مختارات من تفسير من روائع البيان في سور القرآن (131)

 

(إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ١٥٩) [البقرة: 159]

السؤال الأول:

ما الفرق بين قوله تعالى (أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ) [البقرة:159] في هذه الآية، وقوله: (عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةُ ٱللَّهِ) [البقرة:161]؟

الجواب:

يلعن: فعل، والفعل يدل على الحدوث والتجدد، أمّا اللعنة فهي اسم، والاسم يدل على الثبوت.

في الآية الأولى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ١٥٩) [البقرة:159] اللعنة تستمر ما داموا يكتمون ما أنزل الله وهم ما زالوا أحياء، وهؤلاء المذكورون في الآية يكونون ملعونين ما داموا لم يتوبوا وكتموا ما أنزل الله، أمّا إذا تابوا عما فعلوا فقد يغفر الله لهم؛ ولهذا جاء بالصيغة الفعلية (يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ).

أمّا الآية الثانية: (إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كُفَّارٌ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةُ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ١٦١) [البقرة:161] فالمذكورون في الآية هم الذين كفروا وماتوا، أي: هم أموات وقد حلّت عليهم اللعنة فعلاً وانتهى الأمر، ولا مجال لأنْ يتوبوا بعدما ماتوا، ولهذا جاء بالصيغة الاسمية فقال: (عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةُ ٱللَّهِ) ؛ لأنها ثابتة ولن تتغير لأنهم ماتوا على الكفر.

السؤال الثاني:

ما دلالة هذه الآية؟

الجواب:

1ـ هذه الآية ذكرت القاعدة الثانية من الإيمان الصحيح وهي: عدم كتمان العلم لا سيّما في التوراة والإنجيل من أوصاف النبي عليه الصلاة والسلام.

2ـ (الكتمان) هو ترك إظهار الشيء مع الحاجة إلى بيانه، ومن كتم شيئاً من أمور الدين فقد عظُمت مصيبتُه.

3 ـ هذا الوعيد يشمل كلَّ من كتم شيئاً من أمر الدين من المسلمين، سيّما عدم تبليغ دعوة الإسلام عبر جميع الوسائل الحديثة وبلغات العالم.

4ـ قوله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ١٥٩) يشمل جميع الخلائق من الإنس والجن وغيرهم.

5 ـ قوله تعالى: (ٱللَّٰعِنُونَ) هذا الوصف المعرف بالألف واللام يشعر بأن هنالك قوما شغلهم الشاغل هو اللعن، وليس الأمر كذلك ؛ فما هناك من أحد متخصص باللعن، فيوصم به، إنما المراد هنا الذين يمكن أن يصدر منهم اللعن كالملائكة والصالحين الذين ينكرون المنكر، ويغضبون لله تعالى، ويطلعون على كتمان من يكتم آيات الله، فهم يلعنونهم لذلك، فكأنهم اختصوا بذلك.

6 ـ في تكرار (يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ) وفي قوله: (وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ) مع إمكان أن يقال مثلاً: (أولئك يلعنهم الله واللاعنون) ؛ وذلك لأنّ معنى اللعن في الثانية مختلف عنه في الأولى، فإنّ اللعن من الله الطرد والإبعاد من رحمته، واللعن من غيره الدعاء على الملعون بذلك، فلاختلاف معنى اللعن تكرر الفعل.

7 ـ والإشارة بـ(أُوْلَٰٓئِكَ) التي تدل على البعد للدلالة على بعدهم بالإفساد، وإفراطهم فيه، ثم إنّ الإشارة لا تكون إلا للمشاهد، ومع ذلك أشار بها إلى صفاتهم، وهي لا تشاهد؛ وذلك لأنّ وصفهم بتلك الصفات جعلهم كالمشاهدين للسامع. والله أعلم.

(إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ١٦٠) [البقرة: 160]

السؤال الأول:

ما دلالة استخدام الفعل الماضي والمضارع في الآية؟

الجواب:

قال تعالى في سورة البقرة: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ١٥٩ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ١٦٠) [البقرة: 159، 160].

1ـ الفعل المضارع يدل على الحال والتجدد والاستقبال، والفعل الماضي فيما مضى، هذا هو الأصل.

وقد يحتمل معنى المضي والاستقبال في الأفعال الماضية كما في هذه الآية (تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ) [البقرة:160] وتدل على احتمال الاستقبال؛ لأنها جاءت بعد الكتمان (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ) [البقرة: 159].

2ـ وزمن الفعل الماضي بعد الاسم الموصول يحتمل المضي ويحتمل الاستقبال، وهنالك أمور قطعية وهنالك أمور تبقى مشتركة.

3ـ وأمّا (كان) فلها أزمنة خاصة بها فهي تفيد الاستمرارية (كان ولا يزال) وتأتي أصلاً للاستقبال، كما في وصف الآيات للآخرة (وَفُتِحَتِ ٱلسَّمَآءُ فَكَانَتۡ أَبۡوَٰباً) [النبأ:19] وفي الحديث عن الله تعالى (وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا١٠٠) [النساء:100] فهي تدل على كونه غفوراً رحيماً وهذا كونه سبحانه.

4 ـ هذه الآية فيها استثناء لمن رجع عن الكفر إلى الإسلام، وندم عما فعل سابقاً، واستغفر الله، وأصلح ما بينه وبين ربه، وما بينه وبين الناس، وبيّن ما كتمه من العلم، فأولئك يتجاوز الله عنهم ويقبل توبتهم.

السؤال الثاني:

قوله تعالى في الآية: (وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ١٦٠) [البقرة:160] ولم يقل مثلاً: (والله تواب رحيم)،فما الدلالة التي تضفيها لفظة (وَأَنَا) [البقرة:160]؟

الجواب:

(أنا) من معطيات الأمل والرجاء لمن يلفتهم الله تبارك وتعالى إليه ويتجلى عليهم بذاته، ففي هذه الكلمة ما لا نجده في تعبير آخر في هذا المقام، وكم نجد في الواو العاطفة في قوله (وَأَنَا) من قوى الجذب لهؤلاء الضالين الظالمين. وكذلك وصف الله سبحانه وتعالى نفسه التواب ولم يقل:(الغفور) في هذه الآية، لما في كلمة (التواب) من المبالغة في الرحمة والتوبة مما يُرغِم الناس بالمبادرة والعودة إلى الله سبحانه وتعالى مهما عظمت ذنوبهم وكثرت خطاياهم، وفي هذه الكلمة ما يجذب الناس جذباً إلى التوبة والإنابة طمعاً في توبة الله تبارك وتعالى عليهم ورحمته بضعفهم وزللهم.

السؤال الثالث:

ما دلالة الاستثناء في الآية (إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ)؟

الجواب:

اختلف النحاة في نوع الاستثناء في قوله: (إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ) أمتصلٌ هو أم منقطعٌ؟ ومعلوم أنّ الاستثناء المتصل: هو ما كان المستثنى فيه بعضاً من المستثنى منه، والاستثناء المنقطع: هو ما لم يكن فيه المستثنى جزءاً من المستثنى منه، فمن قال في هذه الآية: إنّ الاستثناء متصل، أراد أنه مستثنى التائبين ممن يلعنهم الله، ويلعنهم اللاعنون، ومن قال: إنّ الاستثناء في هذه الآية منقطع جعل التائبين من غير الملعونين؛ لأنهم يرون أن من يلعنه الله لا يتوب عليه.

والله أعلم.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين