ضرورة التثبت في النقولات العلمية

قال شيخنا العلامة المحقق المحدث محمد عوامة ـ حفظه الله ورعاه ـ

في جزئه اللطيف " التحذيرُ من التَّواردِ على قول دون الرُّجوعِ إلى مصادرهِ":

ومما يتصل بالتحذير من التوارد الذي أدعو إليه: ضرورة التثبت من النقول التي يقف عليها طالب العلم في كلام أئمتنا رضي الله عنهم، سواء أكان النقل تخريجَ حديث، أم عزوَ قول في جرح أو تعديل، أم إحالةَ نقلٍ عن قائل، إذا كان هذا التثبت في وسعي.

ومنذ أكثر من أربعين سنة كنت أقول لإخواني الطلبة في بلدي الأول: حلب: لو قال قائل: إن الحافظ ابن حجر هو أعرف بما في «صحيح» البخاري من الإمام البخاري نفسه لما كان مجازفاً، ومع ذلك:

1 ـ فقد روى البخاري في «صحيحه»(1) من طريق ابن المبارك، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: «إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربَّنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟..».

ولما شرحه الحافظ قال رحمه الله(2): «قوله «وسعديك»: زاد سعيد بن داود، وعبد ’العزيز بن يحيى كلاهما عن مالك، عند الدارقطني في «الغرائب»: والخيرُ في يديك».

وهذا من عَجَب العَجَب، ذلك أن هذه الزيادة هي عند البخاري نفسه(3) من رواية عبد’الله بن وهب، عن مالك!.

ومثال آخر نحو هذا.

ذكر الحافظ رحمه الله في «الدراية» طرفاً من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يُصَوِّب رأسه ولا يُقْنعه»، وعزاه إلى البخاري، تبعاً للزيلعي في «نصب الراية»، والواقع أنه ليس فيه هذا اللفظ، نعم، لأبي حميد حديث في البخاري، لكن ليس فيه هذا(4). والله أعلم.

2 ـ وأعجب من هذا! نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما قولُه: «ما بَعَث الله نبياً قطُّ إلا أَخذ عليه العهد لئن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرنَّه..».

وقد عزا رواية هذا القولِ إلى البخاري: ابن كثير في «تاريخه»(5) ـ أو «السيرة النبوية» المفردة منه ـ، والزركشي في «شرح البردة»(6)، والحافظ في «الفتح»(7)! فهؤلاء ثلاثة حفاظ، وثلاثتهم من شراح البخاري، وتواردوا على عزو هذا القول إلى البخاري، وليس فيه.

والفضل في التنبيه إلى هذه الفائدة يعود إلى الحافظ الإمام الموسوعي الصالحي رحمه الله تعالى في سيرته «سُبُل الهدى والرشاد»(8)، ونقلها عنه الإمام الزرقاني في «شرح المواهب»(9).

فلا بدّ من مراجعة الأصول والتثبت مما يُعزى إليها، وإلا فمن يقوى على مخالفة ابن حجر فيما ينسبه إلى «صحيح» البخاري؟!، فكيف ومعه إمامان آخران حافظان ذوا صلة وثيقة بالصحيح أيضاً؟!.

3 ـ وتنبيه ثالث، وهو قريب من هذين، وليس مثلَهما: أن البخاري قال في «صحيحه»(10): «وقال ابن وهب: أخبرني يونس..»، فقال الحافظ: «سيأتي للمصنِّف موصولاً من وجه آخر عن ابن وهب..».

قلت: نعم سيأتي موصولاً عنده(11)، لكن من غير طريق ابن وهب أبداً، ولم يعرض لهذا في «تغليق التعليق»، ولا في «مقدمة الفتح»(12).

4 ـ وتنبيه رابع، قال ابن كثير رحمه الله في آخر سطر من مقدمة «تفسيره» قبل البدء بتفسير سورة الفاتحة: «قال أبو عمرو الداني: لا أعلم كلمة هي وحدَها آية إلا قوله: ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾ [الرحمن: 64]، في سورة الرحمن»، فرأيت أن هذا عَجَب يماثل العجبَ مما قدّمته عن الحافظ ابن حجر مع «صحيح البخاري»، بل هو أشدّ، فإمامة أبي عمرو الداني فيما يتصل بالقرآن العظيم لا تقلّ عن إمامة ابن حجر فيما يتصل بكتاب البخاري! وأين هو من الآية الأولى من السورة نفسها:﴿الرَّحْمَنُ﴾ [الرحمن: 1]!، فضلاً عن قوله تعالى: ﴿الْحَاقَّةُ﴾ [الحاقة: 1]، ﴿الْقَارِعَةُ﴾ [القارعة: 1]، يضاف إليها الكلمات التي معها واو القسم: ﴿وَالْفَجْرِ﴾ [الفجر: 1]، ﴿وَالضُّحَى﴾ [الضحى: 1]، ﴿وَالْعَصْرِ﴾ [العصر: 1].

فسألت الأخ الكريم المقرئ المتقن فضيلة الشيخ محمد تميم الزُّعْبي حفظه الله تعالى: هل للإمام الداني كتاب في عدّ آي القرآن الكريم؟ فقال: نعم، له كتاب «البيان في عدّ آي القرآن»، فذكرت له كلام ابن كثير، فأجابني بعد قليل: إنه نظر في كتاب الإمام الداني، فرآه في ص126 قد عَرَض لما نقله عنه ابن كثير، وفيه ذِكر ما جاء في فواتح السوَر مما هو كلمة واحدة، ثم قال: «فأما في حَشْوهنّ ـ أي: أثناء السور ـ فلا أعلم كلمة هي وحدَها آية في ذلك إلا قوله تعالى: ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾ [الرحمن: 64] لا غير»، فأفاد أن نفيه مقيَّد بما هو أثناء السور لا في فواتحها، وليس في كلام ابن كثير هذا القيد، فعرَّض الإمامَ الدانيَّ للمؤاخذة.

ومثل ما في كلام ابن كثير من المؤاخذة، ما جاء في كلام القرطبي في أول «تفسيره»(13)، وكأن ابن كثير أخذ كلام القرطبي، فراجعِ النقول دائماً من مواردها، والله هو المستعان، وهو الموفق(14). انتهى، ص: 25 ـ 28.

(1) (6549).

(2) «الفتح» 11: 422.

(3) تحت رقم (7518).

(4) «الدراية» 1: 239، «نصب الراية» 1: 375 (1206) بترقيمي، البخاري (828).

(5) «البداية» 3: 537، أو «السيرة» 1: 287.

(6) صفحة 161 ولفظه: «روى البخاري في الصحيح».

(7) 6: 434 في شرح الباب 27 من كتاب أحاديث الأنبياء.

(8) 1: 109.

(9) 1: 40.

(10) (3434).

(11) برقم (5082، 5365).

(12) «تغليق التعليق» 4: 35، و«المقدمة» ص49.

(13) 1: 67.

(14) ومما يتصل بالتوارد وقد درج عليه الكثيرون: إهمال توثيق ابن حبان: وكنت أرى اعتماد توثيقه إذا لم يُقابَل بجرحٍ من قِبَل غيره، أما إذا جُرح من قِبَل غيره بنصّ صريح في الجرح: فلا، فإن كان الجرح بالجهالة، بأنْ ذكره ابن حبان في «الثقات»، وقال فيه أبو حاتم وغيره: مجهول، فلا أعتدّ بهذه الجهالة، بل أقدَّم عليها قول ابن حبان.

وقد أفردت هذا المبحث بالكتابة، وطبعته في مقدمة «مصنف» ابن أبي شيبة، ثم مع «دراسات الكاشف» للإمام الذهبي، ثم أفردته بالطباعة مع زيادات عليه بعنوان: «لمحات في بيان مذهب ابن حبان في معرفة الثقات»، ورأيت إفراده بالطبع ضمن هذه السلسلة، فطبعته، والحمد لله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين