مدخَل إِلى فنِّ الاختِلاف: مَجالاتُهُ وَأَحْكامُه

قال شيخنا العلامة المحقق المحدث محمد عوامة حفظه الله ورعاه

في كتابه النافع الماتع "أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين":

يمكن حصر أقسام الحديث في ثلاثة جوانب(1):

1ـ الأول: الاختلاف في الأديان: الإسلام، اليهودية، النصرانية..، وكذا التديُّن بعدم الدين، كالإباحية.

2ـ الثاني: الاختلاف في أمور العقائد، كالقَدَرية والجبرية، والجهمية والخوارج..، ما لم يجعله اختلافه داخلاً تحت القسم الأول.

3ـ الثالث: الاختلاف في الفروع الفقهية، كالمذاهب الفقهية الأربعة، وغيرها مما انقرض.

فالأقسام ثلاثة: أديان، وفِرَق، ومذاهب فقهية.

ويمكن تسمية الجانب الثاني والثالث بعبارة أخرى أدقَّ: الاختلافُ في أصول الإسلام ـ ما لم يخْرِج عن الملَّة ـ، والاختلافُ في فروعه.

ذلك أن الأمور الغيبية ـ مثلاً ـ بعضُها من أصول الإسلام التي لا يجوز الخلاف فيها، كالإيمان بالملائكة واليوم الآخر..، وبعضها من جزئيات المغيَّبات، كرؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل ليلة المعراج، فهذه مما جرى فيها الاختلاف، فأثبتَها ابن عباس، وأنكرتها السيدة عائشة رضي الله عنهم. وهذا معروف عنهما.

وأنكرتْ عائشة رضي الله عنها أن الميت يعذَّب ببكاء أهله عليه، وأثبتَه غيرها من الصحابة بروايته ذلك عن النبي ‘، ورَوَتْه هي على وجه آخر(2).

قال الشيخ الإمام ابن تيمية رحمه الله(3): «إن السلف أخطأ كثير منهم في هذه المسائل، واتفقوا على عدم التكفير بذلك، مثلُ ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحيِّ، وأنكر بعضهم رؤية محمد ‘ ربَّه، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف.. وكان القاضي شُرَيح يُنكر قراءة من قرأ «بل عجبتُ»(4) ويقول: إن الله لا يعجب.. واتفقت الأمة على أنه إمام من الأئمة،..» إلى أمثلة أخرى.

وقال أيضاً (5): «الخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية،.. مثل: من اعتقد أن الذبيح إسحاق، لحديثٍ اعتقد ثبوته، أو اعتقد أن الله لا يُرى، لقوله:﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103] ، ولقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51] ، وكما نُقِل عن بعض التابعين أن الله لا يُرى، وفسَّروا قوله: ﴿وُجُوهٞ يَوۡمَئِذٖ نَّاضِرَةٌ٢٢ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٞ٢٣﴾[القيامة: 22ـ23]، بأنها تنتظر ثوابَ ربِّها، كما نُقِل عن مجاهد وأبي صالح(6)...» إلى أمثلة أخرى ذَكَرها.

وقال في موضع ثالث(7): «وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا٥٩﴾[النساء:59] ، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرةَ مشاورةٍ ومناصحةٍ، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية».

وقال تلميذه الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي ـ وقد ذكر مسألة خلافية بينه وبين ابن منده ـ: «لو أنّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له، قمنا عليه، وبدَّعْناه، وهَجَرْناه: لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبرُ منهما،..، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة!».

والمقصود من هذا: أن الاختلاف في الأصول ـ ما لم يخْرِج عن الملة ـ هو شأنُ الفِرَق التي كانت في صدر الإسلام، وأن الاختلاف في الفروع يَدخُل فيه الفروعُ الفقهية، وبعضُ جزئياتٍ من المسائل العلمية، كما عبَّر ابن تيمية وغيره، كما سيأتي.

أما حكم الاختلاف في القسم الثاني والثالث:

فلا ريب أن الاختلاف في القسم الثاني ينطوي على ثلاث حالات:

ـ الحال الأولى: إنْ جرَّ الاختلاف في أصول الإِسلام إلى إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة: فهو خلاف مخْرِج عن الملَّة، ولا يُقْبل من صاحبه مهما تستَّر بشعاراتِ حرية الرأي، أو حرية الفكر، أو حرية العلم...

ـ الحال الثانية: الاختلاف الذي نشأ من القَدَرية والخوارج والرافضة.. وسائر فِرق الإسلام، وانشقُّوا بخلافاتهم هذه عن منهج أهل السنة، وهذا بدعة وضلال.

ـ الحال الثالثة: إنْ كان الاختلاف في جزئيات بعض العقائد، فلا شيء فيه ولا حرج. انتهى كلام شيخنا حفظه الله ورعاه، ص: 19ـ21.

 

(1) وكذلك جعل القسمة ثلاثية الخطابي في كتابه «أعلام الحديث» 1: 219ـ221، وجعلها الراغب الأصفهاني رحمه الله رباعية في كتابه «الذريعة» ص 168ـ170، وذلك بجعل الجانب الأول قسمين، وشبَّه المختلفين في كل قسم تشبيهاً لطيفاً حكيماً، فانظره.

(2) انظر «فتح الباري» 3: 160 (1288، 1289).

(3) «مجموع الفتاوى » 12: 492.

(4) مع أنها قراءة متواترة، قرأ بها حمزة والكسائي وخلف، وإنكاره كان قبل استقرار تواترها، أما بعد فلا يجوز أبداً. انظر «فتح الباري» 8: 743 (4977).

(5) 20: 33.

(6) نُقِل ذلك عنهما بسند صحيح، كما قاله الحافظ ابن حجر في «الفتح» 13: 425 في شرح الباب الرابع والعشرين من كتاب التوحيد، وانظر: «تفسير الطبري» ـ’سورة القيامة ـ 29: 192، و«التمهيد» لابن عبد البر 7: 157.

(7) 24: 172.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين