القائد الشهيد: عبد الله بن جحش الأسدي رضي الله عنه

خير فرسان العرب

القائد عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر الأسدي ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب ، وكنيته أبو محمد الأسدي ، أسلم رضي الله عنه مبكرا ، فهو من أوائل المسلمين ، وكان ذلك قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم. فناله الأذى من قريش بسبب إسلامه ، وعضته أنياب المشركين وشددوا في إيذائه ، فكان ممن هاجر الهجرتين إلى الحبشة ، عندما أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها ، وامتدح لهم ملكها وحاكمها النجاشي رضي الله عنه ، وقال لهم (( لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه )) .

فخرج عبد الله رضي الله عنه إلى الحبشة هو وأخواه أبو أحمد وعبيد الله ، وأختهم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأم حبيبة وحمنة بنات جحش . فنالوا بذلك فضل المهاجرين الأولين الفارين بدينهم الحريصين على عبادة ربهم على الصراط المستقيم . وفي هذه الأسرة الكريمة وأمثالها من الرعيل الأول المهاجرين إلى الحبشة ، جاء قوله تعالى : ( قل لعبادِ الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) (الزمر:10) قال حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالي لهذه الآية : يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة . ونقل القرطبي رحمه الله تعالى عن قتادة ، عند تفسيره لقوله تعالي : (( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لَنبوّئَنّهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون )) (النحل : 41) ، قال المراد بهذه الآية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين.

وكان رضي الله عنه بعد ذلك من أوائل من قدم المدينة بعد أن أذن رسول الله لأصحابه بالهجرة إليها. يقول اللواء محمود شيت خطاب رحمه الله تعالى في كتابه قادة النبي صلى الله عليه وسلم : وحين أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة كان ثالث من هاجر إليها عبد الله بن جحش رضي الله عنه ، فقد احتمل بأهله وأخيه عبد بن جحش ، وهو أبو أحمد ، وكان رجلاً ضرير البصر ، وكان يطوف بمكة أعلاها وأسفلها بغير قائد ، وكان شاعرا ، وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب . وفي المدينة المنورة وجريا على عادته صلى الله عليه وسلم في الربط بين المهاجرين والأنصار آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الله بن جحش وبين عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح رضي الله عنهما.

ومما يدل على عظمة هذا الصحابي الجليل عبد الله بن جحش رضي الله عنه ماقاله فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (( منا خير فارس في العرب )). وكذا ما حدث به الصحابي البطل المغوار سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين قال : (( كان عبد الله بن جحش خيراً مني )) إلى جانب أقوال وشهادات مباركات أخرى سنذكرها لهذا البطل المقدام عندما نعرض لأحداث سرية نخلة التي ولاه قيادتها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان نعم القائد الفذ والبطل الشجاع صاحب المهمات الصعبة وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية نخلة ، فكان أول أمير أمَّره ، وكانت غنيمته أول غنيمة غنمها المسلمون ، وخمسها فجعل خمساً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقسم الباقي ، فكان أول خمس في الإسلام ، وشهد رضي الله عنه بدراً وأبلى فيها بلاء حسناً ، وقتل شهيداً يوم أحد.

وفي طبقات ابن سعد أن عبد الله بن جحش رضي الله عنه هو أول من سمي أمير المؤمنين في الإسلام ، حين أمره صلى الله عليه وسلم على سرية نخلة .

سرية نخلة

هي أول سرية بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أطراف مكة ، وذلك في رجب ، على رأس سبعة عشر شهراً من مهاجره ، في السنة الثانية الهجرية ، وقد أمر عليها بطلنا وشهيدنا الذي نتناول سيرته العطرة في هذا المقال ، عبد الله بن جحش الأسدي رضي الله عنه في اثني عشر رجلاً من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد . وكان كل اثنين منهما يعتقبان بعيراً .

ونخلة هذه التي قصدتها هذه السرية ، هي بستان ابن عامر التي قرب مكة ، على طريق مكة – الطائف . ومن مزايا هذه السرية أنها كانت سرية مكتومة لم تعلن مهمتها ولم تعرف وجهتها ، وإنما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن جحش كتاباً، وأمره ألّا يفتحه وينظر فيه إلا بعد أن يسير يومين ، وهذا النوع من الرسائل العسكرية تسمى الرسائل المختومة ، وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته هذه : أن يمضي لما أمره به ، ولا يكره من أصحابه أحداً على السير معه ، بعد فتح الرسالة ، وأن يأذن لمن شاء أن يتخلف عن ذلك.

فلما سار عبد الله بسريته يومين فتح كتاب رسول الله ونظر فيه ، فإذا نصه : (( إذا نظرت في كتابي هذا ، فامضِ حتى تنزل نخلة ، فترصد بها قريشاً ، وتعلم لنا من أخبارهم )) فقال رضي الله عنه عند ذلك: سمعاً وطاعة . ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة ، وأرصد بها قريشاً ، حتى آتيه منها بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم على المسير معي ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضوا جميعا رضوان الله عليهم ، ولم يتخلف منهم أحد . وهذا هو شأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والرعيل الأول من هذه الأمة السمع والطاعة ، والالتزام والانقياد لأمر الرسول القائد دائماً ، وهم كذلك في المهام العسكرية أشد التزاما وأحسن انضباطاً . وتم السير على ذلك إلى أن وصل الركب المبارك إلى (بحران) وهو موضع بين المدينة والفرع ، فأضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرهما الذي كان يعتقبانه ، فتخلفا في طلبه ، والبحث عنه ، وانطلق عبد الله وأصحابه حتى وصلوا نخلة ونزلوا بها ، فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأدماً وتجارة من تجارة قريش، عليها عمرو بن الخضرمي ، وفيها عثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان ، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة ، فلما رأى المشركون المسلمين هابوهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن رضي الله عنه وكان قد حلق رأسه ، فلما رآه المشركون أمنوا، وقالوا : عمار لا بأس عليكم منهم . وتشاور المسلمون فيما بينهم فقالوا : والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعنَّ منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معم ، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الخضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان ، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم .

إني لم آمر بقتالٍ:

قال عبد الله لأصحابه : ((إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس)) وذلك من قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم ، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير ، وقسم سائرها بين أصحابه ، وكان ذلك بتوفيق من الله تعالى له بهذا الاجتهاد ، حيث تبعه تصديق من الوحي ، وإن دل على شيء فإنما يدل على صفاء السريرة ، وحسن الإخلاص ، ونقاء الطوية التي فطر عليها هذا الصحابي الكريم . ولكنهم لما قدموا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم سالمين غانمين ، قال لهم: (( ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام )) ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً ، فسقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنفهم إخوانهم على ذلك أشد التعنيف وأثقله . ثم أشاعت قريش أن محمداً وأصحابه استحلوا الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، واستغل اليهود - وهذا شأنهم دوماً - هذه الحادثة ، وأخذوا في تحريض قريش والمشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .

وجاء الفرج

فما لبث الوحي أن نزل بقوله تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل)

فلما سمع المسلمون بهذه الآيات فرج الله عنهم وعن إخوانهم الغزاة ما كانوا فيه من الخوف والهم . وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين ، وامتنع عن فداء الأسيرين عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان ، وقال لقريش : ( لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا – يعني سعداً وعتبة اللذان أضلا بعيرهما – فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم) ، فلما قدم سعد وعتبة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الفدية . فما كان من الحكم بن كيسان إلا أن أسلم وحسن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا رضي الله عنه ، وأما الآخر فلحق بمكة فمات بها كافراً .

لقد كانت سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى نخلة في الأصل سرية استطلاع، ولم يرد منها قتال ، ولكن جرأة القائد وحماسه جعلت منها بتوفيق من الله ، بداية حصار اقتصادي على قريش من عدة جهات كما كانت سببا لنيل المغانم ، وتشريع الخمس ، وافتداء الأسرى ، والنيل من عزة الشرك والمشركين ، وكسر جبروت قريس والتجرؤ عليها في دارها ، وهذا أمر لم يكن الناس تتوقعه في تلك الأيام .

وكذا عظمة القائد الشهيد عبد الله بن جحش الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفاءته وشجاعته وحنكته جاءت بهذه النتائج الإيجابية الكثيرة المتعددة لهذه السرية ، ويدل على ذلك ما جاء في كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب المسلمين وقال : لأبعثنّ عليكم رجلاً ليس بخيركم ولكنه أصبر للجوع والعطش ، فبعث عبد الله بن جحش رضي الله عنه . وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لأعطينَّ الراية رجلاً هو أصبر على الجوع والعطش منكم ، فأعطاها عبد الله بن جحش ، فقال عبد الله : يا رسول الله ، أسير بها وأنا غلام حدث، فقال له : سر . فسار ففتح الله عليه))

يقول صاحب كتاب قادة النبي صلى الله عليه وسلم : لقد كان واجب سرية عبد الله بن جحش أشبه بواجبات المغاوير أو القوات الخاصة في الجيوش الحديثة ، تلك التي تدرب تدريباً شاقاً عنيفاً على تحمل الأهوال ، واجتياز العقبات ، والصبر على الجوع والعطش.

ثم استكمل جهاده رضي الله عنه في اليوم السابع عشر من رمضان في السنة الثانية للهجرة في غزوة بدر الكبرى ، التي أبلى فيها بلاء حسناً ، وبذل فيها قصارى جهده لإحراز النصر على المشركين ، وهو رضي الله عنه الذي أسر فيها الوليد بن الوليد بن المغيرة أخا خالد بن الوليد رضي الله عنه. ومما يدل على علو قدره ، وحصافة رأيه ورفعة مكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان فيمن استشارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الأسرى يوم بدر ، وكان رأيه كرأي أبي بكر رضي الله عنه الذي قال : قومك وأهلك ، استبقهم لعل الله يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك.

إخلاصه في طلب الشهادة وإقباله عليها

يتبدى إخلاص عبد الله بن جحش رضي الله عنه في طلب الشهادة ورغبته فيها في هذا الحوار العجيب الذي دار بينه وبين أخيه في الجهاد في سبيل الله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، هذا الحوار الذي جرى بين يدي غزوة أحد ، وهو اليوم الذي استشهد فيه رضي الله عنه .

روى إسحاق بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه ، أن عبد الله بن جحش قال له يوم أحد : ألا تأتي ندعو الله تعالى ، فخليا في ناحية فدعا سعد فقال : اللهم إذا لقيت العدو غداً ، فلقّني رجلاً شديداً بأسه ، شديداً حرده، فأقتله فيك وآخذ سَلَبَه، فأمّن عبد الله بن جحش ثم قال: اللهم ارزقني غداً رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده فأقاتله فيك ويقاتلني ثم يقتلني ويأخذني فيجدع أنفي وأذني ، فإذا لقيتك قلت يا عبد الله فيمَ جدع أنفك وأذناك ؟ فأقول فيك وفي رسولك صلى الله عليه وسلم ، فيقول صدقت. قال سعد : كانت دعوة عبد الله خيرا من دعوتي ، فلقد رأيته آخر النهار وأن أنفه وأذنيه معلقتان في خيط . لقد صدق الله في السؤال فصدقه الله سبحانه وتعالى في الإجابة . وعن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب قال في ختام هذا الخبر : إني أرجو أن يبر الله آخر قسمه كما بر أوله. وروي أن عبد الله بن جحش رضي الله عنه انقطع سيفه يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا ، فكان يسمى العرجون ، ولم يزل يتناول من يد بطل إلى بطل ومن غازٍ إلى غازٍ على مدى قرون حتى بيع من بُغا القائد التركي بمئتي دينار.

وكان استشهاده رضي الله عنه بعد هذه المسيرة المباركة في الهجرة، وهذا الجهاد والغزو ابتغاء رضوانه وجنته يوم أحد ، وكان الذي قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق الثقفي، ولقد مثل المشركون بعبد الله بعد قتله فجدعوا أنفه ، وقطعوا أذنيه ، وبقروا بطنه ، فكان يقال له المُجدَّع في الله حتى عرف بهذا الوصف بعد استشهاده.

وكان عمره حين قتل نيفاً وأربعين سنة، ودفن هو وخاله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في قبر واحد ، وصلى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى بنفسه تركته فاشترى بها لابنه مالاً بخيبر.

إن زوج المرأة منها لبمكان

ومما يحسن تدوينه أن نختم هذا المقال بهذه القصة المرتبطة باستشهاد عبد الله رضي الله عنه ، فإنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لقيته حمنة بنت جحش أخت عبد الله ، فلما لقيت الناس نعي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت – أي قالت : إنا لله وإنا إليه راجعون – واستغفرت، ثم نعي إليها أخوها حمزة بن عبد المطلب ، فاسترجعت واستغفرت ، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولولت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن زوج المرأة منها لبمكان ، لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها ، وصياحها على زوجها.

رحم الله القائد الشهيد عبد الله بن جحش فقد كان رضي الله عنه قدوة في الصبر والشجاعة ، ونموذجا لمن يأتي بعده في القوة والصلابة والإقدام في الحق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين