محمد بن ناصر العجمي.. وكتابه عن القاسمي
 بقلم د. محمد حسان الطيان

منسق مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة
                                                                عضو مراسل بمجمع اللغة العربية بدمشق
 الشيخ المحقق محمد بن ناصر العجمي تفاحة الكويت – كما يقول في وصفه أخونا الشيخ نظام اليعقوبي شيخ البحرين _  بل هو مفخرة من مفاخرها،ونادرة من نوادرها، إذ أخرج للناس نفائس وأسفارا تنوء بها العصبة أولو القوة من أهل العلم، وتزدان بها العقول قبل الرفوف، وتبقى على مرِّ الدهور شاهد صدق على صبره وبلائه في تحقيق تراث الأمة، وترجمة أعلامها،و نشر الغميس من مخطوطاتها. وقد بلغ ما صنفه وحققه وألفه وأخرجه زهاء السبعين من الكتب والرسائل والمجلدات، لو قيض لكل منها أن ينطق لقال:

 جَزى اللَهُ عَني مِـن جلانيَ للورى       بِأَفضلِ ما يجزي أَولي العلمِ وَالتَقوى
وَلا زالَ مَـعـمـورَ الجِـنـان موفّقاً       مَـآثـرُهُ ما بَـيـنَ أَهـلِ الـهُدى تُروى
 
 وللشيخ عناية خاصة بعلماء الشام وما ألفوه من كتب، وقد تبدَّت هذه العناية في عشرات من الكتب التي أخرجها لهم.. أو عنهم.. أو فيهم. وكان آخرها كتاب جمال الدين القاسمي - إمام الشام في عصره،ونابغة علمائها، وحجة مجتهديها -  الذي نشرته مشكورةً إدارة الثقافة الإسلامية بوزارة الأوقاف في دولة الكويت. وقدم له شيخ قراء الشام الشيخ كريم راجح أمتع الله به وحماه.
 والكتاب تحفة فنية تنافست فيها الفنون، وتضافرت عليها ضروب الجمال تتنازعها من كل جهة...
  بدءاً من غلافه الموشّى بخطوط بديعة تتوسَّد صورةً لمعالم دمشق يعلوها مسجدها الأموي بمآذنه الثلاث وقبّـته المهيبة، وتمتد الصورة إلى الغلاف الخلفي لتظهر جانبا من جامع السنانية الذي كان القاسمي يؤمه ويدرِّس فيه، مع نموذج رائع من خطه البديع، وتحيط بالغلاف والخطوط زخارف ونمنمات تومئ إلى أصالة ما في الكتاب وعراقة محتواه، وقد زاد الخطوط والزخارف والصور جمالا وإحسانا أنها نافرة تتحسّسها يد القارئ قبل أن تراها عينه، فيشعر أنه يعيش فيها، ويصلي في مساجدها، ويسَّمَّع من شيخها القاسمي درره وشوارده ونوادره :

يَغتَلي فيهِمُ اِرتيِابيَ حَتّى       تَتَقَرّاهُمُ يَدايَ بِلَمسِ
 
 ومروراً بمضمونه الحافل بكل مفيد وطريف وممتع، فقد احتَشَدَ له مصنفه بما ينبغي لمثله أن يُحْتَشَد، وبذل فيه قصارى ما يمكن أن يُبذَل في كتاب، وجمع في عمله بين التحقيق والتصنيف والجمع والتعليق،إذ عرض أولا لسيرة الشيخ القاسمي بقلمه، فجلاها محقَّقة موثَّقة، ثم قفّى عليها بتراجم شيوخه ونصوص إجازتهم له، ليختم بتراجم تلامذته ونصوص إجازته لهم. والذي لا ينقضي منه العجب هذا الحجم من صور الوثائق والمخطوطات والإجازات التي حفلت بها صفحات الكتاب، إذ لا يكاد فصل من فصوله _ أو ترجمة من تراجمه _  يخلو من صورة مخطوطة، أو نص إجازة، أو قيد سماع, حتى لقد غدا الكتاب سجلاً لكل ما يتصل بحياة القاسمي وشيوخه وتلامذته من مخطوطات وإجازات ووثائق.
 وقد أحسن المؤلف _ في ظني _  كل الإحسان، حين عرض لتراجم بعض تلامذة القاسمي، فأطرفنا  بشهادات أهل العلم فيهم، كما صنع مثلا حين ترجم للشيخ بهجة البيطار أشهر تلامذة القاسمي، إذ أورد طرفا من الكلمة النفيسة التي كتبها عنه شيخنا النفاخ حين حلَّ محله في مجمع اللغة العربية بدمشق، ثم أتبعها بكلمة شيخ الأدباء علي الطنطاوي في شيخه البيطار عليهم رحمات المولى سبحانه، وختمها بكلمة رائعة خصه بها أستاذنا الدكتور مازن المبارك حفظه الله ورعاه، ثم أردفها بكلمة ماتعة لأستاذنا الجليل عاصم البيطار يجلو فيها محبة أبيه ووفائه لشيخه القاسمي.  لقد أحسست وأنا أقرأ هذه الكلمات أني موصول النسب بالشيخ القاسمي، فهؤلاء النخبة ممن شرفني الله سبحانه بالأخذ عنهم، والانتفاع بصحبتهم، والتأدب بأدبهم.
 وانتهاءً _ والكلام موصول بضروب الجمال التي تتنازع الكتاب _ بالصور التي أثبتها المصنف للشيخ القاسمي، وأبيه، وبعض شيوخه، وبعض تلامذته، ولجامع السنانية (في سنة 1312هـ) الذي كان يؤم فيه ويدرِّس ويؤلف، ولمدرسة عبد الله باشا العظم التي كان له فيها غرفة للتدريس. وقد تقدمتها نماذج مختلفة لخطوط الشيخ وشوارده وأوابده، فكانت خير تذييل وتزيين للكتاب، وتلتها الفهارس العامة التي تمنحك مفاتيح الكتاب تدخل بها أنَّى شئت، وتصل إلى طَلِبَتِك بأيسر السبل.
 وبعد، فإني قرأت في هذا الكتاب دروسا في الحب، وصفحاتٍ في الهوى والعشق، لم أقرأها في قصائد شعراء الحب والغزل والنسيب! ولا ريب عندي أن حبَّ شيخنا العجمي لشامنا ملك عليه قلبه، واستحال بين يديه كتبا تُحقَّق.. وتصانيفَ تؤلف..ومخطوطاتٍ ووثائق تجمع وتنشر. وليس هذا بمستغرب على قلبه الكبير، وخلقه النبيل، وسعيه الأصيل، فهو كما عودنا دوما يصنع الأعاجيب.
 ونحن والله أيها الشيخ النبيل نبادلك بالحب حباً..وبالود تحنانا وعشقا. فلك حب الشام ..وودُّ الشام .. ووفاء أهل الشام. ولئن قصرت أيادينا عن مكافأتك إن أصواتنا لتلهج بالدعاء لك والثناء عليك، وإن ألسنتنا لتطول بشكرك وبِرِّك وعرفان فضلك، مرددة مع الشاعر قوله:

سَعَيتُ اِبتِغاءَ الشُكرِ فيما صَنَعتَ لي       فَـقـَصـَّرتُ مـَغلوبـاً وَإِنّـي لَشاكِرُ
لأَنًّـكَ تـولـيـني الجَمـيـلَ بـَداهـَةً         وَأَنتَ لما اِستَكثُرتُ من ذاكَ حاقِرُ

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين