الحديثُ القدسيُّ: لفظُه ومعناه

قال شيخنا العلامة المحقق المحدث الشيخ محمد عوامة حفظه الله تعالى

في مقدمة كتابه الماتع الحافل «من صحاح الأحاديث القدسية»:

هل الحديثُ القدسيُّ لفظُه ومعناه من الله عز وجلَّ؟ أو لفظه من النبي ﷺ ومعناه من الله تعالى؟

ذهب بعض أهل العلم إلى القول الأول، وذهب الجمهور إلى الثاني، وإليك البيان:

إن أقدم من وقفت عليه في ذكر القول الأول هو: الإمام ابن حجر الهيتمي رحمه الله فقد قال في آخر شرح حديثِ أبي ذر ـ وهو الحديث الرابع والعشرون من « الأربعين النووية»ـ:

اعلم أن الكلام المضاف إليه تعالى أقسام ثلاثة:

أولها ـ وهو أشرفها ـ: القرآن، لتميُّزه عن البقية بإعجازِه من أوجه قدَّمناها أولَ الكتاب(1)، وكونِه معجزةً باقية على ممرِّ الدهر، محفوظةً من التغيير والتبديل، وبحرمةِ مسِّه للمحدِث، وتلاوته لنحو الجنب، وروايته بالمعنى، وتعيُّنه في الصلاة، وبتسميتِه قرآنا، وبأن كلَّ حرف منه بعشر حسنات، وبامتناعِ بيعه في رواية عند أحمد، وكراهةٍ عندنا ـ أي: السادة الشافعية ـ، وبتسمية الجملة منه آية وسورة.

وغيرُه من بقية الكتب والأحاديث القدسية لا يثبتُ لها شيء من ذلك، فيجوز مسُّه(2) وتلاوتُه لمن ذُكر، وروايته بالمعنى، ولا يجزئ في الصلاة، بل يبطلها، ولا يسمى قرآنا، ولا يعطَى قارئه بكل حرف عشرا، ولا يُمنَع بيعه ولا يكره اتفاقا، ولا يسمَّى بعضُه آيةً ولا سورةً اتفاقا أيضاً.

ثانيها: كتبُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل تغييرها وتبديلها.

ثالثها: بقية الأحاديث القدسية، وهي ما نُقل إلينا آحادا عنه ﷺ، مع إسناده لها عن ربه، فهي من كلامه تعالى، فتضاف إليه ـ وهو الأغلب ـ ونسبتُها إليه حينئذ نسبةُ إنشاء، لأنه المتكلِّم بها أولا، وقد تضاف إلى النبي، لأنه المخبِر بها عن الله تعالى، بخلاف القرآن، فإنه لا يُضاف إلا إليه تعالى، فيقال فيه: قال الله تعالى، وفيها: قال رسول الله ﷺ فيما يروي عن ربه.

ولا تَنحصِر تلك الأحاديثُ القدسيةُ في كيفية من كيفيات الوحي، بل يجوز أن تتنزَّل بأي كيفية من كيفياته، كرؤيا المنام، والإلقاء في الرُّوع، وعلى لسان الملَك.

ولراويها صيغتان:

إحداهما: أن يقول: قال رسول الله ﷺ فيما يروي عن ربه، وهي عبارة السلفُ، ومن ثَمَّ آثرها المصنف فيما مَرَّ (3).

ثانيتهما: أن يقول: قال الله تعالى فيما رواه عنه ﷺ، والمعنى واحد (4).

وعلق شيخنا العلامة الحافظ فضيلة الشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله تعالى في «شرحه على المنظومة البيقونية»(5) على قول ابن حجر الهيتمي: «ونسبتها إلى الله حينئذ نسبةُ إنشاء» فقال: «هذا صريح في أن الأحاديث القدسية هي كلام الله تعالى، ولكنْ لم يبلغ حدَّ الإعجاز والخصائص التي اختُص بها القرآن الكريم، كما أن بقية الكتبِ الإلهية النازلةِ على الرسل السابقين صلوات الله تعالى عليهم أجمعين لم تبلغ حدِّ الإِعجاز، ولم تنلْ خصائصَ القرآن الكريم».

وقد قرَّر الدكتور محمد عبد الله درَاز المتوفَّى سنة 1377 رحمه الله مذهب الجمهور باستيفاء، في مقدمة كتابه «النبأ العظيم»(6)، وأنا أنقله بطوله، قال: «وهذا هو أظهر القولين عندنا، لأنه لو كان منزلا بلفظه لكان له من الحرمة والقدسية في نظر الشرع ما للنظم القرآني، إذ لا وجهَ للتفرِقة بين لفظين منزَّلين من عند الله، فكان من لوازم ذلك: وجوبُ المحافظة على نصوصه، وعدمُ جوازِ روايته بالمعنى إجماعا، وحرمةُ مسِّ المحدِث لصحيفته، ولا قائلَ بذلك كلِّه(7).

وأيضا فإن القرآن لما كان مقصودا منه ـ مع العمل بمضمونه ـ شيءٌ آخرُ، وهو التحدِّي بأسلوبه، والتعبُّد بتلاوته: احتيج لإنزال لفظه، والحديثَ القدسي لم ينزل للتحدِّي ولا للتعبد، بل لمجرد العمل بما فيه، وهذه الفائدة تحصل بإنزال معناه.

فالقولُ بإنزال لفظه قولٌ بشيء لا داعي في النظر إليه، ولا دليل في الشرع عليه، اللهم إلا ما قد يلوح من إسناد الحديث القدسي إلى الله تعالى بصيغة: يقول الله تبارك وتعالى كذا، لكن القرائن التي ذكرناها آنفا كافيةٌ في إفساح المجال لتأويله، بأن المقصود نسبة مضمونه لا نسبة ألفاظه.

وهذا تأويل شائع في العربية، فإنك تقول حينما تنثر بيتا من الشعر: يقول الشاعر كذا، وتقول حينما تفسير آيةً من كتاب الله بكلام من عندك: يقول الله تعالى كذا، وعلى هذه القاعدة حكى الله تعالى عن موسى وفرعون مضمونَ كلامهم بألفاظٍ غير ألفاظهم، وأسلوب غير أسلوبهم، ونسب ذلك إليهم.

فإن زعمتَ أنه لو لم يكن في الحديث القدسي شيء آخرُ مقدَّس وراء المعنى، لصح لنا أن نُسَمي بعض الحديث النبوي قدسيّا أيضا، الوجود هذا المعنى فيه!

فجوابه: أنا لما قطعنا في الحديث القدسي بنزول معناه، لورود النص الشرعي على نسبته إلى الله تعالى بقوله ﷺ: قال الله تعالى كذا: سميناه قدسيّا لذلك، بخلاف الأحاديث النبوية، فإنه لما لم يَرِد فيها مثلُ هذا النصِّ جاز في كل واحد منها أن يكون مضمونه معلَماً بالوحي، وأن يكون مستنبَطا بالاجتهاد والرأي، فسُمي الكلُّ نبويّا، وقوفا بالتسمية عند الحدِّ المقطوع به، ولو كانت لدينا علامةٌ تُميِّز لنا قسم الوحي لسميناه قدسيّا كذلك». انتهى.

وأقول: إن هذا البيان ـ والله أعلم ـ معبِّر تمامَ التعبير عن وجهة نظر الجمهور، وهو مؤلَّف من شِقَّين:

ـ نفي المشابهة بين القرآن الكريم والحديث القدسي، ويلزم من نفي المشابهة أن نُلِحق الحديث القدسي بالنبوي حينئذ.

ـ تأويل قول النبي ﷺ أولَ الحديث القدسي: قال الله تعالى كذا.

1 ـ أما الشق الأول ـ وهو ذِكْر الفوارق الكثيرة بين القرآن والحديث القدسي ـ فهذا أمر مسلَّم به، وبأن القدسي لا يتصف بخصيصةٍ من خصائص القرآن الكريم التي تقدم ذكرها في كلام ابن حجر الهيتمي، ولكن: هل يلزمُ من نفي المشابهة بينهما أن نُلحق القدسي بالنبوي؟

الجواب: لا، ذلك أن الكلام الذي أوحى الله تعالى به إلى أنبيائه أربعة أقسام، لا ثلاثة، هي الثلاثة التي تقدمت في كلام ابن حجر الهيتمي، يضاف إليها: الحديث النبوي:

1 ـ القرآن الكريم، ذو الخصائص.

2 ـ الكتب السماوية الأخرى سواه، وليس لها خصائص القرآن.

3 ـ الحديث القدسي.

4 ـ الحديث النبوي.

فقول الدكتور دراز: «ولو كان ـ الحديث القدسي ـ منزَّلا بلفظه الكان له من الحرمة والقدسية في نظر الشرع ما للنظم القرآني، إذْ لا وجه للتفرقة بين لفظينِ منزَّلين من عند الله»: في محل المنع، فأين هو عن الكتب السماوية الأخرى؟! إذْ إنها منزَّلة من عند الله تعالى بلفظها ومعناها اتفاقا، وليس لها من الخصائص ما للقرآن العظيم اتفاقا.

وبالتالي: لا يلزم من نفي المشابهة بين القرآن والقدسي: أن نلحق القدسي بالنبوي، لأننا إذ لم نلحقه بالنبوي، أُلحق بالقرآن!! لا، إننا حينما نقول: لفظه ومعناه من عند الله، نقول: هو ليس كالقرآن الكريم.

فإن قيل: إذا هل له نظير في الكلام المضاف المنسوب إلى الله عز وجل؟

قلنا: نعم، هو كالكتب السماوية الأخرى سوى القرآن، لفظها ومعناها من عند الله، وهذا أمر متفق عليه، فليكن الحديث القدسي كذلك..

2 ـ أما الشق الثاني في كلام الدكتور دراز ـ وهو تأويل قول النبي ﷺ في صدر الحديث القدسي: قال الله تعالى كذا ـ فهو على ما بين المشبَّه والمشبَّه به من فارق ـ أقول فيه: إنما يصار إلى التأويل عند اللزوم، ولا لزوم هنا، ما دمنا قد أَزَلْنا الإشكال الذي عبَّر عنه بقوله: «ولو كان منزَّلا بلفظه لكان له من الحرمة والقدسية في نظر الشرع ما للنظم القرآني»، أَزَلْناه بأن هذا التلازم غير صحيح، إنما هو ناشئ من قبل حصر الكلام المنسوب إلى الله القرآن الكريم والحديث النبوي:

فالقرآن الكريم: لفظه ومعناه من عند الله، وهو معجز ومختصٌّ بخصائص.

والحديث النبوي: لفظه من النبي ﷺ، ومعناه من عند الله تعالى، إلا ما دلَّ الدليل الواضح على كونه من اجتهاد النبي ﷺ.

ونقضُ هذا الحصر يكون بالتنبُّه إلى الكتب السماوية الأخرى، وأنها باتفاقٍ كلامُ الله لفظا ومعنى ـ قبل أن يطرأ عليها الدخيل والتحريف ـ، فنلحق الأحاديث القدسية بها، إعمالا لظاهر قول النبي ﷺ: قال الله تعالى كذا، وإن الله تعالى قال كذا... حتى لو لم يكن هناك كلام منسوب إلى الله عز وجل لفظه ومعناه من الله، وهو غير معجز ـ كالكتب السماوية ـ لما كان بنا ضرورةٌ إلى تأويل هذا التعبير منه ﷺ، وتقول نحن من عند أنفسنا: القرآن كلامُ الله المعجِزُ المتحدَّى به، والحديث القدسي كلامُ الله غير المعجز وغير المتحدَّى به.

وثمة فائدة كبرى نستفيدها من القول بأن القرآن لفظه ومعناه من الله تعالى وهو معجز، والأحاديث القدسية لفظها ومعناها من الله تعالى وهي غير معجزة، تلك أن الحجةَ تقوم على الكافرين حينئذٍ بوجهٍ أقوى، وذلك حينما يقول لهم النبي ﷺ: إنه يأتيني كلامٌ لا تستطيعون الإتيان بمثل بعضه، وكلامٌ تستطيعون الإتيان بمثل بعضه، والكلُّ من عند الله تعالى، فهذا إمعانٌ في التحدي للكافرين، والله تعالى أعلم.

ويتصل بهذا البحث: القول في جواز رواية الحديث القدسي بالمعنى، أو عدم جوازها، والجواب: أن جواز روايته بالمعنى هو مقتضى القولين السابقين، أما على القول بأن معناه من الله تعالى، ولفظه من النبي ﷺ: فواضح منه الجواز، لأنه حينئذ كالحديث النبوي، وأما على القول بأن لفظه ومعناه من الله تعالى، وأنه بهذا الاعتبار كالكتب السماوية غير القرآن الكريم: فيجوز أيضا أداؤه بالمعنى، لأنه غير معجز، وتقدم في كلام ابن حجر الهيتمي نصُّ على الجواز، وأكَّد ذلك في «فتاواه الحديثية»(8)، ثم البَنَّاني في «حاشيته على شرح جمع الجوامع»(9).

انتهى كلام شيخنا حفظه الله ورعاه، بتصرف يسير، ص13 ـ 24.

(1) خلاصة ما قاله في شرح المقدمة ص۲۲ ـ ۲۳: «وجوهُ إعجاز القرآن لا تنحصر، فمنها: ‏إيجازه وبلاغه...، ومنها: خروجُه عن جنس كلام العرب نظما ونثرا، وخطبا وشعرا، ورَجَزا ‏وسجعا...، ومنها: أن قارئه لا يَمَلُّه، وسامعه لا يَمَجُّه...، ومنها: ما فيه من الإخبار= بما كان ‏مما علموه ومما لم يعلموه...، ومنها: اشتمالُه على علوم الأولين والآخرين، مع كونِ الآتي به ‏أقام بينهم أربعين سنة قبل تكلُّمه به أميّا لا يُحسن نظم كتاب، ولا عقد حساب...».‏

(2) نصَّ ابن عابدين من السادة الحنفية في «حاشيته» 1: 116،117 على حرمة مس المحدِث حدثا أكبر أو أصغر للكتب السماوية ما عُلم أنه غير مبدَّل منها.

(3) يريد: الإمامَ النوويَّ رحمه الله تعالى، والذي مرَّ: هو قولُه أول الحديث المشروح هناك ـ حديث أبي ذر ـ: «عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه عز وجل». قلت: لفظ روايته في «صحيح» مسلم يتفق مع محل الشاهد منه.

(4) ص201.

(5) ص24.

(6) ص15.

(7) تقدم قول الإمام ابن عابدين من السادة الحنفية في هذه المسألة.

(8) ص211.

(9) 2: 171.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين