رجال ومواقف : أبو خيثمة وغزوة تبوك

أقبلت غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة، لتكون امتحاناً جديداً للمسلمين.. صبرِهم وبلائِهم، سمعهم ونشاطهم، إيثارهم واحتمالهم. أقبلت في فصل الصيف الحار المرهق.. حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين للخروج من المدينة المنورة لغزو الروم في تبوك.

الزمن هو الصيف، حيث تنصب الشمس على رمال الطريق ليكون شيئاً أشبه بالفرن المتّقد.. والطريق طويل فهو يبلغ (700كم) على الجيش المجاهد الغازي أن يقطعها.. والعدو وهو الروم متجبر متنمر مدل بعدده وعدته.

وفي هذه الصعاب هتف داعي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين في المدينة المنورة أن هيّا إلى الجهاد.. وسارع المسلمون يلبون النداء على الرغم من الحر المتقد، والطريق الطويل، والعدو القوي.

وكانت الثمار في بساتين المدينة المنورة قد طابت، وآن قطافها.. وكانت طيبة ناضجة.. النظر إليها طيب، وطعمها لذيذ.

وكان الناس في مثل هذا الوقت من العام يطيب لهم كثيراً أن يسارعوا إلى بساتينهم يهربون إليها من الحر المتقد والشمس الضاربة، والريح التي تأتي حارة تلفح الوجوه والأجسام.. ففي بساتينهم ماء سائغ، وظل ظليل، وفاكهة طابت وحسُنَت، وآن القطاف.

لكن الناس مع ذلك كله سارعوا إلى اللحاق بجيشه صلى الله عليه وسلم تاركين هذه اللذائذ والمغريات جميعاً؛ ذلك أنهم قد عرفوا أن ما عند الله خير وأبقى.

وفصل الجيش المسلم من المدينة المنورة بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم راحلاً إلى تبوك ترفعه رافعة، وتخفضه خافضة، لا يريد علواً في الأرض ولا فساداً، وإنما يريد نشر الحق، ومحاربة الباطل، وإسعاد الناس بالرسالة الجديدة.. رسالة الإسلام.

وعاد إلى المدينة المنورة بعد أيام قلائل من رحيل الجيش المسلم صحابي كريم هو أبو خيثمة، ذلك أنه كان غائباً عنها منذ هتف الداعي بالخروج حتى كان الرحيل المبارك في سبيل الله عز وجل.

عاد أبو خيثمة ليجد المدينة المنورة تكاد تكون خالية من الرجال، فليس فيها سوى بعض العاجزين المعذورين، وعدد يسير جداً من المؤمنين المتخلفين الفقراء، وقوم آخرون ممن عُرِفوا بالنفاق.. أولئك هم الرجال الذين لقيهم أبو خيثمة حين عاد من سفره إلى المدينة المنورة بعد رحيل الجيش المسلم.

وكانت عودته في وقت شديد الحرارة، ملتهب القيظ.. فعجّل بالذهاب إلى بيته حيث التقى بزوجتيه، وكل منهما في عريش داخل بستانه، وكل منهما قد برّدت له الماء، وهيأت له الطعام، ورشت الماء أمام عريشها، فإذا به يبرد ويطيب ويحلو.

واجتمع للرجل الماء العذب السائغ، والظل الظليل الوارف، والزوجتان الكريمتان، والخضرة الجميلة، والفاكهة الناضجة اللذيذة.. كل ذلك أخذ يدعو أبا خيثمة، وكأنه يقول له: فرصة طيبة فانتهزها، الحر شديد، والتراب كأنه موقد، والحصى كالجمر، وأنت قادم من سفر، والمكان الآن ظليل جميل، والماء بارد، والعريشان طلقان ناشطان، والطعام طيب، والفاكهة ناضرة، والخضرة حلوة المنظر، والزوجتان تحفّان بك تخدمانك كيف تشاء، فاقعد، اقعد ولا تدع هذه النعمة تفلت من يديك.

اقعد يا أبا خيثمة.. فما أنت واللحوق بالجيش المسلم!؟ فالصحراء الآن تنُّور متقد وهّاج، والسفر يشق فيها للجماعة، فكيف لك وأنت راكب منفرد!؟ هب راحلتك شردت منك!.. هب ماءك نفد!.. هب زادك لم يبقَ منه شيء!.. هبك ضللت الطريق!.. فما أنت فاعل في الصحراء وحيداً منفرداً!؟

اقعد يا أبا خيثمة!.. فإن لك من ذلك كله عذراً أي عذر.. ولا تنسَ أنك لم تكن في المدينة ساعة دُعِي المسلمون للخروج فأجابوا.. ولم تكن حاضراً حين خرج الجيش فأنت معذور إذن من جهة أخرى.. وما عليك إذن أن تبقى حيث أنت!؟ كذلك تحدثت النفس، نفس أبي خيثمة، وكذلك وسوس رسول الشيطان.

لكن صوتاً آخر طفق يهتف بعنف وإلحاح في مسمع أبي خيثمة، هو صوت الضمير المؤمن الذي ربّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أتباعه الكرام الأوفياء، طفق يهتف ويقول: لا يا أبا خيثمة! حذار من القعود!.. اخرج في الحال، والحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وجيشه المجاهد.. حذار أن تُؤثِرَ الدنيا على الآخرة!.. حذار من الإخلاد، البدار البدار إلى الخروج!.. فالدنيا رحلة وجيزة مهما طال عمر الإنسان، فلا يغررك ما ترى من ماء وثمر وظل وأهل..

إنك لو تدبرت وأمعنت النظر لعلمت أن حصباء الطريق الملتهبة خير لك من هذين العريشين الباردين، وأن ما تحمله معك في قربتك من ماء قليل خير لك من الماء العذب البارد الذي أعدّته لك زوجتاك.. وأنّ خطوة واحدة تقطعها في الطريق إلى تبوك خير لك من كل ما يلذ لعينك مما في بستانك الذي جئت إليه، وأن ساعة تقضيها على متن راحلتك تحت الشمس المتقدة خير لك من ليالٍ طويلة وأيام كثيرة تقضيها حيث الماء والخضراء والوجه الحسن، وهو ما يدعوك إليه ما في نفسك ونفس كل إنسان من ضعف بشري!.

واستمرت المعركة بين الهاتفين، هاتف الضعف الذي يدعو أبا خيثمة لدخول البستان والاستمتاع بطيبات ما فيه، وهاتف الإيمان الذي يدعوه للاستعلاء على هذا كله، وإيثار الآخرة على الدنيا، واللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وظل أبو خيثمة واقفاً لا يتحرك، ثابتاً لا يريم، كأنه قد سمر إلى الأرض، فما هو بقادر على الدخول أو الخروج.

وطالت المعركة، وامتد الصراع، وأدركتِ الصحابيَّ الكريمَ رحمة من الله تعالى؛ فإذا به ينتصر على نفسه أيما انتصار!.. لقد فضّل الخروج على القعود، والنَّصَب على الراحة، والمشقة على الدعة، والحر اللافح على الهواء البارد.. لقد فضّل الأخرى على الدنيا.

قال أبو خيثمة وهو ينظر إلى زوجتيه وما صنعتا له في حزن ولوم: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مُهيّأ، وامرأة حسناء، في ماله مقيم؟ ما هذا بالنَّصَف!.. والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيِّئا لي زاداً.

لقد انتصر البطل على نفسه، فاستعلى وارتفع، فكان تلميذاً نجيباً وفياً من تلاميذ مدرسة النبوة الطاهرة.. لقد جعله إيمانه الوثيق يُؤثِر احتمال مسؤوليته جندياً مؤمناً في الدولة المسلمة على دواعي القعود والإخلاد..

إن الدولة المسلمة الناشئة تصوغ اليوم بدء حضارة جديدة تُكرِمُ الإنسان، وتُعلي كلمة الحق، وتُذِيع دعاء القرآن، وتحارب الوثنية والخرافة.. وهو عمل شاق ثقيل لا يقوم به إلا الرجال الكرام الأوفياء لما يعتقدون، المثابرون على السير في طريقهم مهما تكن الصعاب.. فكيف ينكص أبو خيثمة عن احتمال مسؤوليته في صياغة أكرم وأشرف وأسعد حضارة عرفها الإنسان!؟

لم يكن أبو خيثمة لينكص، ولم يكن أبو خيثمة ليستبدل الأدنى بالذي هو خير.. وهكذا كان!. حمل سلاحه وزاده وركب راحلته، وانطلق يطوي الطريق اللاحب البعيد صوب غايته الكريمة المثلى.

وذات يوم لاح للمسلمين الغزاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طيف شخص مقبل من بعيد يختفي ويظهر، ويبدو ويغيب، فسارعوا يبلغونه الأمر، فقال عليه الصلاة والسلام: "كن أبا خيثمة!".

وكان الرجل هو أبا خيثمة حقاً، واقترب من رسول الله صلى الله عليه وسلم خاشع الطرف، خافض الرأس، وئيد الخطى، وألقى عليه السلام، واعتذر إليه في صدق وإخلاص، فقبل عذره ودعا له بخير.

رحمك الله يا أبا خيثمة، وأجزل لك الثواب!.. فلقد كنتَ مؤمناً صادقاً، وثيق الإيمان.. ما أروع قولك عن موقفك هذا الكريم!:

ولما رأيت الناس في الدين نافقوا=أتيتُ التي كانت أعفَّ وأكرما

وبايعت باليمنى يدي لمحمد=فلم أكسبِ اثْماً ولم أغشَ محرما

تركت خضيباً في العريش وحرمة=صفايا كراماً بُسْرها قد تحمما

وكنت إذا شك المنافق أسمحت=إلى الدين نفسي شطره حيث يمما(1)

(1) شعر أبي خيثمة، واسمه مالك بن قيس. 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين