الرضيع الذي كلم أمه

عن أبي هريرة رحمه الله تعالى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كانت امرأةٌ ترضع ابنًا لها من بني إسرائيل، فمرَّ رجلٌ راكبٌ على دابَّةٍ فارهةٍ وشارةٍ حسنةٍ.

فقالت أمُّه: اللَّهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه، فقال: اللَّهم لا تجعلني مثله، ثمَّ أقبل على ثديه فجعل يرتَضِع»، قال: فكأنِّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السَّبابة، يجعلها في فمه فجعل يمصُّها، قال: «ومرُّوا بجاريةٍ وهم يضربونها ويقولون: زنيتِ؟ سرقتِ؟

وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمُّه: اللَّهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها، فقال: اللَّهم اجعلني مثلها، فهناك تراجعا الحديث.

فقالت: حَلْقي! مرَّ رجلٌ حسن الهيئة فقلتُ: اللَّهم اجعل ابني مثله، فقلتَ: اللَّهم! لا تجعلني مثله. ومروا بهذه الأَمَة وهم يضربونها ويقولون: زنيتِ؟ سرقتِ؟

فقلتُ: اللَّهم لا تجعل ابني مثلها فقلتَ: اللَّهم اجعلني مثلها، قال: إنَّ ذاك الرجل كان جبَّارًا. فقلت: اللَّهم لا تجعلني مثله، وإنَّ هذه يقولون لها: زنيتِ ولم تزنِ، سرقتِ ولم تسرقْ، فقلت: اللَّهم اجعلني مثلها».

رواه البخاري ومسلم

الشرح:

«الدَّابةُ الفارهةُ»: هي النشيطةُ القويةُ.

و«الشارةُ الحسنةُ»: الهيئةُ واللبسُ.

«تراجعا الحديث»: أي أقبلت المرأة تُكلِّم ابنها، وكانت تعتقد أنَّه ليس أهلًا للنطق ومراجعةِ الحديثِ، فلما تكرَّر منه الكلام أقبلت عليه تسأله.

«حَلقَي»: بفتح الحاء والقاف بينهما لام ساكنة، كلمة معناها الدعاء بوجع الحلق، وليس ذلك مرادًا هنا، بل المراد التعجُّب من حال الطفل ومعارضته لأمه فيما دعت به له.

العبرة من هذه القصة:

نفوس أهل الدُّنيا تقف مع الخيال الظَّاهر، وتنخدع بخدعة الملابس الحسنة والزِّينة الجميلة، فتقدِّر الأشخاص على أساس ذلك.

وأهل التحقيق ينظرون إلى حقائق الأشياء وبواطن الأمور، ولا يعتبرون المظاهر الخلَّابة فيقدِّرون الشَّخص بما عنده من خُلقٍ فاضلٍ وعملٍ صالحٍ، وإنْ كان رثَّ الهيئة خَشِنَ الثِّياب مستندين إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «رُبَّ أشعثَ أغبرَ ذي طمْرين، تنبو عنه أعين النَّاس، لو أقسم على الله لأبرَّه».

فتلك المرأة خدعها منظر الرَّجل الرَّاكب، واستهواها حُسن هيئته وبزته، فسألت الله لابنها – وهو أعزُّ شيءٍ عندها في الدُّنيا - أنْ يجعله مثله، ونفر قلبها من الجارية لرثَّة حالها وهوانها على النَّاس، فسألت الله ألَّا يجعل ابنها مثلها، ولكنَّ الله أنطقَ ابنها في غير أوان النُّطق، فبيَّن لها أنَّ ذلك الرَّجل وإنْ كان جميل الظَّاهر فهو قبيح الباطن؛ لأنَّه جبَّار يقسو على الضعفاء ويظلمهم، وهو إلى جانب هذا كافرٌ كما جاء في روايةٍ أخرى، وأيُّ فائدةٍ لصلاح الظَّاهر مع فساد الباطن؟!

أمَّا تلك الجَارية فهي مؤمنة طاهرة، بريئة ممَّا يدَّعون عليها، لا يُضيرها مع ذلك أنْ تكون ثيابها رثَّة وحالتها زريَّة، فيما يجدو للنَّاظر؛ لأنَّها أصلحت ما بينها وبين الله، فماذا يهمها من النَّاس بعد ذلك؟ ولهذا طَلَبَ الطفل أنْ يكون مثلها في الإيمان والبراءة من المعصيةِ، وليس مراده أنْ يكون مثلها في أنْ يتهم بباطلٍ كما اتهمت هي.

نَبَّه النووي في "شرح مسلم": ونظير هذه القصَّة في الانخداعِ بظواهرِ الأحوال قصَّة أصحاب قارون، الذين رأوه في زينته فتمنَّوا أنْ يكونوا مثله، ونَهاهم أُولوا العلم عن هذا التَّمني، فلمَّا خسفَ بقارون أدركوا خطأ تمنِّيهم وندموا عليه، وقد بيَّن الله تعالى بقوله: ﴿فَخَرَجَ﴾ قارون ﴿عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾ من لباس حسنة، ومراكب جميلة، وخدم وأتباع ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ من المغترين بالظواهر،﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ الحظ: البَخت والنَّصيب، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ أي: العلماء ﴿وَيْلَكُمْ﴾ أيُّها المتمنون منزلة قارون، ﴿ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا﴾ أي: لا يلقن هذه الحكمة وهي ثواب الله خير ﴿إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ عن الشَّهوات وعن زينة الحياة الدنيا، الرَّاضون بما قسم الله لهم ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾ أي: أمرنا الأرض فابتلعته حيًّا؛ لأنَّه كان كافرًا عنيدًا، وكان يؤذي موسى عليه الصَّلاة والسلام، ومن جملة إيذائه اتهامه موسى بالزِّنا ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ﴾ :جماعة ﴿يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: يمنعونه من عذاب الله ﴿وَمَا كَانَ﴾ قارون ﴿مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ :من الممتنعين من عذاب الله، ﴿وَأَصْبَحَ﴾: صار ﴿الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ﴾، معلنين خطأهم ومظهرين ندمهم: ﴿وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ﴾ [القصص: 79-82] :يقتر.

فسعة المال لا تدلُّ على رضا الله، ولكنَّه يقسم الأرزَّاق على حسب ما سبق في عمله ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف: 32].

وفي الحديث الصَّحيح: «لو كانت الدُّنيا تُساوي عند الله جناح بعوضةٍ، ما سقى كافر منها جرعة ماء».

وكلمة [وي] تنبِّه على الخطأ والتَّندم، ﴿لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾، بصرف ما تمنيناه ﴿لَخَسَفَ بِنَا﴾ كما خسف بقارون ﴿وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [القصص: 82] كقارون وأمثاله.

" سمير الصالحين" الجزء الثالث

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين