رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأمّته وأهمّ مظاهرها (1)

لم يعرف التاريخ إنساناً نال مِن الحبّ والتقدير ما ناله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، وذلك لما رأوا منه من الأخلاق الكريمة، والخصال الاجتماعيّة المحبّبة، فقد كان صلى الله عليه وسلم رءوفاً رحيماً بهم، كما سمّاه الله في كتابه، يتعهّد شئونهم كلّها، ويتابع أحوالهم صغيرَها وكبيرها: فيعودُ مريضَهم، ويشيّع جنائزهم، ويزورهم في بيوتهم، ويؤانسهم، ويمازح أطفالهم، ويسأل عمّنْ غاب منهم، ويعين ضعيفهم، ويواسي فقيرهم، ويشاركهم في الأفراح والأحزان، ويرعى أراملهم وأيتامهم، ويؤثر مساكينهم بما يأتيه من الهدايا عَلَى نفسه وأهل بيته، ولا يدّخر عنهم شيئاً من برّه ومعروفه، ونصحه وتذكيره. وسيأتيك من أنباء ذلك في هَذَا الفصل ما يقنعك ويمتعك..

مثل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أمّته: وقد ضرب صلى الله عليه وسلم لنفسه مثلاً بليغاً دقيقاً، عن رحمته بأمّته وشفقته، وحرصه الشديد على إبعادها عن كلّ سوء، فعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَاراً، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا، جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ، وَيَغْلِبْنَهُ، فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، قَالَ: فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ: هَلُمَّ عَنْ النَّارِ، هَلُمَّ عَنْ النَّارِ، فَتَغْلِبُونِي، تَقَحَّمُونَ فِيهَا) [رواه البخاريّ في كتاب أحاديث الأنبياء برقم /3173/، ومسلم في كتاب الفضائل برقم /4235/].

ولقد كانت حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم صورة مثلى عن التوجيه القرآنيّ الكريم بقول الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ...}[الأحزاب:6].

وقد جاء في الحديث الصحيح ما يقرّر هذا المعنى ويؤكّده فقد روى البخاريّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلاّ وَأَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ...}[الأحزاب:6]، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا، فَلْيَأْتِنِي فَأَنَا مَوْلاهُ) [رواه البخاريّ في كتاب الاستقراض وأداء الديون برقم /2224/، وفي مواطن أخرى من الصحيح، ورواه مسلم والترمذيّ والنسائيّ وأبو داود وابن ماجة، وأحمد في المسند].

وهذه الولاية النبويّة للمُؤمِنِينَ والأولويّة بهم لم تكن قاصرة على جانب دون آخر، أو أمر دون أمر.. بل كانت شاملة عامّة، عبّر عنها القرآن الكريم: بأنّه صلى الله عليه وسلم أولى بِالمؤمنين من أنفُسِهِم، فليس صلى الله عليه وسلم أولى بهم من آبائهم وأمّهاتهم.. بل من أنفُسِهِم.. التي هي أقرب شيء إليهم..

وإذا كان أقرب شيء للإنسان نفسه، فقد نصّت هذه الآية الكريمة أنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أولى به من نفسه، لأَنَّه صلى الله عليه وسلم أرحم بالمؤمنين من أنفسهم، إذ كان سبب إنقاذهم من النار، وهدايتهم إلى صراط الله المستقيم، فمن ثمّ فقد وجب على العبد إذا تعارض مراده مع مراد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أن يقدّم مراده صلى الله عليه وسلم على حظّ نفسه ومرادها بلا تردّد، وألاّ يعارض قوله صلى الله عليه وسلم بقول أحدٍ من الناس كائناً من كان، وأن يقدّم محبّته صلى الله عليه وسلم على محبّة المال والأهل والولد، وعلى محبّة الناس كلّهم، وبذلك يكون المؤمن صادقاً في إيمانه، صادقاً في محبّته وولائه..

وإنّ الإسلام يعدّ المسؤوليّة الدعويّة والقياديّة مغرماً ثقيلاً، وعبئاً كبيراً، وليست مغنماً يتنافس فيه المتنافسون، ويتزاحم عليه الطامعون الطامحون، ومن ثمّ فلا يتقدّم إليها راغب، ولو تقدّم إليها لا يُعطاها.. وإنّما يرشّح لها الكفؤ، ويكلّف بها.. وعندما يكلّف بها يصبح لمن هم تحت ولايته بمثابة الوالد: مسؤولاً عن كبير أمورهم وصغيرها، وخاصّها وعامّها، ولا يعفيه أو يعذره غيبة شيء منها، إذ عليه أن يباشر الأمور بنفسه، ويرعاها بكفايته، ويسعه أن يتّخذ البطانة الصالحة، والأعوان الناصحين، ويشاور الأتقياء الصالحين، وعلى قدر ما يتحقّق بالصدق والإخلاص في عمله، وتخلص لله تعالى نيّتُه تأتيه المعونة والتوفيق مِن ربّه.

قصّة زواج رَبِيعَةَ بن كعب الأسلَمِيِّ رضي الله عنه: ومن المواقف التي تتجلّى فيها الرعاية النبويّة الكريمة بأبهى صورها، وأجمل مظاهرها، وتتجلّى ممارسة النبيّ صلى الله عليه وسلم للمسئوْليّة الاجتماعيّة عن أصحابه، وبرّه بهم، وإحسانه صلى الله عليه وسلم إليهم، ممّا يدعو الدعاة والقادة إلى التأسّي والاقتداء بنبيِّهم صلى الله عليه وسلم في تحمّل المسئوليّة ورعاية الأمّة.. ما روى الإمام أحمدُ في مسندِه عنْ رَبِيعَةَ بن كعب الأسلَمِيِّ رضي الله عنه قَالَ: " كُنتُ أَخدُمُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ؟ قَالَ: قُلتُ: وَالله يَا رَسُولَ الله مَا أُرِيدُ أَن أَتَزَوَّجَ، مَا عِندِي مَا يُقِيمُ المَرأَةَ، وَمَا أُحِبُّ أَن يَشغَلَنِي عَنكَ شَيءٌ، فَأَعرَضَ عَنِّي فَخَدَمتُهُ مَا خَدَمتُهُ، ثُمَّ قَالَ لِيَ الثَّانِيَةَ: يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ؟ فَقُلتُ: مَا أُرِيدُ أَن أَتَزَوَّجَ، مَا عِندِي مَا يُقِيمُ المَرأَةَ، وَمَا أُحِبُّ أَن يَشغَلَنِي عَنكَ شَيءٌ، فَأَعرَضَ عَنِّي، ثُمَّ رَجَعتُ إِلَى نَفسِي، فَقُلتُ: وَالله، لَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَا يُصلِحُنِي فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ أَعلَمُ مِنِّي، وَالله لَئِن قَالَ: تَزَوَّج لأقُولَنَّ: نَعَم يَا رَسُولَ الله، مُرنِي بِمَا شِئتَ، قَالَ: فَقَالَ: يَا رَبِيعَةُ أَلا تَزَوَّجُ ؟ فَقُلتُ: بَلَى، مُرنِي بِمَا شِئتَ، قَالَ: انطَلِق إِلَى آلِ فُلانٍ، حَيٍّ مِنَ الأنصَارِ، وَكَانَ فِيهِم تَرَاخٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقُل لَهُم: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَرسَلَنِي إِلَيكُم يَأمُرُكُم أَن تُزَوِّجُونِي فُلانَةَ لامرَأَةٍ مِنهُم، فَذَهَبتُ فَقُلتُ لَهُم: إِنَّ رَسُولَ الله أَرسَلَنِي إِلَيكُم، يَأمُرُكُم أَن تُزَوِّجُونِي فُلانَةَ، فَقَالُوا: مَرحَباً بِرَسُولِ الله، وَبِرَسُولِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وَالله لا يَرجِعُ رَسُولُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِلاّ بِحَاجَتِهِ، فَزَوَّجُونِي، وَأَلطَفُونِي، وَمَا سَأَلُونِي البَيِّنَةَ، فَرَجَعتُ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَزِيناً، فَقَالَ لِي: مَا لَكَ يَا رَبِيعَةُ ؟ فَقُلتُ: يَا رَسُولَ الله أَتَيتُ قَوماً كِرَاماً، فَزَوَّجُونِي وَأَكرَمُونِي وَأَلطَفُونِي، وَمَا سَأَلُونِي بَيِّنَةً، وَلَيسَ عِندِي صَدَاقٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: يَا بُرَيدَةُ الأسلَمِيُّ، اجمَعُوا لَهُ وَزنَ نَوَاةٍ مِن ذَهَبٍ، قَالَ: فَجَمَعُوا لِي وَزنَ نَوَاةٍ مِن ذَهَبٍ، فَأَخَذتُ مَا جَمَعُوا لِي فَأَتَيتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: اذهَب بِهَذَا إِلَيهِم فَقُل: هَذَا صَدَاقُهَا، فَأَتَيتُهُم، فَقُلتُ: هَذَا صَدَاقُهَا، فَرَضُوهُ، وَقَبِلُوهُ، وَقَالُوا كَثِيرٌ طَيِّبٌ، قَالَ ثُمَّ رَجَعتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَزِينًا، فَقَالَ: يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ حَزِينٌ ؟ فَقُلتُ: يَا رَسُولَ الله، مَا رَأَيتُ قَوماً أَكرَمَ مِنهُم، رَضُوا بِمَا آتَيتُهُم، وَأَحسَنُوا، وَقَالُوا كَثِيراً طَيِّباً، وَلَيسَ عِندِي مَا أُولِمُ، قَالَ: يَا بُرَيدَةُ، اجمَعُوا لَهُ شَاةً، قَالَ: فَجَمَعُوا لِي كَبشاً عَظِيماً سَمِيناًَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: اذهَب إِلَى عَائِشَةَ، فَقُل لَهَا: فَلتَبعَث بِالمِكتَلِ الَّذِي فِيهِ الطَّعَامُ، قَالَ: فَأَتَيتُهَا فَقُلتُ لَهَا مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَت: هَذَا المِكتَلُ، فِيهِ تِسعُ آصُعِ شَعِيرٍ، لا وَالله إِن أَصبَحَ لَنَا طَعَامٌ غَيرُهُ خُذهُ، فَأَخَذتُهُ فَأَتَيتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَخبَرتُهُ مَا قَالَت عَائِشَةُ، فَقَالَ: اذهَب بِهَذَا إِلَيهِم، فَقُل: لِيُصبِح هَذَا عِندَكُم خُبزاً، فَذَهَبتُ إِلَيهِم، وَذَهَبتُ بِالكَبشِ، وَمَعِي أُنَاسٌ مِن أَسلَمَ، فَقَالَ: لِيُصبِح هَذَا عِندَكُم خُبزًا، وَهَذَا طَبِيخاً، فَقَالُوا: أَمَّا الخُبزُ، فَسَنَكفِيكُمُوهُ، وَأَمَّا الكَبشُ فَاكفُونَا أَنتُم، فَأَخَذنَا الكَبشَ أَنَا، وَأُنَاسٌ مِن أَسلَمَ، فَذَبَحنَاهُ وَسَلَخنَاهُ، وَطَبَخنَاهُ، فَأَصبَحَ عِندَنَا خُبزٌ وَلَحمٌ، فَأَولَمتُ وَدَعَوتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم..

ثُمَّ قَالَ رَبِيعَةُ بنُ كعبٍ رضي الله عنه: إِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَعطَانِي أَرضاً وَأَعطَانِي أَبُو بَكرٍ رضي الله عنه أَرضاً، وَجَاءَتِ الدُّنيَا فَاختَلَفنَا فِي عِذقِ نَخلَةٍ، فَقُلتُ أَنَا: هِيَ فِي حَدِّي، وَقَالَ أَبُو بَكرٍ: هِيَ فِي حَدِّي، فَكَانَ بَينِي وَبَينَ أَبِي بَكرٍ كَلامٌ، فَقَالَ أَبُو بَكرٍ: كَلِمَةً كَرِهَهَا وَنَدِمَ، فَقَالَ لِي: يَا رَبِيعَةُ رُدَّ عَلَيَّ مِثلَهَا حَتَّى تَكُونَ قِصَاصاً، قَالَ: قُلتُ: لا أَفعَلُ فَقَالَ أَبُو بَكرٍ رضي الله عنه: لَتَقُولَنَّ أَو لأستَعدِيَنَّ عَلَيكَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقُلتُ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، قَالَ: وَرَفَضَ الأرضَ، وَانطَلَقَ أَبُو بَكرٍ رضي الله عنه إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَانطَلَقتُ أَتلُوهُ، فَجَاءَ نَاسٌ مِن أَسلَمَ، فَقَالُوا لِي: رَحِمَ الله أَبَا بَكرٍ، فِي أَيِّ شَيءٍ يَستَعدِي عَلَيكَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ قَالَ لَكَ مَا قَالَ ؟ فَقُلتُ: أَتَدرُونَ مَا هَذَا ؟ هَذَا أَبُو بَكرٍ الصِّدِّيقُ، هَذَا ثَانِيَ اثنَينِ، وَهَذَا ذُو شَيبَةِ المُسلِمِينَ، إِيَّاكُم لا يَلتَفِتُ فَيَرَاكُم، تَنصُرُونِي عَلَيهِ، فَيَغضَبَ فَيَأتِيَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَيَغضَبَ لِغَضَبِهِ، فَيَغضَبَ الله عَزَّ وَجَلَّ لِغَضَبِهِمَا، فَيُهلِكَ رَبِيعَةَ، قَالُوا: مَا تَأمُرُنَا ؟ قَالَ: ارجِعُوا.

قَالَ: فَانطَلَقَ أَبُو بَكرٍ رضي الله عنه إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَتَبِعتُهُ وَحدِي، حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثَهُ الحَدِيثَ كَمَا كَانَ، فَرَفَعَ إِلَيَّ رَأسَهُ فَقَالَ: يَا رَبِيعَةُ مَا لَكَ وَلِلصِّدِّيقِ ؟ قُلتُ: يَا رَسُولَ الله كَانَ كَذَا، كَانَ كَذَا، قَالَ لِي: كَلِمَةً كَرِهَهَا، فَقَالَ لِي: قُل كَمَا قُلتُ، حَتَّى يَكُونَ قِصَاصًا، فَأَبَيتُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (أَجَل ! فَلا تَرُدَّ عَلَيهِ، وَلَكِن قُل: غَفَرَ الله لَكَ يَا أَبَا بَكرٍ) فَقُلتُ: غَفَرَ الله لَكَ يَا أَبَا بَكرٍ، قَالَ الحَسَنُ: فَوَلَّى أَبُو بَكرٍ رضي الله عنه وَهُوَ يَبكِي) [رواه الإمام أحمد في المسند /15982/].

فما أعظم العبر في هذه القصّة والدروس.؟! وأجلاها: تلك الرعاية النبويّة الحانية الودود، للصحب الكرام، الذين كان صلى الله عليه وسلم لا يغفل فيها عن كبيرهم ولا صغيرهم، ولا سيّدهم ولا مسودهم.. يعطي كلّ ذي حقّ حقّه، بل ينال كلّ واحد منهم من تكرمته ورعايته فوق ما يطمح إليه ويتمنّاه..

وكانَ صلى الله عليه وسلم يَتعرّفُ على دَخائِلِ حياةِ أصحابِه رضي الله عنهم، ليُعينَهم على شُئُونِ حَياتِهم، ويُخفّفَ عنهم مَا يُواجِهُون مِن شَدائدَ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ فَأَبْطَأَ بِي جَمَلِي وَأَعْيَا، فَأَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: جَابِرٌ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: مَا شَأْنُكَ ؟ قُلْتُ: أَبْطَأَ عَلَيَّ جَمَلِي وَأَعْيَا فَتَخَلَّفْتُ، فَنَزَلَ يَحْجُنُهُ بِمِحْجَنِهِ، ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ، فَرَكِبْتُ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَكُفُّهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَزَوَّجْتَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِكْراً أَمْ ثَيِّباً ؟ قُلْتُ: بَلْ ثَيِّباً، قَالَ: أَفَلا جَارِيَةً تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ ؟ قُلْتُ: إِنَّ لِي أَخَوَاتٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تَجْمَعُهُنَّ وَتَمْشُطُهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ، قَالَ: أَمَّا إِنَّكَ قَادِمٌ، فَإِذَا قَدِمْتَ فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ، ثُمَّ قَالَ: أَتَبِيعُ جَمَلَكَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَاشْتَرَاهُ مِنِّي بِأُوقِيَّةٍ، ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلِي، وَقَدِمْتُ بِالْغَدَاةِ فَجِئْنَا إِلَى المَسْجِدِ، فَوَجَدْتُهُ عَلَى بَابِ المَسْجِدِ، قَالَ: أَالآنَ قَدِمْتَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَعْ جَمَلَكَ، فَادْخُلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَدَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ، فَأَمَرَ بِلالاً أَنْ يَزِنَ لَهُ أُوقِيَّةً، فَوَزَنَ لِي بِلالٌ، فَأَرْجَحَ لِي فِي المِيزَانِ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى وَلَّيْتُ، فَقَالَ: ادْعُ لِي جَابِراً، قُلْتُ: الآنَ يَرُدُّ عَلَيَّ الجَمَلَ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ، قَالَ: خُذْ جَمَلَكَ، وَلَكَ ثَمَنُهُ) [رواه البخاريّ في كتاب البيوع برقم /1955/].

وفي رواية عَنْه رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، مُرْتَحِلاً عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَتْ الرِّفَاقُ تَمْضِي، وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ، حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا لَكَ يَا جَابِرُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا، قَالَ: فَأَنِخْهُ، وَأَنَاخَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: أَعْطِنِي هَذِهِ الْعَصَا مِنْ يَدِكَ، أَوْ قَالَ: اقْطَعْ لِي عَصاً مِنْ شَجَرَةٍ، قَالَ: فَفَعَلْتُ، قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَخَسَهُ بِهَا نَخَسَاتٍ، ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ، فَرَكِبْتُ، فَخَرَجَ وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ يُوَاهِقُ نَاقَتَهُ مُوَاهَقَةً، قَالَ: وَتَحَدَّثَ مَعِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَتَبِيعُنِي جَمَلَكَ هَذَا يَا جَابِرُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بَلْ أَهَبُهُ لَكَ، قَالَ: لا، وَلَكِنْ بِعْنِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: فَسُمْنِي بِهِ، قَالَ: قَدْ قُلْتُ، أَخَذْتُهُ بِدِرْهَمٍ، قَالَ: قُلْتُ: لا، إِذاً يَغْبِنُنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَبِدِرْهَمَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: لا، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَرْفَعُ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ الأُوقِيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ: فَقَدْ رَضِيتُ، قَالَ: قَدْ رَضِيتَ، قُلْتُ: نَعَمْ، قُلْتُ: هُوَ لَكَ، قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي: يَا جَابِرُ هَلْ تَزَوَّجْتَ بَعْدُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَثَيِّباً أَمْ بِكْراً ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ثَيِّباً قَالَ: أَفَلا جَارِيَةً تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ أَبِي أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ بَنَاتٍ لَهُ سَبْعاً، فَنَكَحْتُ امْرَأَةً جَامِعَةً، تَجْمَعُ رُءُوسَهُنَّ، وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ، قَالَ: أَصَبْتَ إِنْ شَاءَ اللهُ، قَالَ: أَمَا إِنَّا لَوْ قَدْ جِئْنَا صِرَاراً أَمَرْنَا بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَسَمِعَتْ بِنَا فَنَفَضَتْ نَمَارِقَهَا، قَالَ: قُلْتُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَنَا مِنْ نَمَارِقَ، قَالَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ، فَإِذَا أَنْتَ قَدِمْتَ فَاعْمَلْ عَمَلاً كَيِّسًا، قَالَ: فَلَمَّا جِئْنَا صِرَاراً أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِجَزُورٍ فَنُحِرَتْ، فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَمَّا أَمْسَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ وَدَخَلْنَا، قَالَ: فَأَخْبَرْتُ المَرْأَةَ الحَدِيثَ، وَمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: فَدُونَكَ فَسَمْعاً وَطَاعَةً، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَخَذْتُ بِرَأْسِ الجَمَلِ، فَأَقْبَلْتُ بِهِ حَتَّى أَنَخْتُهُ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ جَلَسْتُ فِي المَسْجِدِ قَرِيباً مِنْهُ، قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى الجَمَلَ فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا جَمَلٌ جَاءَ بِهِ جَابِرٌ، قَالَ: فَأَيْنَ جَابِرٌ ؟ فَدُعِيتُ لَهُ، قَالَ: تَعَالَ أَيْ يَا ابْنَ أَخِي خُذْ بِرَأْسِ جَمَلِكَ فَهُوَ لَكَ، قَالَ: فَدَعَا بِلالاً فَقَالَ: اذْهَبْ بِجَابِرٍ فَأَعْطِهِ أُوقِيَّةً، فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَأَعْطَانِي أُوقِيَّةً، وَزَادَنِي شَيْئًا يَسِيرًا، قَالَ: فَوَاللهِ مَازَالَ يَنْمِي عِنْدَنَا، وَنَرَى مَكَانَهُ مِنْ بَيْتِنَا، حَتَّى أُصِيبَ أَمْسِ فِيمَا أُصِيبَ النَّاسُ، يَعْنِي يَوْمَ الحَرَّةِ) [رواه أحمد في المسند برقم /14495/].

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه وبرّه بهم: إقباله على كلّ واحد من جلسائه، وحرصه على راحتهم، واهتمامه بما يقلقهم:

عَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: " مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلا رَآنِي إِلاّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي ". وَزَادَ فِي رِواية: " وَلَقَدْ شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي لا أَثْبُتُ عَلَى الخَيْلِ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، وَاجْعَلْهُ هَادِياً مَهْدِيّاً) [رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة برقم /4523/].

ومن مظاهر رحمة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه: بُكَاؤُه لشَكْوَى سَعْد بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه: جاء في الحديث الصحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ ابْنُ عُبَادَةَ رضي الله عنه شَكْوَى لَهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي غَاشِيَةِ أَهْلِهِ، فَقَالَ: قَدْ قَضَى ؟ قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللهِ، فَبَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فَقَالَ: أَلا تَسْمَعُونَ ؟ إِنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ، وَإِنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) [رواه البخاريّ في كتاب الجنائز برقم/1221/].

مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعاً لَهُ فِي عَوَالِي المَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ، وَنَحْنُ مَعَهُ، فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ، وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْناً، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ، قَالَ عَمْرٌو: فَلَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِي، وَإِنَّهُ مَاتَ فِي الثَّدْيِ، وَإِنَّ لَهُ لَظِئْرَيْنِ تُكَمِّلانِ رَضَاعَهُ فِي الجَنَّةِ) [رواه مسلم في كتاب الفضائل برقم/4280/]، وفي رواية في غير الصحيح: " وَيَشَمُّهُ ".

ومن مظاهر رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم: حبّه صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمّته:

وما أكثر ما نتحدّث عن وجوب محبّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونذكر مظاهرها وثمراتها، ونماذج من محبّة الصحب الكرام للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وكيف فدوه في الشدائد مواطن البأس بأورواحهم ومهجهم، وكلّ غالٍ ونفيس، ولكنّنا نغفل عن أنّ هذه المحبّة لها أسبابها من جانب شخصيّة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، وأخلاقه الكريمة وشمائله، وسببها الأوّل ما رآه الصحابة رضي الله عنهم في النبيّ صلى الله عليه وسلم من خصال الكمال والجمال، وما قدّم لهم صلوات الله وسلامه عليه من حبّ وإحسان، هو أعظم إحسان بعد إحسان الله تبارك وتعالى، وقد سبقت محبّتُه صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمّته محبّتهم إيّاه، فلا عجب بعد ذلك أن انجذبت قلوبهم إليه، وفدوه بأنفسهم وآبائهم وأمّهاتهم، وهفت أرواحهم للقياه ومجالسته، كما تهفو صغار الطير إلى أمّهاتها.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى المَقْبُرَةَ فَقَالَ: (السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا، قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، فَقَالُوا كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ، بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلا يَعْرِفُ خَيْلَهُ ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الحَوْضِ، أَلا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقاً، سُحْقاً) [رواه مسلم في كتاب الطهارة برقم /367/].

وعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيّاً رضي الله عنه يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالمِقْدَادَ فَقَالَ: (انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوا مِنْهَا)، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ قُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنْ المُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا حَاطِبُ مَا هَذَا ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ، يَقُولُ: كُنْتُ حَلِيفاً، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ المُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ، يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً، يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَاداً عَنْ دِينِي، وَلا رِضاً بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، فَقَالَ: (إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْراً، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)، فَأَنْزَلَ اللهُ السُّورَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ... إلى قوله: وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل}[الممتحنة:1] [رواه البخاريّ في كتاب المغازي برقم /3939/، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة برقم /4550/].

ومن محبّته صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمّته دلالتهم على الخير وتبشيرهم بالجنّة:

عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا جُلُوساً مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ المَرَّةِ الأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضاً، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاثاً فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلاةِ الْفَجْرِ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلاّ خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلاثُ لَيَالٍ، وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَكَ ثَلاثَ مِرَارٍ: (يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ)، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ، لأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا هُوَ إِلاّ مَا رَأَيْتَ قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: مَا هُوَ إِلاّ مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لا أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنْ المُسْلِمِينَ غِشًّا وَلا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لا نُطِيقُ " [رواه أحمد في المسند برقم /12236/ وقال الهيثميّ 8/79/ رجال أحمد رجال الصحيح].

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه وأمّته نهيه عن تمنّي الموت، أو الدعاء بنزول البلاء:

عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّياً لِلمَوْتِ فَلْيَقُلْ: (اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الحَيَاةُ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْراً لِي) [رواه البخاريّ في كتاب الدعوات برقم /5874/، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار برقم /4840/].

وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ رَجُلاً مِنْ المُسْلِمِينَ، قَدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ، أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (سُبْحَانَ اللهِ ! لا تُطِيقُهُ، أَوْ لا تَسْتَطِيعُهُ، أَفَلا قُلْتَ: (اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُ فَشَفَاهُ " [رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار برقم /4853/].

إنّه صلى الله عليه وسلم الرحمة الإلهيّة العامّة المهداة، معلّم الناس الخير، مربّي النفوس على الثقة بالله، وحسن الظنّ به، والإيجابيّة في المواقف، والتفاؤل في الحياة..

وَمن رحمته صلى الله عليه وسلم أنّه كَانَ لا يواجِه أحداً بما يَكْره:

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ)، فَلَمَّا دَخَلَ هَشَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نِعْمَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ لَمْ يَنْبَسِطْ إِلَيْهِ كَمَا انْبَسَطَ إِلَى الآخَرِ وَلَمْ يَهَشَّ لَهُ كَمَا هَشَّ فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَأْذَنَ فُلانٌ فَقُلْتَ لَهُ مَا قُلْتَ ثُمَّ هَشَشْتَ لَهُ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ وَقُلْتَ لِفُلانٍ مَا قُلْتَ وَلَمْ أَرَكَ صَنَعْتَ بِهِ مَا صَنَعْتَ للآخَرِ فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ اتُّقِيَ لِفُحْشِهِ) [رواه أحمد في المسند برقم /2409/].

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين