مدخَل إِلى فنِّ الاختِلاف: حُكمُ الاختِلافِ فِي الفُرُوع

قال شيخنا العلامة المحقق محمد عوامة ـ حفظه الله تعالى ورعاه ـ

في كتابه الماتع الحافل «أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين»:

لا يخفى على عاقل جواز الاختلاف في فروع الأحكام الشرعية عقلاً وشرعاً، وأدلُّ دليل على جوازه عقلاً: وقوعه، وأدلُّ دليل على جوازه شرعاً: وقوعه من صدور الأمة وأفضلها بعد أنبياء الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، وفيهم: أبو بكر، وعمر، وبقية الخلفاءِ الراشدين، وبقية العشرةِ المبشرين، وفقهاءُ الصحابة وعلماؤهم بكتاب الله تعالى: أُبيّ بن كعب، وابن عباس، وابن مسعود..، وهكذا مَنْ بعدهم مِن التابعين وتابعيهم إلى يومنا هذا، ما يُنْكَر على أحد من المخالفين خلافه، إنما يُنْكَر عليه ـ إن أُنكِر ـ طريقة قوله الذي خالف به، أو خطؤُه في فهمه، أو غير ذلك. أما أن ينكرَ عليه: لمَ خالف، فلا.

قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى في أوائل رسالته «جزيل المواهب في اختلاف المذاهب»: «فصل: اعلم أن اختلاف المذاهب في هذه الملَّة نعمة كبيرة وفضيلة عظيمة، وله سرٌّ لطيف أدركه العالِمون، وعَمِي عنه الجاهلون، حتى سمعت بعض الجهال يقول: النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء بشرع واحد، فمن أين مذاهب أربعة(1)؟!.

ومن العجب أيضاً: من يأخذُ في تفضيل بعضِ المذاهب على بعض تفضيلاً يؤدِّي إلى تنقيصِ المفضَّل عليه وسقوطه، وربما أدَّى إلى الخصام بين السفهاء، وصارت عصبية وحميَّة جاهلية! والعلماء منزَّهون عن ذلك.

وقد وقع اختلاف في الفروع بين الصحابةِ رضي الله عنهم خيرِ الأمة، فما خاصم أحد منهم أحداً، ولا عادى أحدٌ أحداً، ولا نَسَب أحد أحداً إلى خطأ ولا قصور..، وورد أن اختلاف هذه الأمة رحمةٌ من الله لها، وكان اختلاف الأمم السابقة عذاباً وهلاكاً. هذا أو معناه، ولا يحضُرني الآن لفظ الحديث.

فعُرف بذلك أن اختلافَ المذاهب في هذه الملَّة، خَصِيصةٌ فاضلة لهذه الأمة، وتوسيعٌ في هذه الشريعة السمحة السهلة، فكانت الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُبعث أحدهم بشرع واحد وحكم واحد، حتى إن من ضيقِ شريعتهم: لم يكن فيها تخيير في كثير من الفروع التي شُرع فيها التخيير، وتحتُّم الدِّيَة في شريعة النصارى، ومن ضيقها أيضاً: لم يجتمع فيها الناسخ والمنسوخ، كما وقع في شريعتنا، ولذا أنكر اليهود النسخ، واستعظموا نسخ القبلة...».

وقال الإمام الحجَّة القاضي يحيى بن سعيد الأنصاري أحدُ التابعين الأجلاء: «ما بَرِحَ أولو الفتوى يُفتون، فَيُحِلُّ هذا ويحرِّم هذا، فلا يرى المحرِّم أن المُحِلَّ هلك لتحليله، ولا يرى المحلُّ أن المحرِّم هلك لتحريمه»(2).

ورواه عنه من طريق أخرى الذهبيُّ(3) بلفظ: «أهلُ العلم أهلُ توسِعة، وما بَرِح المفتون يختلِفون، فيحلِّلُ هذا ويحرِّم هذا، فلا يعيبُ هذا على هذا، ولا هذا على هذا».

بل أبلغُ من هذا، أن بعضَ سادات السلف وثقاتِهم وعُبَّادِهم أراد أن يُلْغي كلمة الاختلاف من (قاموس) الناس وتخاطُبهم بها، ففي ترجمة طلحة ابن مُصَرِّف رحمه الله(4) قال تلميذه موسى الجُهَني: «كان طلحة إذا ذُكِر عنده الاختلاف قال: لا تقولوا: الاختلاف، ولكن قولوا: السَّعَة».

وقال أبو إسحاق السَّبيعي أحد أجلاء التابعين وحفاظهم: «كانوا يرون السَّعَة عوناً على الدين»(5).

وفي «مجموع الفتاوى»(6): «صنف رجل كتاباً في الاختلاف فقال أحمد: لا تُسَمِّه كتاب الاختلاف، ولكن سَمِّهِ كتاب السَّعَة»(7) فالاختلاف كلمة تُوهم الشِّقاق والفُرْقة، والسَّعةُ صريحة في الرُّخصة والارتياح واليُسْر.

وهذا تنبيه لطيف منهما رحمهما الله تعالى، ليصحِّحا أو لينبِّها السامعَ إلى الفائدة من هذا الاختلاف قبل أن يقع في الخطأ، بأن يَظُنَّ أن هذا الاختلاف المشروع المحمود من قَبيل ذاك الاختلاف المذموم: الاختلاف في الأصول.

وقد كانوا يحبُّون السَّعة في التشريع، لأنهم أدركوا أن السعة مع اليسر، وأن اليسرَ مقصِد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية.

والتوسِعةُ والتيسير مقترِنان بالرحمة، فلهذا جاء قول القاسم بن محمد في بعض رواياته معبِّراً فيه بالرحمة.

ففي «الحلية»(8)، و«المَدْخَل إلى السنن الكبرى» للبيهقي(9) عن القاسم ابن محمد أنه قال: «كان اختلاف أصحاب محمد ‘ رحمة لهؤلاء الناس».

وإقرار (فكرة التوسعة) من قِبَل الأئمة سلفاً وخلفاً أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان ولا نقل، فلسانُ حالهم أصرح من مقالهم. لكني أخصُّ بالذكر والنقل إمامين مجتهدين، كان لهما أثر عام على أمة الإسلام، وَقَفا موقفاً حميداً إزاء (تيار توحيد المذاهب وحمل الناس على اجتهادٍ واحدٍ أو اجتهادِ واحدٍ).

أما الإمام الأول: فهو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. ففي «سنن الدارمي»(10) أن حميداً الطويل قال لعمر بن عبد العزيز: «لو جمعتَ الناس على شيء! فقال: ما يسرُّني أنهم لم يختلفوا. قال: ثم كتب إلى الآفاق ـ أو إلى الأمصار ـ: ليقضِ كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم».

وروى أبو زرعة الدمشقي رحمه الله(11) عن سليمان بن حبيب المحاربي التابعي الثقة القاضي بدمشق أنه قال: «أراد عمر بن عبد العزيز أن يجعلَ أحكامَ الناس والأجناد حكماً واحداً، ثم قال: إنه قد كان في كل مصرٍ من أمصار المسلمين وجندٍ من أجناده ناسٌ من أصحاب رسول الله ‘، وكانت فيهم قُضاةٌ قَضَوا بأقضيةٍ أجازَها أصحاب رسول الله ‘ ورَضُوا بها، وأمضاها أهل المصر، كالصلح بينهم، فهم على ما كانوا عليه من ذلك». فترك عمر ما كان أراده، وكان حريصاً جداً على أن لا يغيِّر من واقع الأمة شيئاً مألوفاً عندهم، مادام على وجهة شرعية(12).

وأما الموقف الثاني: فهو موقف الإمام مالك من مثيل هذه الفكرة والخاطرة، لما عُرِض عليه حَمل الناس على «موطئه». وتعددت الروايات فيمن عَرَض عليه هذا الأمر، وفي أجوبته لهم، ولكنها كلَّها تدور حول محور واحد: رَفْضه حملَ الناس على مذهب واحد، حباً في التوسعة عليهم.

فانظر وتأملْ هذا الواقع المبارك الهادئ، وانظر وتأمل ما نحن فيه من واقع يَعَجُّ عَجّاً بالفوضى المؤلمة! وتذكر صنيع من يدّعي الانتساب إلى هذا السلف الصالح حينما قاموا بطباعة ترجمة الإِمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه من «تاريخ بغداد»، تلك الترجمة الظالمة المظلمة، وفي حينها طبعوا أيضاً فصلاً وحيداً من «مصنف ابن أبي شيبة» ذلك الديوانِ العظيمِ لفقه السلف، تخيّروا منه الفصل الذي ذكر فيه 125 مسألة خالف فيها ـ في رأيه واجتهاده ـ الإِمامُ أبو حنيفة السنةَ، وعَنْوَنه بـ: كتاب الردّ على أبي حنيفة(13).

طبعوا هذه الترجمة وهذا الفصل ونشروهما بلا ثمن في بلاد الهند ـ’على طولها وعرضها ـ يوم كانت الهند لا تعرف إلا الدَّيْنُونةَ لله تعالى بمذهب الإِمام أبي حنيفة!!.

وبعد هذا أعود إلى ما كنت فيه، فأقول: إن إقرار الأئمة لمخالفة غيرهم لهم في اجتهاداتهم كما رأيناه عند الإِمام مالك: أمر مستفيض عنهم، وهذا قولُ إمامٍ مجتهدٍ آخر يزيد هذا المعنى تأكيداً.

ففي «آداب الفقيه والمتفقه»(14) للخطيب، عن الإمام سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال: «إذا رأيتَ الرجلَ يعمل العمل الذي قد اختُلِف فيه وأنت ترى غيره: فلا تَنْهَهُ».

وقال أبو داود: «سمعت أحمد وسئل عن الركعتين قبل المغرب؟ قال: أنا لا أفعله، فإن فعله فلا بأس به. قال أبو داود: وقد سمعته قبل ذلك بزمان يستحسنه ويراه»(15).

وقريبٌ منه قولُ إمامٍ مجتهدٍ آخر، هو قول الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، الذي رواه الخطيب(16): «قولُنا هذا رأيٌ، وهو أحسنُ ما قَدَرنا عليه، فمن جاءنا بأحسنَ من قولنا، فهو أولى بالصواب منا». بل في «الانتقاء»(17) من قوله رضي الله عنه: «هذا الذي نحن فيه رأي لا نجبر أحداً عليه، ولا نقول: يجب على أحد قبوله بكراهية، فمن كان عنده شيء أحسنُ منه فليأتِ به».

ومثلُه قول إمام مجتهد آخر، هو الإمام أحمد رضي الله عنه، ففي «سِيَر أعلام النبلاء»(18): «قال أحمد: لم يعبُر الجسرَ إلى خراسان مثلُ إسحاق، وإن كان يخالفُنا في أشياءَ، فإن الناس لم يَزَلْ يخالفُ بعضهم بعضاً».

وما أجلَّ كلمةَ ابن المبارك ـ وهو من أئمة الاجتهاد ـ: «إني لأسمع الحديث فأكتبه، وما من رأيي أن أعمل به، ولا أن أحدث به، ولكنْ أتخذه عدَّة لبعض أصحابي إن عمل به أقول: عمل بالحديث»(19) فإنها تحمل المعنى الذي نحن فيه، وتزيد على ما تقدم أنها منبثقة عن كرم نفس وطيب عنصر مع أصحابه، رضي الله عنه وأرضاه.

وقال في «التمهيد»(20): «قال الأوزاعي في الذي يقبِّل امرأته: إنْ جاء يسألني قلت: يتوضأ، وإنْ لم يتوضأ لم أَعِبْ عليه!». والأوزاعي من الأئمة المجتهدين.

وفي «التمهيد» أيضاً(21) عن الأثرم قال: «سمعت أبا عبد الله ـ يعني أحمد ابن حنبل ـ يقول فيمن تأوّل: إنه لا بأس أن يصلَّى خلفه إذا كان لتأويله وجه في السنة».

وقد جاء على هذا المسلك أَتباعهم، وشرحُ حالهم يطول، وأَجِدُني في غُنْية عن شرحه والإفاضة فيه.

انتهى كلام شيخنا حفظه الله ورعاه، ملخصا: (ص: 30ـ51).

(1) قف وتأمل وقلْ: ما أشبه اليوم بالأمس! بل لقد صار منطقُ بعض جهال ذلك العصر منطقَ من يوصف في أيامنا بالعلم، بل بالإِمامة والاجتهاد، واتُّخِذ قدوة من أمثاله!

(2) «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر 2: 80.

(3) «التذكرة» 1: 139.

(4) من «حلية الأولياء» 5: 119.

(5) «الجعديات» لأبي القاسم البغوي 1: 366.

(6) 30: 79 لابن تيمية رحمه الله تعالى، ومثله في «المسوَّدة» له ص 401.

(7) في المصدر المنقول عنه: كتاب السنة، وهو تحريف مطبعي، فليصحح، وقد جاء على الصواب في «المسودة».

(8) 7: 119.

(9) عزاه إليه السخاوي في «المقاصد الحسنة» ص27 (39) وغيره.

(10) باب اختلاف الفقهاء 1: 151.

(11) من «تاريخ أبي زرعة الدمشقي» 1: 202.

(12) جاء في كتاب الليث بن سعد إلى مالك رضي الله عنهما ـ وهو كتاب مشهور’ـ ما نصه: «ومن ذلك: القضاء بشهادة شاهدٍ ويمينِ صاحب الحق، وقد عرفتَ ـ الخطاب لمالك ـ أنه لم يَزَل يُقْضَى بالمدينة به، ولم يَقْضِ به أصحاب رسول الله ‘ بالشام، ولا بحمص، ولا بمصر، ولا بالعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.

ثم وَلِيَ عمر بن عبد العزيز ـ وكان كما قد علمتَ في إحياء السُّنَن والجِدِّ في إقامة الدين والإِصابة في الرأي، والعلم بما مضى من أمر الناس ـ فكتب إليه رُزَيقُ بن حُكَيم: إنك كنتَ تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر ابن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين، أو رجلٍ وامرأتين». انظر هذا في «إعلام الموقعين» 3: 97 لابن القيم رحمه الله تعالى. وانظر كلام ابن عبد البر في «التمهيد» 1: 10 في سبب اختياره لرواية يحيى الليثي ليشرحها دون غيرها من الروايات.

(13) وانظر لزاماً المقدمة التي كتبتها للمجلد العشرين من «مصنف» ابن أبي شيبة بتحقيقي، والحمد لله.

(14) 2: 69، وانظر توضيحه فيما يأتي صفحة 140 ـ 141.

(15) «مسائل الإمام أحمد» الفقهية لأبي داود ص72.

(16) «تاريخ بغداد» 13: 352.

(17) ص 140.

(18) 11: 371 ترجمة الإِمام إسحاق بن راهُويَه.

(19) «الكفاية» للخطيب ص 402، و«فضائل أبي حنيفة» لابن أبي العوام ص265.

(20) 21: 172، ونحوه في «الاستذكار» 1: 323، و3: 50 من طبعة الدكتور قلعجي.

(21) 11: 139.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين