كليمات عن صحيح البخاري وأول حديث في صحيحه وآخر حديث

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُ اللهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}.

حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ: أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».

الحديث عن هذا الحديث الشريف طويلٌ وله وجوهُ كثيرةٌ جدًا، ولكن أقتصر على كُليماتٍ.

إنَّ العلماءَ رضي الله عنهم اعتنوا بخدمة هذا الكتاب ـ الحجة لكل مسلم ـ من وجوهٍ كثيرةٍ، وما تركوا مجالًا من المجالات إلا ودرسوه وخدموه وأوضحوه إلى حدِّ لا يتصور.

من جملة ذلك: أنهم لاحظوا أدب الإمام البخاري رضي الله عنه مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: «قدِّموا قريشًا ولا تَقَدَّموها»(1) وبناءً على ذلك فإن من أدب الإمام البخاري رضي الله عنه مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصًا منه على تطبيقها وعملًا بهذا الحديث، ابتدأ كتابه هذا بأول حديثٍ، وبأول شيخٍ فيه، عن إمامٍ قُرشيٍّ، فقوله: حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير، الحميدي هذا إمام من أئمة الحديث ـ وهو قرشيّ ـ، وليس هو راويًا عاديًا، فله كتاب مطبوع متداول اسمه: «مسند الحميدي».

ثم إنَّ هذا الحديثَ الشريفَ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»: واحدٌ من أربعة أحاديث ـ أو واحدٌ من ثلاثة أحاديث ـ: عليها مدار الإسلام، فابتدأ به رضي الله عنه لأهميته في الدين، ثم إن هذا الكتاب: جامع للسنة النبوية الصحيحة، ولذلك ابتدأه به، ولأنه لا بدَّ من نية صالحة يراقب الله تعالى فيها في مثل هذا العمل الإسلامي الضخم الذي يخدم الإسلام كله.

وفيه مناسبة ثالثة أذكرها بعد أن أذكر الحديث الأخير من هذا «الجامع الصحيح»: قال الإمام البخاري رضي الله عنه في آخر «صحيحه»:

بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ يُوزَنُ.

قَاَلَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِشْكَابَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ».

هذا آخر حديث في البخاري، وفيه نكتةٌ إسناديةٌ غريبةٌ نادرة تتفق مع أول حديثٍ فيه.

أول حديثٍ فيه: الصحابي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعنه علقمة بن وقاص، وعنه محمد ابن إبراهيم التيمي، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري، قال العلماء: «أربعة رجال، في هذا الحديث الواحد، كلهم فردٌ عن فرد» أي: هذا الحديث رواه من الصحابة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يصح عن غيره، ورواه عن عمر: علقمة بن وقاص، ولم يصح من طريق راوٍ آخر عنه ـ واحدٌ عن واحد ـ، والثالث محمد بن إبراهيم التيمي، لم يروه عن علقمة بسند صحيح إلا التيمي، الرابع: لم يروه بسنده صحيح عن التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال العلماء: «وعن يحيى بن سعيد الأنصاري كَثُرَ الرواة جدًا» حتى إن بعض العلماء قال: «رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري أكثر من سبع مئة رجل» في حين أن طبقاته الأربعة الأولى: واحد، عن واحد، من واحد، من واحد.

ومن الغرائب: أن آخر حديث أيضا تفرد به أربع طبقات: واحد، عن واحد عن واحد، عن واحد، لم يصح من طريق آخر، فالصحابي في هذا الحديث الآخر هو سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه، وعنه أبو زرعة بن جرير البجلي رضي الله عنه، وعنه عمارة بن القعقاع، وعنه محمد بن فضيل: أربعةٌ: واحدٌ، عن واحد، بسند صحيح، ولم يصح عن راوٍ آخر.

هذا الاتفاق الغريب العجيب: إنْ كان تسديدًا من الله سبحانه وتعالى ليُوجد هذه الغرائب في هذا الكتاب: فهو أمرٌ عجيبٌ يدعو إلى التفكر بمعونة الله تعالى للإمام البخاري حتى أتى بهذه العجائب، وإن كان عن قصدٍ من الإمام البخاري: فهو أمرٌ عجيبٌ أيضًا: أن ينتبه لمثل هذه الدقائق: أن يكون أول حديثٍ وآخر حديثٍ متشابهيْنِ في نكتةٍ إسنادية، فهو مجمع الغرائب العلمية والطرائف والنكت، وليس بغريبٍ هذا على الإمام البخاري.

هذه الإشارة الخفيفة اللطيفة التي ذكرتها عن توفيق الله تعالى للإمام البخاري في كتابه لا ريب أن لها مقدمات:

من مقدماتها: السيرة العجيبة للإمام البخاري رضي الله عنه في تقواه وصلاحه ومحاسبته لنفسه، ومحاسبته لغيره على دقائق الأمور، وأيضًا المنشأ الصالح الذي نشأ عليه الإمام البخاري في بيت أبويه، ثم فضل الله عز وجل وهياته العظيمة له، حتى صار فيما بعدُ حجةً للإسلام والمسلمين.

الإمام البخاري ـ كما هو معلوم ـ اسمه محمد بن إسماعيل، والده إسماعيل رحمه الله قال عن نفسه: «إنه ما دخل عليه درهم من حرام ولا من شبهة» وهذا يكفي لتنشئة مثل هذا الغلام على مثل هذه المواهب الإلهية.

أما والدته: فيبدو من هذا الخبر الواحد ـ الذي نُقل عنها ـ أنها كانت امرأة صالحة، والخبر هو: أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى وُلد بصيرًا، ثم عرض له المرض، فكُفَّ بصره، فكانت أمه رحمها الله وجزاها خيرًا: تدعو له كثيرًا، وتبكي، فرأت في منامها سيدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام يقول لها: «لقد رد الله على ولدك بصره بكثرة دعائك» فاستيقظت فرأت ولدها بصيرًا صحيحًا، والحمد لله، ورضي الله عنه.

ظهرت علائم النجابة الخارقة على هذا الطفل وهو ابن عشر سنين في الكتّاب، وذلك عندما روى شيخه حديثًا أخطأ في إسناده حيث قال: «حدثنا أبو الزبير، عن إبراهيم»، فقال له هذا الغلام ـ وعمره عشر سنوات ـ: «ليس كذلك، أبو الزبير لا يروي عن إبراهيم»، فكان بموقف فيه شدة من الشيخ على هذا الطفل، ولكنه أراد أن يتثبت، لأن هذا الطفل قال له: «ارجع إلى كتابك»، فدخل الشيخ ورجع إلى كتابه، فرأى الأمر صحيحًا، رأى: الزبير، عن إبراهيم، لا أبو الزبير، فخرج الشيخ من بيته ورجع وقال له: كيف يا غلام؟ قال كذا وكذا، قال: صدقت.

وفي السنة الحاديةَ عشْرة ظهرت منه مواقف أخرى، ولما بلغ السادسة عشرة من العمر قال هو عن نفسه: «إنني قرأت فقه أهل الرأي، قرأت كتب الإمام وكيع بن الجراح وابن المبارك ـ لهما مصنف يجمع ا الأحاديث الشريفة وفقه السلف من الصحابة والتابعين واتباعهم ـ». ولما بلغ الثامنة عشرة من العمر من العمر ألَّف كتابًا كهذه الكتب، وسماه «قضايا الصحابة والتابعين».

ثم بعد ذلك توجه الإمام البخاري رضي الله عنه إلى تأليف كتابه «الجامع الصحيح»، وكانت بداية عمله فيه أنه كان يكتب تراجم الأبواب، أعني: لمّا يقول الإمام البخاري مثلًا: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}: هذا التبويب وأبواب الجامع والتراجم كلها: كتبها ثلاث مرات، وقد تخيَّر لكتابتها أطهر البقاع، ألا وهي الروضة النبوية الشريفة، بين المنبر والقبر الشريفين، بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا سبب من أسباب توفيق الله تعالى العظيم، لهذا الإمام العظيم، في هذا الكتاب العظيم.

أضيف إلى هذه الملاحظة ملاحظةً: لنتصورْ القلب الطاهر، المستحضر لبركة النبي صلى الله عليه وسلم، والمستوحي من الله التوفيقَ والإلهام الصحيح، والعمل المبارك في هذا المكان المبارك: كيف يستحضر روحانية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يختار الصحيح من حديثه الشريف، وذلك حتى يكون له توفيق الله تعالى في هذا العمل المبارك. الأمر أكبر من ذلك!

انتهى كلام شيخنا حفظه الله بتصرف يسير، من كتاب: «كلمات عن منهج الإمام البخاري رضي الله عنه في صحيحه البخاري رواية ودراية» ص" 64ـ68.

(1) ينظر تخريج الحديث في تحقيق شيخنا لمصنف ابن أبي شيبة، 17: 283، ح: 33053.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين