كشف الستار عن حال القاضي الحسن بن عمارة، وبيان ما في طعن الإمام شعبة له

قال شيخنا العلامة المحقق المحدث محمد عوامة حفظه الله تعالى

في جزئه اللطيف "التحذيرُ من التَّواردِ على قول دونَ الرُّجوع إلى مصادرِه":

لقد كثر الكلام في الحسن بن عمارة، والناظر في ترجمته يجد أن المتكلمين فيه قسمان: معاصرون له، ومتأخرون عنه، ولم يتكلم فيه من المعاصرين له إلا شعبة والثوري، كما قال ابن المبارك: «جرحه عندي شعبة وسفيان، فبقولهما تركت حديثه»(1) فانظر المتابعة!.

بل يجد الناظر أن شعبة هو المتكلمُ الأول فيه والمؤَلِّبُ عليه، وسفيان متابع له موافق، قال عيسى بن يونس (ت187هـ): «الحسن بن عمارة شيخ صالح، قال فيه شعبة ـ أي: تكلَّم فيه شعبة ـ وأعانه عليه سفيان».

ولذلك كان الحسن بن عمارة يقول: «الناس كلهم مني في حلّ ما خلا شعبة» ولكثرة من تابع شعبة على قوله فيه سهُل على الساجي قوله: أجمع أهل الحديث على ترك حديثه!!.

ولكن ينبغي النظر بعين التدبُّر والإنصاف: فهذا جرير بن حازم ـ أحد أجلاء البصرة ورفعائهم ـ، يكشف عن هذا التوارد المؤلم، فقد قال:

ترك شعبة حديث الحسن بن عمارة وتكلم فيه، ثم تكلم الناس فيه بعدُ (2)

وجريرٌ هذا وحماد بن زيد ـ الذي كان ينظَّر بالثوري والأوزاعي ومالك ـ كانا يعتبان على شعبة بسبب كلامه في الحسن هذا، ومعهما معاذ ابن معاذ العنبري، وهو من الجلالة بمكان رفيع، حتى قال أحمد: إليه المنتهى في التثبُّت بالبصرة، وهو من الرواة عن شعبة، وكان له حُظْوة عنده.

وسياق ابن عدي يفيد أن مع الثلاثة عباد بن عباد، فهؤلاء أربعة شافهوا شعبة بالعتب والإنكار عليه: لِمَ يتكلم في الحسن بن عمارة؟.

لكن قصة إنكار جرير بن حازم وحماد بن زيد جاءت كما يلي، وأنقلها من عند ابن عدي: «قال شعبة: ألا تعجبون من جرير بن حازم هذا المجنون! أتاني هو وحماد بن زيد فكلَّماني أن أكفَّ عن ذكر الحسن بن عمارة: أنا أكفُّ عن ذكره؟! لا والله لا أكفُّ عن ذكره...».

فالطابع العام للقصة: حرص الإمام شعبة جزاه الله خيراً على الذبّ عن السنة، وشدّته في الله تعالى، وفي كشفه عن الكذابين، وما إلى ذلك،

وهذا ما يجعل الكاتبين في هذا الشأن يسارعون إلى حكاية هذا الخبر ونحوه، وإلى إشاعته، ويغيَّب بعد ذلك ما وراءه!.

ولكن ينبغي النظر بعين أخرى: إلى موقف جرير وحماد، وهما من هما: أنهما ما كانا موافقين لشعبة في هذا الموقف بعينه، أما من حيث الجملة فدفاع شعبة، وندبه نفسَه لخدمة السنة، والدفاع عنها، و...، فهذا أمر لا ينكر أبدا.

وشعبة: هو الذي كان يأتي جرير بن حازم ليسأله عن حديث الأعمش، وهو الذي كان يدلّ بعض الرواة على جرير نفسه ليأخذوا عنه، فقوله عنه هنا «هذا المجنون» إنما هو من بابةِ ما كان يسميه شيخنا العلامة الأجل عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى بـ: غَضَبات المحدثين، لا يقلَّدون فيها.

وقد صرَّح شعبة في عدة نقول بكذب الحسن بن عمارة، ولا يمكن حملُ قوله هذا وتفسيرُه بـ: الخطأ، ذلك أنه صرح في مواقف أخرى بالحكم عليه بالوضع.

وكيف يكون هذا، ثم إنا نرى شعبة نفسه! يروي عن الحسن نفسه، عن الحكم بن عتيبة الذي كان يتهمه بالكذب عليه!

فقد روى ابن عدي(3) عن غندر قال: «كان شعبة يقع في الحسن بن عمارة، ثم حدث عنه، قال: حدثنا شعبة، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مجاهد في قوله تعالى: ﴿هَلۡ تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِيّٗا﴾ [مريم: 65] قال: شبيهاً».

ولذلك قال ابن عدي آخر ترجمة الحسن:

«روى عنه الأئمة من الناس، كما ذكرته: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وابن إسحاق، وجرير، وقد حدَّث حماد بن زيد وجرير عنه، وشعبةُ مع إنكاره عليه أحاديثَ الحكمِ: فقد روى عنه كما ذكرته».

وروى العقيلي، وابن عدي(4)، من طريق الطيالسي، عن شعبة قصة إنكار شعبة على الحسن بن عمارة، ورواها عن الطيالسي رجلان: محمد بن عبد الله المخرِّمي، ومحمود بن غيلان، وبينهما اختلافٌ بعضُه مهم، نبَّه إليه الرامهرمزي في «المحدث الفاصل»، ثم قال متعقِّباً استدلال شعبة على كذب الحسن بن عمارة بما استدلَّ به، فقال(5): «وليس يُستدل على تكذيب الحسن ابن عمارة من الطريق الذي استدل به أبو بسطام ـ شعبة ـ، لأنه استفتى الحكم ـ ابن عتيبة ـ في المسألتين، فأفتاه الحكم بما عنده، وهو أحد فقهاء الكوفة زمن حماد ـ ابن أبي سليمان ـ، فلما قال له أبو بسطام: عمَّن؟

أمكن أن يكون يظنّ أنه يقول: مَن الذي يقوله من فقهاء الأمصار، فقال في إحداهما: هو قول إبراهيم، وفي الأخرى: هو قول الحسن بن عمارة.

وليس يلزم المفتيَ أن يفتي بجميع ما روى، ولا يلزمه أيضاً أن يترك رواية ما لا يفتي به، وعلى هذا مذهب جميع فقهاء الأمصار».

ولما كان من مذهب الخطيب البغدادي اشتراطُ تفسير جرح الراوي ليكون مقبولاً، وأراد أن يبرهن على صحة اختياره، بوَّب في «الكفاية» بقوله:

«باب ذكر بعض أخبار من استُفْسِر في الجرح، فذكر ما لا يُسقط العدالة»، وجاء بأخبار كثيرة عن شعبة في هذا الصدد، ومنها هذا الخبر (6)، وخلاصته: أن الحكم بن عتيبة لم يحدث عن يحيى بن الجزار إلا ثلاثة أحاديث، مع أن الحسن يروي عن الحكم عن يحيى بن الجزار أحاديث كثيرة! ولما سئل الحسن بن عمارة عن ذلك قال: إن الحكم أعطاني حديثه عن يحيى في كتابٍ لأحفظه فحفظته.

وأسند ابن عدي ـ وعنه الذهبي في « الميزان »(7) ـ إلى روّاد بن الجراح العسقلاني قال: «كان الحسن بن عمارة رجلاً موسراً، وكان الحكم بن عتيبة مُقِلاً، فضمه الحسن بن عمارة إلى نفسه وأجرى عليه الرزق، فصار الحسن من خاصة الحكم، فكان يحدثه ولا يمنعه شيئاً عنده، فحدّثه بقريب من عشرة آلاف قضية عن شريح وغيره، وسمع شعبةُ من الحكم شيئاً يسيراً، فلما توفي الحكم قال شعبة للحسن: مِن رأيك أن تحدِّث عن الحكم بكل شيء سمعتَه؟ فقال له الحسن: نعم، ما أكتم شيئاً سمعتُه، قال: قال شعبة: من أراد أن ينظر إلى أكذب الناس فلينظر إلى الحسن بن عمارة، وقَبِل الناس من شعبة وتركوا الحسن. هذا أو نحوه.

«وقال روّاد: دخلت أنا وشعبة على الحسن بن عمارة نعوده في مرضه الذي مات فيه، قال: فدار شعبة فجلس من وراء الحسن من حيثُ لا يراه الحسن، قال: فجعل الحسن يقول: الناس كلهم في حِلّ ما خلا شعبة، ويومئ إليه» انتهى.

ثم أسند ابن عدي هذه الكلمة من وجه آخر إلى الحسن بن عمارة.

وانظر بعد هذا إلى تألُّم جرير بن عبد الحميد الضبي إذ يقول:

«ما ظننت أني أعيش إلى دهر يُحدَّث فيه عن محمد بن إسحاق، ويُسكتُ فيه عن الحسن بن عمارة!». يريد: لا يُروى فيه عن الحسن بن عمارة، فهو أجلُّ عنده من محمد بن إسحاق بدرجات، وحالُ ابن إسحاق وما استقر عليه أمره من حيث القبولُ معلومة.

وعلى ذكر ابن إسحاق أقول: إن إمامة ابن إسحاق لا تخفى فيما هو بسبيله، وقد وقفت على خبر رواه ابن إسحاق ـ وعنه ابن هشام في «سيرته»(8)، وابن بكير، كما في رواية البيهقي للخبر في «سننه»(9) ـ يقول ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم، عن مقسم، عن ابن عباس، يريد به ابنُ إسحاق: الحسنَ بن عمارة، كما ظنه السهيلي(10) في «الروض الأُنُف»، وأكّده الزيلعي في «نصب الراية»(11).

فابن إسحاق يقول: إنه لا يتهم الحسن بن عمارة بما يتهمه به الآخرون، هذا أمر، والأمر الثاني: أنه أبهم ذكره لئلا يردَّ خبره من يتأثر بالرأي العام ولا يتثبَّت، فهذا الموقف من ابن إسحاق دليل رضاه بالحسن بن عمارة، ودليل إنكاره لما عليه شعبة والثوري ومن تابعهما، والله أعلم.

وما أعدل ما حكاه البخاري في «تاريخه الكبير»(12) عن عبد الله بن محمد ـ وأظنه أبا بكر بن أبي شيبة، بل: هو هو ـ قال: «قيل لابن عيينة: أكان الحسن بن عمارة يحفظ؟ فقال: كان له فضل، وغيره أحفظ منه».

وعَرَض الإمام السهيلي في «الروض الأُنُف»(13) مرتين للحسن بن عمارة فقال: هو ضعيف بإجماع منهم، وقال(14): نحوه، فعلَّق عليه مغلطاي في «الزهر الباسم»(15) بقوله: «فيه نظر، لِمَا ذكره الحاكم ـ في «تاريخ نيسابور» ـ عن يزيد بن هارون: كان ـ والله ـ خيرًا من شعبة، لو أني وجدتُ أعوانًا لأسقطتُ شعبة، يعني: لكلامه في ابن عُمارة.

وخرج الحاكم حديثه في «مستدركه»(16)، وقال عيسى بن يونس: شيخ صالح، ولما غَمز الثوري الحسن قال له أيوب بن سويد الرملي: يا أبا عبد الله هو عندي خير منك، جلستُ إليه غير مرة، فما ذكرك إلا بخير. قال أيوب: فما سمعت سفيان ذكره بعد ذلك إلا بخير.

ـ ثم ذكر كلمة جرير بن عبد الحميد المتقدمة ـ، وزاد: «قال: ورأيت شعبة في النوم كارهًا لِمَا قال في الحسن، وقال الفلاس: صدوق صالح كثير الخطأ والوهم، قال ابن عدي(17): ما أقرب قصتَه إلى ما قال الفلاس».

ومع ذلك: فينظر ما قاله مغلطاي نفسه في «التراجم الساقطة من كتاب إكمال تهذيب الكمال» ص102 فما بعدها. انتهى، ص: 11ـ 16.

(1) «ضعفاء» العقيلي 1: 238.

(2) «ضعفاء» العقيلي 1: 238.

(3) «الكامل» 2: 701.

(4) «الضعفاء» 1 (286)، و«الكامل» 3: 80.

(5) ص320 ـ 322.

(6) «الكفاية» ص112.

(7) «الكامل» 3: 82، و«الميزان» (1831).

(8) ‏3‏: 97.

(9) (6889).

(10) 3: 178.

(11) (2460).

(12) 2 (2549).

(13) ‏1: 253‏.

(14) ‏3: 178.

(15) ‏‏1: 513.

(16) ‏(2118، 5200)‏.

(17) الكامل: 3: 96.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين