خُلاصَةُ أقوالِ الأئِمَّةِ حولَ نَظرتِهِم للطِّبِّ النَّبَوِيّ. ‏

قال شيخنا العلامة المحقق الشيخ محمد عوامة ـ حفظه الله ورعاه ـ في رسالته القيمة المحررة النافعة: «‏حجية أفعال رسول صلى الله عليه وآله وسلم أصوليا وحديثيا وفيه عصمته صلى الله عليه وآله وسلم من الخطأِ والخطيئة‏»:

قال الخطابي في «أعلام الحديث» 3: 2112 في شرح حديث أبي ‏هريرة مرفوعًا: «في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السامَ»: «هذا ‏عموم اللفظ الذي يُراد به الخصوص..». ونقله الحافظ في «الفتح» 10: ‏‏145 (٥٦٨٨)، وأيّده بكلام لابن العربي وغيره. ‏

وروى مسلم ٤: ١٧٣٦ (٩١) حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا فيمن ‏شكا استطلاق بطن أخيه ثلاث مرات، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول له: «اِسْقِه ‏عسلًا»، ثم قال له في الرابعة: «صدق الله وكذب بطن أخيك». قال ‏القاضي عياض في «الإكمال» ٧: ١٢٩ في شرح هذا الحديث: فيه «حجة للقائلين أن المراد بقوله تعالى ﴿فيه شفاء للناس﴾: العسل، وأن ‏الهاء ضميره..، وقال بعض العلماء: الآية على الخصوص، أي: شفاء ‏لبعض الناس، ومن بعض الأدواء». ‏

‏ وأكّد هذا المعنى من ناحية أصولية القرطبيُّ في «المفهم» ٥: ٦١٠، ‏وزاده كمالاً وجمالاً فقال: «مقتضى الآية أن العسل فيه شفاء ما، لا كلُّ ‏شفاء؛ لأن {شفاء} نكرة في سياق الإثبات، ولا عمومَ فيها باتفاق أهل ‏اللسان ومحققي أهل الأصول، لكنْ قد حملتْها طائفة من أهل الصدق ‏والعزم على العموم، فكانوا يستشفون بالعسل من كل الأوجاع ‏والأمراض، وكانوا يستشفون من عللهم ببركة القرآن وبصحة التصديق ‏والإيقان، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما لا يشكو قرحة ولا شيئًا إلا ‏جعل عليه عسلًا، حتى الدُّمَّل إذا خرج عليه طلاه عسلًا، فقيل له في ‏ذلك؟ فقال: أليس الله سبحانه يقول: {فيه شفاء للناس}؟

‏ ورُوي: أن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه مرض، فقيل له: ‏ألا نُعالجك؟ فقال: ائتوني بماء، فإن الله تعالى يقول: {ونزلنا من ‏السماء ماء مباركاً}، ثم قال: ائتوني بعسل، فإن الله يقول: {فيه شفاء ‏للناس}، ثم قال: ائتوني بزيت فإن الله تعالى يقول: {من شجرة مباركة ‏زيتونة}، فجاؤوه بذلك كلَّه، فخلطه جميعًا ثم شربه فَبَرَأ، وحكى ‏النقَّاش عن أبي وَجْزة: أنه كان يكتحل بالعسل، ويَستمشي ـ يَستطلق ـ ‏بطنَه بالعسل، ويتداوى بالعسل، فهذا كلُّه عمل بمطلق القرآن الكريم، ‏وأصلُه صدقُ النية وصحة الإيمان». انتهى كلام القرطبي رحمه الله. ‏

وبعد ما نقل الحافظ في «الفتح» كلام الخطابي وأيدّه بكلام ابن العربي ‏ختم نقوله بكلام ابن أبي جمرة في «بهجة النفوس»، ٤: ١١ في شرح ‏الحديث ١٧٤ حديثِ رافع ابن خَديج مرفوعًا: «الحمّى من فَوْر جهنم، ‏فَأبْرُدُوها عنكم بالماء»، قال رحمه الله: «جميع الحميّات على اختلافها ‏هي من جهنم؛ فينبغي تبريدها بالماء؛ لكن لمن يكون له تصديق ‏بالحديث، كما قال مولانا جل جلاله في العسل: {فيه شفاء للناس}، ‏وكان ابن عباس إذا رمِدت عيناه يكتحل به ويتلو الآية فيبرأ، وكان ابن ‏عمر رضي الله عنهما إذا طلع له نَبْت ـ كأنه الدُّمَّل الذي تقدم في كلام ‏القرطبي ـ يَطليه به ويتلو الآية فيبرأ، وقد جاء بعض المتأخرين ‏واستعمله على تلك النية فجُعِل له فيه الشفاء لكل شيء». ثم ذكر ‏حديث: «اسقه عسلًا». وحديث: «الحبة السوداء». وقال: «الباب في ‏هذا كله واحد؛ فأهل التوفيق والتحقيق أخذوها كلها على العموم ‏فوجدوها كذلك، والأخبار في ذلك عنهم كثيرة، ومما يقوّي طريقهم ‏المبارك قولُه جل جلاله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}؛ فينبغي ‏أن تبقى الرحمة على عمومها لأنها من أرحم الراحمين، للضعفاء ‏والمساكين، وهو عز وجل يعلم ضعفهم واحتياجهم إليه». وقال النووي ‏في شرح حديث سعيد بن زيد ـ أحد العشرة رضي الله عنهم ـ الذي ‏رواه مسلم ٣: ١٩ (١٥٧): «الكَمْأة من المنّ وماؤها شفاء للعين» قال: ‏رحمه الله ١٦: ٥: «والصحيح؛ بل الصواب: أن ماءها مجردة شفاء ‏للعين مطلقًا؛ فيعصر ماؤها ويجعل في العين منه، وقد رأيت أنا وغيري ‏في زماننا من كان عمي وذهب بصره حقيقة، فكَحَل عينه بماء الكمأة ‏مجردًا فبرأ وعاد إليه بصره، وهو الشيخ العدل الأمين الكمال ابن عبد ‏الدمشقي، صاحب صلاح ورواية للحديث، وكان استعماله لماء الكمأة ‏اعتقادًا في الحديث وتبركًا به». ‏

‏ ونقله الحافظ في «الفتح» ١٠: ١٦٥ (٥٧٠٨) وزاده بيانًا وتعريفًا، ‏وأنه حصل لأبي هريرة مع جارية له مثل ذلك تمامًا، ثم قال: «استعمال ‏كل ما وردت به السنة بصدقٍ يَنتفع به من يستعمله؛ ويدفع الله عنه ‏الضرر بنيته؛ والعكس بالعكس».‏

‏ ولتمحيص نية التبرك واليقين أقول: ينبغي لكل مسلم أن يعمل بما ورد ‏به الكتاب والسنة موقنًا متوكلًا، لا «مجربًا؛ فإن الله مع المتوكلين، وهو ‏يفضح المجرِّبين»، كما قاله ابن العربي في «أحكام القرآن» 3: 98، ‏ونقله عنه القرطبي في «تفسيره» 9: 370 في تفسير قوله تعالى: ﴿ربَّنا ‏إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع﴾.

‏ قلت: والخطابي نفسه يقول 3: 2131 بالطب الروحاني الذي أكّده ابن ‏أبي جمرة والقرطبي والنووي وابن القيم في أوائل كتابه «الطب ‏النبوي»، رحمهم الله جميعًا؛ بل إن ابن القيم يقول عن الطب النبوي 4: 11 من «‏زاد المعاد»: إنه «من الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ‏ينفعه ويضره، بل هاهنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض ما لم يهتد ‏إليها عقول أكابر الأطباء، من الأدوية القلبية والروحانية...»، لكنه يعترف ‏بعد قليل، ص: 25 بأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحمى: «ابردوها بالماء». خطاب ‏وأمر خاص بأهل الحجاز وما والاهم، فإن حُمَّاهم ينفعها الماء البارد ‏شرباً واغتسالاً، ونحو هذا في، ص: 35 منه عند كلامه على حديث: ‏«اسقه عسلًا».

انتهى كلام شيخنا، حفظه الله تعالى ورعاه، ص: 90ـ92.‏

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين