقاب المسلمين السوريين بشكل قانوني ورسمي، وتمكينهم من الفتاوى والمعاملات المتعلقة بالشريعة من عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق وسياسة.

وبعد هذه الخطوة التي جاءت إثر موجات التهجير المختلفة، وآخرها الجارية في تسهيل خروج السوريين السنّة إلى بيلاروسية وغيرها من الدول، وفي نفس الوقت الذي تبذل فيه الدول العربية جهداً لإعادة تدوير النظام، لا أستبعد بعد مُدة وجيزة أن تستولي إيران على جميع مرافق الحياة في البلاد، وقد عاين شعبنا في الداخل بعضه، كما جرى مع جارنا الشقيق العراق. فالمشروع الإيراني الشيعي الفارسي قائم على قدم وساق، لا تضره تلك الفقاعات الأمريكية والإسرائيلية المعادية ظاهرياً والمؤيدة له ضمنياً.

لقد تمادى المجرم بشار الأسد كثيراً في إذلال شعبنا، فهو في كلّ يوم يخرج بكارثة جديدة، تدلّ على نيته الخبيثة في مسح حضارة عريقة اسمها الحضارة الإسلاميّة السوريّة وبشتى الوسائل، ومع كلّ ذلك نقول: لقد دمّر المجرم السفاح البلاد، وقتل وسجن وهجّر وشرّد العباد، ولم تبق جريمة إلا وعليها توقيعه وبصمته، فهل نحزن على قرار يخرج به الآن كإلغاء منصب المفتي؟!

نعم.. لا نعترف بشرعيّة رئاسة المجرم بشار الأسد، وكذلك لا نعترف بالقرارات التي يُصدرها، وإنّ هذا القرار ليس بشيء أمام جرائمه الكبرى في حقّ شعبنا المظلوم، ونقرُّ بأنّ منصب المفتي في عهد عائلة الأسد منصب تشبيحي تملقي، يقوم عليه مُفتٍ مأجور، ينافق لسيده وولي نعمته، ولا ينظر إلى مصلحة الشعب وقضاياه الدينية والدنيوية، فبينه وبين كلمة الحق أميال شاسعة، ولكن مع كلّ ذلك علينا أن ندافع عن هذا المنصب، ولا أقصد به منصب المفتي في عهد البعث والمخابرات والعائلة الأسدية، بل منصب المفتي عموماً والذي كان متألقاً طوال العقود التي مرتْ على سورية قبل عهد الأسد وكفتارو والحسون، فدفاعنا عنه هو دفاع عن ديننا وتاريخنا وثقافتنا وحضارتنا وهويتنا الإسلاميّة والعربية والسورية، التي يسعى المجرم جاهداً أن يجعلها في مهبّ الريح.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين