فوائد واختيارات من كتاب رجال من التاريخ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فهذه فوائد ومختارات من كتاب "رجال من التاريخ" لعلي الطنطاوي، المنشور عن دار المنارة- جدة، ط8- 1411هـ.

1- الجندي المسلم:

إنه المثل الأعلى في الجندية في كل مكان وكل زمان، كان يقاتل وهو جائع، ويقاتل وهو تعبان، ويقاتل وهو مُثْخَن، ويقاتل وهو مريض، قاتل في الصحاري المتوقدة في المناطق الحارة، قاتل على السفوح المغطاة بالثلج في المناطق الباردة، وقاتل في آسيا وفي أوروبا وفي إفريقية، وقاتل في البر، وقاتل في البحر، وكان الشاب يقاتل، والشيخ يقاتل، والمرأة تقاتل.

وزرع شهداءه في كل أرض، وسقى بدمه كل ميدان، حتى نشر راية القرآن على ثلث المعمور من العالم في ثلث قرن، وما قاتل قط إلا فئة أكثرَ عددا، وأكمل عُدَدا، وما قاتل إلا انتصر، وما قاتل إلا دفاعا عن الحق والخير والمثل الأعلى. ص56.

2- المذاهب الفقهية:

المذهب الحنفي اليومَ أوسعُ المذاهب انتشارا، وأوسعها فروعا وأقوالا، وهو أنفع المذاهب في استنباط القوانين الجديدة والاجتهادات القضائية، يليه في كثرة الفروع المذهب المالكي، وقد عرفت ذلك في السنين التي اشتغلت فيها بوضع مشروع قانون الأحوال الشخصية، وسبب ذلك أن المذهب الحنفي صار مذهب دولة طول مدة العباسيين والعثمانيين، وهي ثلاثة أرباع التاريخ الإسلامي، والمالكي مذهب المغرب طول هذه المدة، فكثرت فيهما الفروع والمناقشات، أما المذهب الشافعي فلم يكن مذهبا رسميا إلا حقبة صغيرة أيام الأيوبيين، بينما اقتصر المذهب الحنبلي على نجد والحجاز اليوم. ص114-115.

3- رحلة الملوك في طلب العلم:

بلغ من حبه العلم أن رحل هو وولداه الأمين والمأمون لطلب العلم وقراءة الموطأ على مالك من بغداد إلى المدينة، كما يرحل الطلاب الـمُوْفَدون اليوم، وهذا لم يسمع عن ملك في الشرق والغرب إلا عن صلاح الدين الأيوبي لما رحل إلى الإسكندرية لسماع الحديث، قال السيوطي: ولا أعرف لهما ثالثا. ص123.

4- الحضارة بين الشرق والغرب:

الدهر دولاب، والأيام دول، والتاريخ شاهدُ ما نقول: بدأت الحضارة من الشرق؛ من مصر والعراق والشام، ثم انتقلت إلى الغرب؛ إلى يونان ورومة، ثم عادت إلى الشرق؛ إلى دمشق وبغداد والقاهرة، ثم رجعت إلى الغرب؛ إلى باريس ولندن وواشنطن، وها هي ذي بدأت تعود إلى الشرق. ص155.

5- قصيدة عظيمة:

قال الشيخ في قصيدة أبي تمام في رثاء محمد بن حُميد الطُّوسي: لم يقل شاعر في الرثاء مثلها. ص163.

قلت: ومحمد بن حميد هذا أحد القادة الأبطال الشجعان، قتل زمنَ الخليفة العباسي المأمون في حربه وقتاله لبابَك الخُرَّمي، ومطلع القصيدة:

كذا فلْيجِلَّ الخطبُ وليَفْدحِ الأمرُ فليس لعين لم يَفِض ماؤها عذرُ

6- حياة الفنون وموتها:

والفنون كلها تموت يا سادة إن أكرهتها على الحياة في جو التكلف، التكلف في التفكير أو التعبير. إن الفنون لا تحيا إلا في الانطلاق والحرية.

كل الفنون: الكتابة والشعر والتصوير والموسيقى، حتى الإلقاء، فليفهم ذلك من يظن أن الإلقاء الجيد هو التشدق والتقعر، وإمالة اللسان، وقلب الحناجر، وضخامة الأصوات.. وما نسمعه كل يوم في الإذاعات. ص166.

7- العواطف البشرية:

وإنها لتختلف الألسنة والألوان، وتتبدل المذاهب والأديان، وتتباعد المنازل والبلدان، ولكنَّ شيئا واحدا لا يختلف بين نفس ونفس، ولا يتبدل بتبدل الأعصار والأمصار؛ هو العواطف البشرية. إن أناشيد المجنون لليلى أناشيد كل عاشق أينما كان، وقصة "بول وفرجينى" قصة كل شاب مغرم في كل زمان، وخطب "فيخته" هي خطب كل أمة قد هبت تبني المجد، وتعمل للحياة. ص166.

8- الأدب والعلوم:

إن الأدب قد بلغ سن الرشد وحد الكمال من قبل أن يولد العلم، وقد عاش البشر دهورا بلا علم، ولكنهم لم يعيشوا يوما بلا أدب، إن آدم قال لحواء كلمة الحب، لم يحدثها في الكيمياء، ولا حل معها مسائل الجبر في رياض الجنة. والحب أول كلمة في سجل الأدب. ص167.

9- من شعر الشريف الرَّضي:

خذي نفَسي يا ريح من جانب الحِمى فـــــــــــــــلاقِي بها ليلا نسيــــــــم ربى نَجد

فإن بــــــــــــــــــــــــــــــذاك الحي إِلْــــــــــفا عهدتــــــــــــــــه وبالرُّغم مني أن يطول به عـــهدي

ص179.

10- السلطان الشهيد نور الدين زنكي:

وأشهد أني قرأت تواريخ عظماء الشرق والغرب فما رأيت بعد الصحابة مثله، وشهد هذه الشهادة من قبلُ المؤرخ ابن الأثير. ص186.

11- السيرة العجيبة:

لقد قرأت سيرة صلاح الدين مرارا، ولكني عدت أنظر فيها قبل أن أكتب هذا الفصل، فقرأت في سيرته وحروبه أكثر من ألف صفحة، فكان من أعجب ما وجدت أن ينبغ هذا الرجل العظيم جدا، في ذلك الزمان الفاسد جدا، وأن يتغلب على العدو القوي جدا. ص191-192.

12- الجيش العظيم:

أنا لا أعرف في كل ما قرأت من كتب التاريخ -وأظن أني قرأت تاريخ الشرق والغرب- جيشا خاض من المعارك أكثر مما خاضه جيش صلاح الدين، لقد ضرب كل رقم قياسي إلى ذلك العصر، خاض أربعا وسبعين معركة في مدة ولايته على الشام في أقلَّ من تسع عشرة سنة. ص194.

13- الثلاثة الكبار في تاريخنا:

قال الشيخ في سياق الحديث عن الظاهر بيبرس: هو أحد الثلاثة الكبار الذين جاءوا تباعا، فأسس الأول، وشاد الثاني، وأكمل الثالث، فطهروا هذا الجزء من الوطن الإسلامي من أوضار الاستعمار، فأقاموا فيه صرح العزة والمجد، وتركوا في دنيا المكارم والبطولات دَويًّا لا تُخمده العصور: نور الدين، وصلاح الدين، وهذا الثالث الملك الظاهر بيبرس. ص199.

14- عهد المماليك:

لقد كان عهدُ المماليك عهدَ خزي في التاريخ الإسلامي، ولكنه لم يخل من ثلاث مناقب:

الأولى: أنه كان على الغالب عهدَ حكام قادرين، لأن الملك لم يكن إرثا فيهم يرثه الابن من أبيه كما يرث جبته ودابته ووسادته، بل كان للأقوى والأقدر، فلا يصل إليه إلا شجاع قدير، أو سياسي بارع.

والثانية: أن تاريخهم مملوءٌ بالفتوح العظام..

والثالثة: أن جُلَّ الآثار الباقية في مصر والشام هي من عهد المماليك، ولهم آثار كثيرة في الهند وغيرها من البلدان. ص199-200.

15- الفكر الإسلامي بين ابن تيميَّة والغزَّالي:

الفكر الإسلامي من خمسين سنة إلى اليوم مطبوع بطابَع شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكنه بدأ يعود إلى طابَع الغزالي كما كان من قبل، وكلاهما عظيم ولكن الغزالي أعظم في عالم الفكر وعالم البيان، وابن تيمية أقرب إلى الكتاب والسنة وإلى ما كان عليه السلف. ص224-225.

16- الـمُفتي علاء الدين الجَمَالي التركي:

قال الشيخ في ترجمته: كان يحب العزلة فجعل مجلسه في غرفة مطلة على الطريق، وأدلى منها زِنْبيلا (سلَّة) ربطه بحبل، فمن كان له سؤال واستفتاء ألقى سؤاله في الزِّنبيل وحرك الحبل، فأخذه وأجاب عليه وأدلى بالجواب، فعرف بلقب (زنبيلي زاده علي أفندي). ص264.

17- أشهر كتاب عربي:

لو سئلت: ما هو أشهر كتاب عربي؟ لقلت أنه "القاموس" للفَيروزآبادي، فقد بلغ من شهرته أن سمي كل معجم قاموسا، مع أن القاموس اسم لهذا الكتاب وحده، وإلى جنب القاموس في كل خزانة كتابُ شرح القاموس [وهو "تاج العروس" للزبيدي]؛ الكتاب الجليل الذي يزيد في إحاطته وشموله على المعجم العظيم "لسان العرب". ص283.

18- رثاء الشعراء زوجاتِهم:

قال الشيخ في ترجمة المرتضى الزَّبيدي، وذكرِ حزنه على وفاة زوحجته: وقال فيها روائع الشعر، وإذا ألهم الله طالبا من طلاب الأدب فجعل موضوع أطروحة -يقدمها إلى جامعته- (رثاء الشعراء زوجاتهم)، فعد من المتقدمين جريرا، ومن المتأخرين أباظة وصدقي= فلا ينس الزبيدي شارح القاموس. ص288.

19- الترك والبربر:

لم يجد الفاتحون المسلمون في كل من قابلوا من الأمم من هو أقوى ساعدا، وأجرأ قلبا، وأكثر بالحرب تمرسا من الترك في الشرق، والبربر في الغرب، فرمى الله أولئك بقتيبة [بن مسلم]، وهؤلاء بعقبة [بن نافع] ثم بموسى [بن نُصَير]. ص295.

20- الظلم والفجور توأمان:

الظلم والفجور توأمان، ما كان الحاكم قويا قديرا إلا كان عادلا، ولا كان عاجزا قاصرا إلا كان ظالما يستر ضعفه عن الفضيلة بظلم الرعية. ص304.

21- أروع سيرة في تواريخ الأمم:

إن سيرة عبد الرحمن الداخل أروعُ سيرة في تواريخ الأمم للأمل الذي يذيب الصعاب كما تذيب الشمس جبلا من الثلج، والهمة التي تضم المشرق إلى المغرب، والعبقرية التي تنشىء وتشيِّد من العدم وجودا ضخما.

الرجل الطريد الذي استلم إرث أمية ملطخا بالوحْل، مغموسا بالدم، فجعله أسمى من النجم، وأبهى من سنا الشمس، الرجل الذي أنشأ دولة عاشت قرنين ونصف، وأخرجت مثل الناصر والحكَم، وسجد على أعتابها ملوك الإفرنج والروم. ص307.

22- الأمير الشجاع معْن بن زائدة:

قال الشيخ في سياق ترجمته: أما كرمه فكان أعجوبة، ولست أستطيع أن أروي منه إلا قصة واحدة، قصة مشهورة تدلكم على (ديمقراطية) العرب التي كانت فيهم طبعا أصيلا، لا تكلفا ولا دعاية ولا حرب أعصاب.

أراد أعرابي أن يمتحن كرمه وتواضعه، فوقف عليه في مجلسه فقال:

أتذكر إذ لحافُك جلد شاة وإذ نعلاك من جلد البعير

فغضبت الحاشية وهموا به، ولكنَّ معْنا كفهم وقال: أذكر ذلك يا أعرابي ولا أنساه، قال:

فسبحان الذي أعطاك ملكا وعلمك الجلوس على السرير

قال: سبحانه وتعالى، قال:

فلست مسلما ما عشت يوما على معْن بتسليم الأمير

فهاج الحاضرون، ولكنَّ معنا منعهم، وقال: يا أعرابي، السلام سنة، وأنت حُرٌّ أن تسلم على الأمير أو لا تسلم، قال:

سأرحل عن بلاد أنت فيها ولو ضاق الزمان على الفقير

قال: إن جاورتنا فأهلا ومرحبا، وإن رحلت فبالسلامة، قال:

فجد لي يا ابن ناقصة بشيء فإني قد عزمت على المسير

قال: أعطُوه ألف درهم، قال:

قليل ما أتيت به وإني لأطمع منك بالشيء الكثير

قال: زيدوه ألفا، قال:

سألت الله أن يبقيك ذخرا فما لك في البرية من نظير

قال: كم أعطيتموه على هجائه فيَّ؟ قالوا: ألفين، قال: أعطُوه على مدحه ثلاثة.

ثم قال الشيخ: ورثاء الشعراء المراثي الكثيرة، وكان من أجود ما رثي به القصيدة الخالدة التي قالها مروان [بن أبي حفصة]، والتي يقول فيها:

ألـِمَّــــــــــــا على مـــــــــــعن وقـــــــولا لقبـــــــــــــره سقتـــــــــــك الغـــــــــــــوادي مَربـــــعا ثم مَربعا

فيــــــــــا قبرَ معن أنت أول حفـــــــــــــــــــــرة من الأرض خُطَّت للسماحة موضعا

ويا قبر معن كيف واريت جــــــــــــوده وقد كـــــــــــــــان منه البــــــــــــر والبحر مُتْرعا

بلى قد وسعت الجودَ والجودُ ميت ولــــــو كــــــــان حيا ضقت حتى تصدعا

فتًى عيــــــــــــــــــــش في معروفه بعد موته كما كــــــــــــــــــان بــــــعد السيل مجراه مرتعا.

ص357-358.

23- الشعر بين الرجال والنساء:

المجوِّدات في الشعر من النساء أقل من القليل، لا في العربية وحدها، بل في كل ألسنة العالم، والأدب العربي على طوله لم يعرف مئةً من الشاعرات المجودات، على حين قد عرف عشرة آلاف من مجودي الشعراء. ص369.

24- مَرْثية عائشة التيمورية في ابنتها:

لا أعرف في الشعر العربي أحدَّ منها حسا، ولا أظهر عاطفة ولا أبلغ في إثارة الأسى، وهي في هذا -لا في جودة السبك وروعة البيان- تفوق ما قالت الخنساء في أخيها، وما قال ابن الرومي في ابنه، وتفوق قصيدة التِّهامي المشهورة في ولده. ص371.

25- الشيخ طاهر الجزائري:

لم آسف على فوات لقائي برجل من رجال هذا العصر كما أسفت على أني لم ألق الشيخ طاهرًا الجزائري، وأن كل حظي من قربه أني شيعت جنازته، ولقد عرفت رجالا، وسمعت برجال كانوا أعلم علما، وكانوا آدب أدبا، وكانوا أكتب، وكانوا أخطب، وكانوا أعظم جاها، وأضخم اسما، وأبعد ذكرا من الشيخ طاهر، ولكنَّ للشيخ طاهر مزيةً لم يكن مثلُها -فيما أعلم- لواحد منهم -اللهم إلا جمال الدين الأفغاني؛ الذي كان صوتُه أول صوت أهاب بالقافلة النائمة أن تستيقظ وتعاود المسير- وسرا في نشأته وفي خلُقه؛ هو أنه كان يترك أثرا من الخير أينما حل. ص375-376.

ثم قال الشيخ في آخر ترجمته: كان من المؤلفين المكثرين إن عُد المؤلفون المكثرون، وكان من أئمة المربين إن ذكر المربون، وكان من رؤوس المصلحين ومن العلماء العاملين، وكان من الأركان الكبار في هذه النهضة التي نأوي اليوم إليها، ونتفيأ ظلالها، ونَنعَم بخيراتها. ص380.

26- من أخبار الشيخ الإمام بدر الدين الحَسَني:

- رجل عاش ثمانين سنة بالعلم وللعلم، ما جرى فيها بغير العلم لسانه إلا أن تكون كلمة لا بد منها.. ما ترك الدرس قطُّ ولا يوم وفاته، وما تركه إلا ساعة احتضاره، الرجل الذي لبث ثمانين سنة ما مس جنبُه الأرض، وما اضطجع إلا في مرض الموت، ما مرض قبل ذلك قط، وما نام كما ينام الناس، بل كان يجلس في الليل ليقرأ فإذا غلبه النعاس اتكأ برأسه على وسائد أعدت له فأغْفى ساعتين أو ثلاثا من الليل متقطعات ومن النهار ساعة. ص381.

- وكان والعلماء في دمشق متوافرون، وأهل الاختصاص كثيرون= يعد الإمام المرجع في كل فن: في اللغة وغريبها، وفي الصرف وفي النحو، وفي فقه المذاهب الأربعة المدونة، والمذاهب التي لم تدون؛ مذاهب الصحابة والتابعين والأئمة من أمثال الأوزاعي والليث والظاهري والطبري، وفي البلاغة، وفي الحديث رواية ودراية، وفي معرفة الرجال والأسانيد، وفي الكلام والفلسفة والأخبار. ص382.

- كان درسه في الأُموي أعجوبة؛ من رآها ووعاها فقد رأى إحدى عجائب الزمان، وكان كمجالس الإملاء الأولى التي كانت الدعائم الكبرى في صرح تاريخنا العلمي، وإذا كان السيوطي قد قال إنه آخر من أملى في اللغة والحديث، فقد قال ذلك لأنه لم يدرك الشيخ بدر الدين وكم ترك الأول للآخر. وأعرف مَن كتب من هذا الدرس عشر مجلدات ضخام، وفيه يبدو علم الشيخ وهذه الذاكرة التي لا تـمُنُّ بمثلها الدنيا مرة كلَّ مائة سنة، فكان يأخذ حديثا كيفما جاء، فيذكر طرقه كلها، ويعرِّف بالرواة جميعهم، ثم يشرحه لغة ونحوا وبلاغة شرح إمام من الأئمة الأولين، فكل كلمة بشاهدها، وكل شاهد بتفسيره، ثم يذكر تعليقات المحدثين بأسانيدها ومصادرها، ثم يذكر ما أخذ منه الفقهاء، وما اختلفوا فيه، وأدلةَ كلٍّ، منهم ثم يوازن بينها ويرجح راجحها من انتهاء الصلاة إلى أذان العصر، ما يقف ولا يتلعثم ولا يعيد كلمة ولا يقطع جملة كأنما يقرأ من كتاب مفتوح. ص383.

- كان علمه عجيبا، وكانت سيرته أعجبَ من علمه، عاش أكثر من ثمانين سنة، وما عاش في الحقيقة إلا يوما واحدا أعيد ثلاثين ألف مرة، فكان في ثباته واستقامته مثلا مفردا. ص383.

- وهو ابن نفسه، شيخه كتابه، ما عُرف عنه أن قرأ إلا على الشيخ أبي الخير الخطيب، أخذ عنه مبادئ العلوم ثم اشتغل وحده وأقبل على المطالعة، ما ترك النظر في الكتب ساعة من نهار عمره كله، وما ترك الإقراء قط، ولقد كان موعدُ درس من دروسه قبل وفاته بساعتين، فلما رأى الطلبة ما به هموا بالرجوع فأشار لهم أن يقرؤوا وهو يستمع. ص384.

27- الشيخ الكافي التونسي:

كان يؤلف الكتب ويطبعها على نفقته ويوزعها، ألف أولا "الأجوبة الكافية على الأسئلة الشامية".. ثم ألف "المسائل الكافية"، وكان ينكر دوران الأرض ويكفِّر من يقول به، حتى كفر الشيخ محمد عبده، والسيد رشيد رضا. وما صدر هنا من بضع سنين من كتابات حول هذا الموضوع كثير منه مأخوذ مما كتب الشيخ الكافي، منقول عنه نقلا حرفيا تقريبا. ص425.

28- العلم والشهادات:

لما وضعنا نظام قسم الدراسات العليا في كلية الشريعة في مكة أصر نفر منا على اعتبار الشهادة هي المقياس الذي لا يعتبر غيره، فلا يكون مدرسا فيها إلا من هو دكتور، وعارضت أنا، وقلت لمعالي الوزير العالم ابن العلماء الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ: لو بعث الله جدك الشيخ محمد بن عبد الوهاب هل كنت تستطيع أن تجعله مدرسا؟ بل لو جاء أحمد بن حنبل وهو لا يحمل شهادة، هل كنت تملك أن تجعله معلما في مدرسة متوسطة؟ إن الله الذي أبلغ ابن عبد الوهاب وابن حنبل ما بلغاه بلا شهادة قادر على أن يُبلغ ذلك غيرهما، وأول من حمل شهادة الدكتوراة في الدنيا من منحه إياها؟ إن قلنا إنه دكتور دخلنا في باب المحال، أي في الدور والتسلسل، فلم يبق إلا أن نقر بالواقع؛ وهو أن أول من منح الشهادة كان رجلا لا يملك شهادة، فالشهادة شرط لا ألغيه، ولكن لا أجعل المعول كله عليه. ص436.

29- بين العلم والبيان:

.. وكذلك ترى أحيانا بلغاء أبيناء إذا كتبوا أورق القلم في أيديهم وهو قطعة من خشب أو حديد، وأثمر ما لا تثمر مثله الحدائق الغنَّاء والبساتين الفيحاء، وإذا خطبوا جعلوا أعواد المنابر شموعا تضيء بلا نار، وكهرباء تمشي في الأعصاب الباردة بلا أسلاك، فتوقظ النائم وتقيم القاعد، وتجعل الأعصاب الباردة برد الثلج تغلي غليان ماء الشاي، وتحوِّل مادِرًا (من كان مثلا مضروبا في البخل) إلى حاتمٍ الذي كان رمز الكرم، ولكنه -مع هذه الفصاحة كلها وهذا البيان كله- فارغُ الرأس من العلم.

وتجد العالم المفكر الذي وسِع رأسُه ما أنتجت رؤوس العلماء، وما اشتملت عليه كتبهم، تجده عييًّا إذا قال أو خطب، ركيكا أسلوبُه إذا ألف أو كتب، كأن الله الذي لم يجعل هذه الدنيا دار كمال، لم يؤت الكمال فيها أحدا غير الأنبياء. ص442.

30- وصح السقيمُ فلم يذهبِ:

وكم منجب في تلقي الدروس تلقي الحياة فلم ينجب

وصار إلى الفاقة ابن الغني ولاقى الغنى ولد المترب

وقد ذهب الممتلي صحة وصح السقيم فلم يذهب

ص476.

31- من شعراء دمشق:

كنا نعد الشعراء الكبار في دمشق أربعة؛ هم: خير الدين الزركلي، ومحمد البزم، وخليل مردم بك، وشفيق جبري.. وكان شعراء الشباب من رفاقنا أربعة [أنور العطار، وجميل سلطان، وزكي المحاسني، وأبو سلمى عبد الكريم الكرمي]، وهم الذين كرمهم الأستاذ كرد علي رحمة الله عليه وعليهم (خليفةُ الشيخ طاهر الجزائري في تشجيع الناشئين، والأخذ بأيدي المبتدئين)، وكان أنور العطار أشعرهم، إن لم يكن أوسعهم أفقا، وأكثرهم تنويعا، فهو أجودهم ديباجة، وأحلاهم أسلوبا، وأحسَب أنه سيكون أبقاهم ذكرا. ص484.

تمت بحمد الله

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين